أي بالجزاء والحساب في الآخرة ; وقد تقدم في }{ الفاتحة } . و }{ أرأيت }{ بإثبات
الهمزة الثانية ; إذ لا يقال في أرأيت : ريت , ولكن ألف الاستفهام سهلت الهمزة ألفا
; ذكره الزجاج . وفي الكلام حذف ; والمعنى : أرأيت الذي يكذب بالدين : أمصيب هو أم
مخطئ . واختلف فيمن نزل هذا فيه ; فذكر أبو صالح عن ابن عباس قال : نزلت في العاص بن
وائل السهمي ; وقاله الكلبي ومقاتل . وروى الضحاك عنه قال : نزلت في رجل من
المنافقين . وقال السدي : نزلت في الوليد بن المغيرة . وقيل في أبي جهل . الضحاك : في
عمرو بن عائذ . قال ابن جريج : نزلت في أبي سفيان , وكان ينحر في كل أسبوع جزورا ,
فطلب منه يتيم شيئا , فقرعه بعصاه ; فأنزل الله هذه السورة .
يدع }{ أي يدفع , كما قال : { يدعون إلى نار جهنم دعا } [ الطور : 13 ] وقد تقدم
. وقال الضحاك عن ابن عباس : { فذلك الذي يدع اليتيم }{ أي يدفعه عن حقه . قتادة :
يقهره ويظلمه . والمعنى متقارب . وقد تقدم في سورة }{ النساء }{ أنهم كانوا لا يورثون
النساء ولا الصغار , ويقولون : إنما يحوز المال من يطعن بالسنان , ويضرب بالحسام
. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ من ضم يتيما من المسلمين حتى يستغني
فقد وجبت له الجنة ] . وقد مضى هذا المعنى في غير موضع .
أي لا يأمر به , من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء . وهو مثل قوله تعالى في سورة الحاقة :
{ ولا يحض على طعام المسكين } [ الحاقة : 34 ] وقد تقدم . وليس الذم عاما حتى يتناول
من تركه عجزا , ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم , ويقولون : { أنطعم من لو
يشاء الله أطعمه } [ يس : 47 ] , فنزلت هذه الآية فيهم , وتوجه الذم إليهم . فيكون
معنى الكلام : لا يفعلونه إن قدروا , ولا يحثون عليه إن عسروا .
فروى الضحاك عن ابن عباس قال هو المصلي الذي إن صلى لم يرج لها ثوابا , وإن تركها
لم يخش عليها عقابا . وعنه أيضا : الذين يؤخرونها عن أوقاتها . وكذا روى المغيرة عن
إبراهيم , قال : ساهون بإضاعة الوقت . وعن أبي العالية : لا يصلونها لمواقيتها , ولا
يتمون ركوعها ولا سجودها . قلت : ويدل على هذا قوله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف
أضاعوا الصلاة } [ مريم : 59 ] حسب ما تقدم بيانه في سورة }{ مريم }{ عليها السلام
. وروي عن إبراهيم أيضا : أنه الذي إذا سجد قام برأسه هكذا ملتفتا . وقال قطرب : هو
ألا يقرأ ولا يذكر الله . وفي قراءة عبد الله }{ الذين هم عن صلاتهم لاهون } . وقال
سعد بن أبي وقاص : قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فويل للمصلين الذين هم
عن صلاتهم ساهون } - قال - : [ الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها , تهاونا بها ] . وعن
ابن عباس أيضا : هم المنافقون يتركون الصلاة سرا , يصلونها علانية }{ وإذا قاموا إلى
الصلاة قاموا كسالى } [ النساء : 142 ] 000 الآية . ويدل على أنها في المنافقين قوله
: { الذين هم يراءون } , وقال ابن وهب عن مالك . قال ابن عباس : ولو قال في صلاتهم
ساهون لكانت في المؤمنين وقال عطاء : الحمد لله الذي قال }{ عن صلاتهم }{ ولم يقل في
صلاتهم . قال الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين قوله : { عن صلاتهم } , وبين قولك :
في صلاتهم ؟ قلت : معنى }{ عن }{ أنهم ساهون عنها سهو ترك لها , وقلة التفات إليها ,
وذلك فعل المنافقين , أو الفسقة الشطار من المسلمين . ومعنى }{ في }{ أن السهو يعتريهم
فيها , بوسوسة شيطان , أو حديث نفس , وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم . وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته , فضلا عن غيره ; ومن ثم أثبت الفقهاء
باب سجود السهو في كتبهم . قال ابن العربي : لأن السلامة من السهو محال , وقد سها
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته والصحابة : وكل من لا يسهو في صلاته , فذلك
رجل لا يتدبرها , ولا يعقل قراءتها , وإنما همه في أعدادها ; وهذا رجل يأكل القشور
, ويرمي اللب . وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في صلاته إلا لفكرته في أعظم
منها ; اللهم إلا أنه قد يسهو في صلاته من يقبل على وسواس الشيطان إذا قال له :
اذكر كذا , اذكر كذا ; لما لم يكن يذكر , حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى .
أي يري الناس أنه يصلي طاعة وهو يصلي تقية ; كالفاسق , يري أنه يصلي عبادة وهو يصلي
ليقال : إنه يصلي . وحقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة , وأصله طلب المنزلة في
قلوب الناس . وأولها تحسين السمت ; وهو من أجزاء النبوة , ويريد بذلك الجاه والثناء
. وثانيها : الرياء بالثياب القصار والخشنة ; ليأخذ بذلك هيئة الزهد في الدنيا
. وثالثها : الرياء بالقول , بإظهار التسخط على أهل الدنيا ; وإظهار الوعظ والتأسف
على ما يفوت من الخير والطاعة . ورابعها : الرياء بإظهار الصلاة والصدقة , أو بتحسين
الصلاة لأجل رؤية الناس ; وذلك يطول , وهذا دليله ; قاله ابن العربي . قلت : قد
تقدم في سورة }{ النساء وهود وآخر الكهف }{ القول في الرياء وأحكامه وحقيقته بما فيه
كفاية . والحمد لله . ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة ; فمن
حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها , لقوله عليه السلام : [ ولا غمة في فرائض الله ]
لأنها أعلام الإسلام , وشعائر الدين , ولأن تاركها يستحق الذم والمقت ; فوجب إماطة
التهمة بالإظهار , وإن كان تطوعا فحقه أن يخفى ; لأنه لا يلام بتركه ولا تهمة فيه ,
فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا . وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه
الأعين , فتثني عليه بالصلاح . وعن بعضهم أنه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر
فأطالها ; فقال : ما أحسن هذا لو كان في بيتك . وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء
والسمعة . وقد مضى هذا المعنى في سورة }{ البقرة }{ عند قوله تعالى : { إن تبدوا
الصدقات } [ البقرة : 271 ] , وفي غير موضع . والحمد لله على ذلك .
فيه اثنا عشر قولا : الأول : أنه زكاة أموالهم . كذا روى الضحاك عن ابن عباس . وروي
عن علي رضي الله عنه مثل ذلك , وقاله مالك . والمراد به المنافق يمنعها . وقد روى أبو
بكر بن عبد العزيز عن مالك قال : بلغني أن قول الله تعالى : { فويل للمصلين . الذين
هم على صلاتهم ساهون . الذين هم يراءون . ويمنعون الماعون }{ قال : إن المنافق إذا صلى
صلى رياء , وإن فاتته لم يندم عليها , { ويمنعون الماعون }{ الزكاة التي فرض الله
عليهم . قال زيد بن أسلم : لو خفيت لهم الصلاة كما خفيت لهم الزكاة ما صلوا . القول
الثاني : أن }{ الماعون }{ المال , بلسان قريش ; قاله ابن شهاب وسعيد بن المسيب .
وقول ثالث : أنه اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك ; قاله
ابن مسعود , وروي عن ابن عباس أيضا . قال الأعشى : بأجود منه بماعونه إذا ما سماؤهم
لم تغم الرابع : ذكر الزجاج وأبو عبيد والمبرد أن الماعون في الجاهلية كل ما فيه
منفعة , حتى الفأس والقدر والدلو والقداحة , وكل ما فيه منفعة من قليل وكثير ;
وأنشدوا بيت الأعشى . قالوا : والماعون في الإسلام : الطاعة والزكاة ; وأنشدوا قول
الراعي : أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا عرب نرى لله من أموالنا حق
الزكاة منزلا تنزيلا قوم على الإسلام لما يمنعوا ماعونهم ويضيعوا التهليلا يعني
الزكاة . الخامس : أنه العارية ; وروي عن ابن عباس أيضا . السادس : أنه المعروف كله
الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم ; قاله محمد بن كعب والكلبي . السابع : أنه الماء
والكلأ الثامن : الماء وحده . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الماعون : الماء ;
وأنشدني فيه : يمج صبيره الماعون صبا الصبير : السحاب . التاسع : أنه منع الحق ;
قاله عبد الله بن عمر . العاشر : أنه المستغل من منافع الأموال ; مأخوذ من المعن
وهو القليل ; حكاه الطبري وابن عباس . قال قطرب : أصل الماعون من القلة . والمعن :
الشيء القليل ; تقول العرب : ما له سعنة ولا معنة ; أي شيء قليل . فسمى الله تعالى
الزكاة والصدقة ونحوهما من المعروف ماعونا ; لأنه قليل من كثير . ومن الناس من قال :
الماعون : أصله معونة , والألف عوض من الهاء ; حكاه الجوهري . ابن العربي : الماعون
: مفعول من أعان يعين , والعون : هو الإمداد بالقوة والآلات والأسباب الميسرة للأمر
. الحادي عشر : أنه الطاعة والانقياد . حكى الأخفش عن أعرابي فصيح : لو قد نزلنا
لصنعت بناقتك صنيعا تعطيك الماعون ; أي تنقاد لك وتعطيك . قال الراجز : متى تصادفهن
في البرين يخضعن أو يعطين بالماعون وقيل : هو ما لا يحل منعه , كالماء والملح
والنار ; لأن عائشة رضوان الله عليها قالت : قلت يا رسول الله , ما الشيء الذي لا
يحل منعه ؟ قال : [ الماء والنار والملح ] قلت : يا رسول الله هذا الماء , فما بال
النار والملح ؟ فقال : [ يا عائشة من أعطى نارا فكأنما تصدق بجميع ما طبخ بتلك
النار , ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيب به ذلك الملح , ومن سقى شربة من
الماء حيث يوجد الماء , فكأنما أعتق ستين نسمة . ومن سقى شربة من الماء حيث لا يوجد
, فكأنما أحيا نفسا , ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ] . ذكره الثعلبي في
تفسيره , وخرجه ابن ماجه في سننه . وفي إسناده لين ; وهو القول الثاني عشر . الماوردي
: ويحتمل أنه المعونة بما خف فعله وقد ثقله الله . والله أعلم . وقيل لعكرمة مولى
ابن عباس : من منع شيئا من المتاع كان له الويل ؟ فقال : لا , ولكن من جمع ثلاثهن
فله الويل ; يعني : ترك الصلاة , والرياء , والبخل بالماعون . قلت : كونها في
المنافقين أشبه , وبهم أخلق ; لأنهم جمعوا الأوصاف الثلاثة : ترك الصلاة , والرياء
, والبخل بالمال ; قال الله تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون
الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } [ النساء : 142 ] , وقال : { ولا ينفقون إلا وهم
كارهون } .[ التوبة : 54 ] . وهذه أحوالهم ويبعد أن توجد من مسلم محقق , وإن وجد
بعضها فيلحقه جزء من التوبيخ , وذلك في منع الماعون إذا تعين ; كالصلاة إذا تركها
. والله أعلم . إنما يكون منعا قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة . والله أعلم .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer