يَا أَيُّهَا الَّذِينَ سورة المائدة وهي مدنية بإجماع , وروي أنها نزلت منصرف رسول
الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية . وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال : ( يا علي أشعرت أنه نزلت علي سورة
المائدة ونعمت الفائدة ) . قال ابن العربي : هذا حديث موضوع لا يحل لمسلم اعتقاده ;
أما إنا نقول : سورة { المائدة , ونعمت الفائدة { فلا نأثره عن أحد ولكنه كلام حسن
. وقال ابن عطية : وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم . وروي عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال : ( سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها
من أيدي ملائكة العذاب ) . ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع , ومنها ما أنزل عام
الفتح وهو قوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم } [ المائدة : 2 ] الآية . وكل ما
أنزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني , سواء نزل بالمدينة أو
في سفر من الأسفار , وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة . وقال أبو ميسرة : "
المائدة { من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ , وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها ;
وهي : { المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } [ المائدة : 3 ] ,
{ وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام } , { وما علمتم من الجوارح مكلبين } [
المائدة : 4 ] , { وطعام الذين أوتوا الكتاب } [ المائدة : 5 ] { والمحصنات من
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } [ المائدة : 5 ] , وتمام الطهور { إذا قمتم إلى
الصلاة } [ المائدة : 6 ] , { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] , { لا تقتلوا
الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 95 ] إلى قوله : { عزيز ذو انتقام } [ المائدة : 95
] و { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } [ المائدة : 103 ] ,
وقوله تعالى : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } [ المائدة : 106 ] الآية . قلت :
وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله جل وعز : { وإذا ناديتم إلى الصلاة } [ المائدة : 58 ]
ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة , أما ما جاء في سورة { الجمعة }
فمخصوص بالجمعة , وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات , وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قرأ سورة { المائدة { في حجة الوداع وقال : ( يا أيها الناس إن سورة
المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ) ونحوه عن عائشة رضي الله عنها
موقوفا ; قال جبير بن نفير : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت : هل تقرأ سورة }
المائدة { ؟ فقلت : نعم , فقالت : فإنها من آخر ما أنزل الله , فما وجدتم فيها من
حلال فأحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه , وقال الشعبي : لم ينسخ من هذه السورة
إلا قوله : { ولا الشهر الحرام ولا الهدي } [ المائدة : 2 ] الآية , وقال بعضهم :
نسخ منها { أو آخران من غيركم } [ المائدة : 106 ] . قال علقمة : كل ما في القرآن }
يا أيها الذين آمنوا { فهو مدني و { يا أيها الناس } [ النساء : 1 ] فهو مكي ; وهذا
خرج على الأكثر , وقد تقدم , وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة
ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام ; فإنها تضمنت خمسة أحكام : الأول : الأمر بالوفاء
بالعقود ; الثاني : تحليل بهيمة الأنعام ; الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك ;
الرابع : استثناء حال الإحرام فيما يصاد ; الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد
لمن ليس بمحرم , وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل
هذا القرآن فقال : نعم ! أعمل مثل بعضه ; فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال : والله
ما أقدر ولا يطيق هذا أحد ; إني فتحت المصحف فخرجت سورة { المائدة { فنظرت فإذا هو
قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث , وحلل تحليلا عاما , ثم استثنى استثناء بعد استثناء
, ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين , ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد .
آمَنُوا يقال : وفى وأوفى لغتان : قال الله تعالى : { ومن أوفى بعهده من الله } [
التوبة : 111 ] , وقال تعالى : { وإبراهيم الذي وفى } [ النجم : 37 ] وقال الشاعر :
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها فجمع بين اللغتين .
أَوْفُوا العقود الربوط , واحدها عقد ; يقال : عقدت العهد والحبل , وعقدت العسل فهو
يستعمل في المعاني والأجسام ; قال الحطيئة : قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج
وشدوا فوقه الكربا فأمر الله سبحانه بالوفاء بالعقود ; قال الحسن : يعني بذلك عقود
الدين وهي ما عقده المرء على نفسه ; من بيع وشراء وإجارة وكراء ومناكحة وطلاق
ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير وغير ذلك من الأمور , ما كان ذلك غير
خارج عن الشريعة ; وكذلك ما عقده على نفسه لله من الطاعات , كالحج والصيام
والاعتكاف والقيام والنذر وما أشبه ذلك من طاعات ملة الإسلام , وأما نذر المباح فلا
يلزم بإجماع من الأمة ; قاله ابن العربي . ثم قيل : إن الآية نزلت في أهل الكتاب ;
لقوله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه
" [ آل عمران : 187 ] . قال ابن جريج : هو خاص بأهل الكتاب وفيهم نزلت , وقيل : هي
عامة وهو الصحيح ; فإن لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب ; لأن بينهم وبين الله
عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ; فإنهم
مأمورون بذلك في قوله : { أوفوا بالعقود { وغير موضع . قال ابن عباس : { أوفوا
بالعقود { معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء ; وكذلك قال
مجاهد وغيره , وقال ابن شهاب : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه
لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : ( هذا بيان للناس من الله ورسوله { يا
أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود { فكتب الآيات فيها إلى قوله : { إن الله سريع
الحساب } [ المائدة : 4 ] ) . وقال الزجاج : المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم
بعضكم على بعض , وهذا كله راجع إلى القول بالعموم وهو الصحيح في الباب ; قال صلى
الله عليه وسلم : ( المؤمنون عند شروطهم ) وقال : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو
باطل وإن كان مائة شرط ) فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب
الله أي دين الله ; فإن ظهر فيها ما يخالف رد ; كما قال صلى الله عليه وسلم : ( من
عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) . ذكر ابن إسحاق قال : اجتمعت قبائل من قريش في
دار عبد الله بن جدعان - لشرفه ونسبه - فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة
مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته ; فسمت قريش ذلك الحلف
حلف الفضول , وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لقد شهدت في دار عبد
الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو ادعي به في الإسلام لأجبت ) ,
وهذا الحلف هو المعنى المراد في قوله عليه السلام : ( وأيما حلف كان في الجاهلية لم
يزده الإسلام إلا شدة ) لأنه موافق للشرع إذ أمر بالانتصاف من الظالم ; فأما ما كان
من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام والحمد لله
. قال ابن إسحاق : تحامل الوليد بن عتبة على الحسين بن علي في مال له - لسلطان
الوليد ; فإنه كان أميرا على المدينة - فقال له الحسين : أحلف بالله لتنصفني من حقي
أو لآخذن بسيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف
الفضول . قال عبد الله بن الزبير : وأنا أحلف بالله لئن دعاني لآخذن بسيفي ثم لأقومن
معه حتى ينتصف من حقه أو نموت جميعا ; وبلغت المسور بن مخرمة فقال مثل ذلك ; وبلغت
عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك ; فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه
. بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الخطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه
وكماله ; وكانت للعرب سنن في الأنعام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام , يأتي
بيانها ; فنزلت هذه الآية رافعة لتلك الأوهام الخيالية , والآراء الفاسدة الباطلية
, واختلف في معنى { بهيمة الأنعام { والبهيمة اسم لكل ذي أربع ; سميت بذلك لإبهامها
من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها ; ومنه باب مبهم أي مغلق , وليل بهيم
, وبهمة للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له . و { الأنعام } : الإبل والبقر والغنم
, سميت بذلك للين مشيها ; قال الله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع }
[ النحل : 5 ] إلى قوله : { وتحمل أثقالكم } [ النحل : 7 ] , وقال تعالى : { ومن
الأنعام حمولة وفرشا } [ الأنعام : 142 ] يعني كبارا وصغارا ; ثم بينها فقال : "
ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] إلى قوله : { أم كنتم شهداء } [ البقرة : 133 ] وقال
تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن
أصوافها } [ النحل : 80 ] يعني الغنم { وأوبارها { يعني الإبل { وأشعارها { يعني
المعز ; فهذه ثلاثة أدلة تنبئ عن تضمن اسم الأنعام لهذه الأجناس ; الإبل والبقر
والغنم ; وهو قول ابن عباس والحسن . قال الهروي : وإذا قيل النعم فهو الإبل خاصة ,
وقال الطبري : وقال قوم { بهيمة الأنعام { وحشيها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير
ذلك , وذكره غير الطبري والربيع وقتادة والضحاك , كأنه قال : أحلت لكم الأنعام ,
فأضيف الجنس إلى أخص منه . قال ابن عطية : وهذا قول حسن ; وذلك أن الأنعام هي
الثمانية الأزواج , وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها ,
وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام ; فبهيمة الأنعام هي الراعي من
ذوات الأربع . قلت : فعلى هذا يدخل فيها ذوات الحوافر لأنها راعية غير مفترسة وليس
كذلك ; لأن الله تعالى قال : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع } [ النحل : 5 ]
ثم عطف عليها قوله : { والخيل والبغال والحمير } [ النحل : 8 ] فلما استأنف ذكرها
وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها ; والله أعلم , وقيل : { بهيمة الأنعام }
ما لم يكن صيدا ; لأن الصيد يسمى وحشا لا بهيمة , وهذا راجع إلى القول الأول . وروي
عن عبد الله بن عمر أنه قال : { بهيمة الأنعام { الأجنة التي تخرج عند الذبح من
بطون الأمهات ; فهي تؤكل دون ذكاة , وقاله ابن عباس وفيه بعد ; لأن الله تعالى قال
: { إلا ما يتلى عليكم { وليس في الأجنة ما يستثنى ; قال مالك : ذكاة الذبيحة ذكاة
لجنينها إذا لم يدرك حيا وكان قد نبت شعره وتم خلقه ; فإن لم يتم خلقه ولم ينبت
شعره لم يؤكل إلا أن يدرك حيا فيذكى , وإن بادروا إلى تذكيته فمات بنفسه , فقيل :
هو ذكي , وقيل : ليس بذكي ; وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى :
الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى : "
حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] وقوله عليه الصلاة والسلام : ( وكل ذي ناب من
السباع حرام ) . فإن قيل : الذي يتلى علينا الكتاب ليس السنة ; قلنا : كل سنة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فهي من كتاب الله ; والدليل عليه أمران : أحدهما : حديث
العسيف ( لأقضين بينكما بكتاب الله ) والرجم ليس منصوصا في كتاب الله . الثاني :
حديث ابن مسعود : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب
الله ; الحديث , وسيأتي في سورة { الحشر } . ويحتمل { إلا ما يتلى عليكم { الآن أو }
ما يتلى عليكم { فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم
; فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة .
عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي أي ما كان صيدا فهو حلال في الإحلال دون الإحرام , وما
لم يكن صيدا فهو حلال في الحالين . واختلف النحاة في { إلا ما يتلى { هل هو استثناء
أو لا ؟ فقال البصريون : هو استثناء من { بهيمة الأنعام { و } غير محلي الصيد }
استثناء آخر أيضا منه ; فالاستثناءان جميعا من قوله : { بهيمة الأنعام { وهي
المستثنى منها ; التقدير : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ; بخلاف قوله
: { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين . إلا آل لوط } [ الحجر : 58 - 59 ] على ما يأتي ,
وقيل : هو مستثنى مما يليه من الاستثناء ; فيصير بمنزلة قوله عز وجل : { إنا أرسلنا
إلى قوم مجرمين { ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام ; لأنه مستثنى من
المحظور إذ كان قوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم { مستثنى من الإباحة ; وهذا وجه
ساقط ; فإذا معناه أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى
عليكم سوى الصيد , ويجوز أن يكون معناه أيضا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت
لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم , وأجاز الفراء أن يكون { إلا ما يتلى عليكم }
في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلا كما يعطف بلا ; ولا يجيزه البصريون إلا في
النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلا زيد , والنصب عنده بأن }
غير محلي الصيد { نصب على الحال مما في { أوفوا } ; قال الأخفش : يا أيها الذين
آمنوا أوفوا بالعقود غير محلي الصيد , وقال غيره : حال من الكاف والميم في { لكم }
والتقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد . ثم قيل : يجوز أن يرجع الإحلال
إلى الناس , أي لا تحلوا الصيد في حال الإحرام , ويجوز أن يرجع إلى الله تعالى أي
أحللت لكم البهيمة إلا ما كان صيدا في وقت الإحرام ; كما تقول : أحللت لك كذا غير
مبيح لك يوم الجمعة . فإذا قلت يرجع إلى الناس فالمعنى : غير محلين الصيد , فحذفت
النون تخفيفا . الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ يعني الإحرام بالحج والعمرة ; يقال : رجل حرام
وقوم حرم إذا أحرموا بالحج ; ومنه قول الشاعر : فقلت لها فيئي إليك فإنني حرام وإني
بعد ذاك لبيب أي ملب , وسمي ذلك إحراما لما يحرمه من دخل فيه على نفسه من النساء
والطيب وغيرهما , ويقال : أحرم دخل في الحرم ; فيحرم صيد الحرم أيضا , وقرأ الحسن
وإبراهيم ويحيى بن وثاب { حرم { بسكون الراء ; وهي لغة تميمية يقولون في رسل : رسل
وفي كتب كتب ونحوه . حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا تقوية لهذه الأحكام الشرعية
المخالفة لمعهود أحكام العرب ; أي فأنت يا محمد السامع لنسخ تلك التي عهدت من
أحكامهم تنبه , فإن الذي هو مالك الكل { يحكم ما يريد }{ لا معقب لحكمه } [ الرعد
: 41 ] يشرع ما يشاء كما يشاء .
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وأراد باليتامى الذين كانوا أيتاما ; كقوله : "
وألقي السحرة ساجدين } [ الأعراف : 120 ] ولا سحر مع السجود , فكذلك لا يتم مع
البلوغ . وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { يتيم أبي طالب { استصحابا لما كان
.{ وآتوا { أي أعطوا . والإيتاء الإعطاء . ولفلان أتو , أي عطاء . أبو زيد : أتوت
الرجل آتوه إتاوة , وهي الرشوة . واليتيم من لم يبلغ الحلم , وقد تقدم في { البقرة }
مستوفى . وهذه الآية خطاب للأولياء والأوصياء . نزلت - في قول مقاتل والكلبي - في رجل
من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم , فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه
; فنزلت , فقال العم : نعوذ بالله من الحوب الكبير ! ورد المال . فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( من يوق شح نفسه ورجع به هكذا فإنه يحل داره ) يعني جنته . فلما
قبض الفتى المال أنفقه في سبيل الله , فقال عليه السلام : ( ثبت الأجر وبقي الوزر )
. فقيل : كيف يا رسول الله ؟ فقال : ( ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده ) لأنه
كان مشركا . وإيتاء اليتامى أموالهم يكون بوجهين : أحدهما - إجراء الطعام والكسوة
ما دامت الولاية ; إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي والاستبداد كالصغير
والسفيه الكبير . الثاني - الإيتاء بالتمكن وإسلام المال إليه , وذلك عند الابتلاء
والإرشاد , وتكون تسميته مجازا , المعنى : الذي كان يتيما , وهو استصحاب الاسم ;
كقوله تعالى : { وألقي السحرة ساجدين } [ الأعراف : 120 ] أي الذين كانوا سحرة
. وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { يتيم أبي طالب } . فإذا تحقق الولي رشده
حرم عليه إمساك ماله عنه وكان عاصيا . وقال أبو حنيفة : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة
أعطي ماله كله على كل حال , لأنه يصير جدا . قلت : لما لم يذكر الله تعالى في هذه
الآية إيناس الرشد وذكره في قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] . قال أبو بكر الرازي
الحنفي في أحكام القرآن : لما لم يقيد الرشد في موضع وقيد في موضع وجب استعمالهما ,
فأقول : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وهو سفيه لم يؤنس منه الرشد , وجب دفع المال إليه
, وإن كان دون ذلك لم يجب , عملا بالآيتين . وقال أبو حنيفة : لما بلغ رشده صار يصلح
أن يكون جدا فإذا صار يصلح أن يكون جدا فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم
اليتيم ؟ ! وهل ذلك إلا في غاية البعد ؟ . قال ابن العربي : وهذا باطل لا وجه له ;
لا سيما على أصله الذي يرى المقدرات لا تثبت قياسا وإنما تؤخذ من جهة النص , وليس
في هذه المسألة . وسيأتي ما للعلماء في الحجر إن شاء الله تعالى . وَلَا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي لا تتبدلوا الشاة السمينة من مال اليتيم
بالهزيلة , ولا الدرهم الطيب بالزيف . وكانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن
أموال اليتامى , فكانوا يأخذون الطيب والجيد من أموال اليتامى ويبدلونه بالرديء من
أموالهم ; ويقولون : اسم باسم ورأس برأس ; فنهاهم الله عن ذلك . هذا قول سعيد بن
المسيب والزهري والسدي والضحاك وهو ظاهر الآية . وقيل : المعنى لا تأكلوا أموال
اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب وهو مالكم . وقال مجاهد وأبو صالح وباذان : لا
تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله . وقال ابن
زيد : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث . عطاء : لا
تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير . وهذان القولان خارجان عن ظاهر الآية ; فإنه
يقال : تبدل الشيء بالشيء أي أخذه مكانه . ومنه البدل . وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ قال مجاهد : وهذه الآية ناهية عن الخلط في
الإنفاق ; فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك , ثم نسخ بقوله }
وإن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] . وقال ابن فورك عن الحسن : تأول الناس في
هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم , فخفف عنهم في آية البقرة . وقالت
طائفة من المتأخرين : إن { إلى { بمعنى مع , كقوله تعالى : { من أنصاري إلى الله }
[ الصف : 14 ] . وأنشد القتبي : يسدون أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات الأواصر
وليس بجيد . وقال الحذاق : { إلى { على بابها وهي تتضمن الإضافة , أي لا تضيفوا
أموالهم وتضموها إلى أموالكم في الأكل . فنهوا أن يعتقدوا أموال اليتامى كأموالهم
فيتسلطوا عليها بالأكل والانتفاع . إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا { إنه { أي الأكل
{ كان حوبا كبيرا { أي إثما كبيرا ; عن ابن عباس والحسن وغيرهما . يقال : حاب الرجل
يحوب حوبا إذا أثم . وأصله الزجر للإبل ; فسمي الإثم حوبا ; لأنه يزجر عنه وبه
. ويقال في الدعاء : اللهم اغفر حوبتي ; أي إثمي . والحوبة أيضا الحاجة . ومنه في
الدعاء : إليك أرفع حوبتي ; أي حاجتي . والحوب الوحشة ; ومنه قوله عليه السلام لأبي
أيوب : ( إن طلاق أم أيوب لحوب ) . وفيه ثلاث لغات { حوبا { بضم الحاء وهي قراءة
العامة ولغة أهل الحجاز . وقرأ الحسن { حوبا { بفتح الحاء . وقال الأخفش : وهي لغة
تميم . مقاتل : لغه الحبش . والحوب المصدر , وكذلك الحيابة . والحوب الاسم . وقرأ أبي
بن كعب { حابا { على المصدر مثل القال . ويجوز أن يكون اسما مثل الزاد . والحوأب (
بهمزة بعد الواو ) . المكان الواسع . والحوأب ماء أيضا . ويقال : ألحق الله به الحوبة
أي المسكنة والحاجة ; ومنه قولهم : بات بحيبة سوء . وأصل الياء الواو . وتحوب فلان أي
تعبد وألقى الحوب عن نفسه . والتحوب أيضا التحزن . وهو أيضا الصياح الشديد ; كالزجر ,
وفلان يتحوب من كذا أي يتوجع وقال طفيل : فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في
أكبادنا والتحوب .
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ
مِنَ النِّسَاءِ { وإن خفتم { شرط , وجوابه { فانكحوا } . أي إن خفتم ألا تعدلوا في
مهورهن وفي النفقة عليهن { فانكحوا ما طاب لكم { أي غيرهن . وروى الأئمة واللفظ
لمسلم عن عروة بن الزبير عن عائشة في قول الله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في
اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع { قالت : يا ابن أختي هي
اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن
يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره , فنهوا أن ينكحوهن
إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم
من النساء سواهن . وذكر الحديث . وقال ابن خويز منداد : ولهذا قلنا إنه يجوز أن يشتري
الوصي من مال اليتيم لنفسه , ويبيع من نفسه من غير محاباة . وللموكل النظر فيما
اشترى وكيله لنفسه أو باع منها . وللسلطان النظر فيما يفعله الوصي من ذلك . فأما الأب
فليس لأحد عليه نظر ما لم تظهر عليه المحاباة فيعترض عليه السلطان حينئذ ; وقد مضى
في { البقرة { القول في هذا . وقال الضحاك والحسن وغيرهما : إن الآية ناسخة لما كان
في الجاهلية وفي أول الإسلام ; من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء , فقصرتهن
الآية على أربع . وقال ابن عباس وابن جبير وغيرهما : المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في
اليتامى فكذلك خافوا في النساء ; لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في
النساء و { خفتم { من الأضداد ; فإنه يكون المخوف منه معلوم الوقوع , وقد يكون
مظنونا ; فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الخوف . فقال أبو عبيدة : { خفتم { بمعنى
أيقنتم . وقال آخرون : { خفتم { ظننتم . قال ابن عطية : وهذا الذي اختاره الحذاق ,
وأنه على بابه من الظن لا من اليقين . التقدير من غلب على ظنه التقصير في القسط
لليتيمة فليعدل عنها . و { تقسطوا { معناه تعدلوا . يقال : أقسط الرجل إذا عدل . وقسط
إذا جار وظلم صاحبه . قال الله تعالى : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } [ الجن
: 15 ] يعني الجائرون . وقال عليه السلام : ( المقسطون في الدين على منابر من نور
يوم القيامة ) يعني العادلين . وقرأ ابن وثاب والنخعي { تقسطوا { بفتح التاء من قسط
على تقدير زيادة { لا { كأنه قال : وإن خفتم أن تجوروا . قوله تعالى : { فانكحوا ما
طاب لكم من النساء { إن قيل : كيف جاءت { ما { للآدميين وإنما أصلها لما لا يعقل ;
فعنه أجوبة خمسة : الأول - أن { من { و } ما { قد يتعاقبان ; قال الله تعالى : "
والسماء وما بناها } [ الشمس : 5 ] أي ومن بناها . وقال { فمنهم من يمشي على بطنه
ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع } [ النور : 45 ] . فما هاهنا لمن
يعقل وهن النساء ; لقوله بعد ذلك { من النساء { مبينا لمبهم . وقرأ ابن أبي عبلة }
من طاب { على ذكر من يعقل . الثاني : قال البصريون : { ما { تقع للنعوت كما تقع لما
لا يعقل يقال : ما عندك ؟ فيقال : ظريف وكريم . فالمعنى فانكحوا الطيب من النساء ;
أي الحلال , وما حرمه الله فليس بطيب . وفي التنزيل { وما رب العالمين { فأجابه موسى
على وفق ما سأل ; وسيأتي . الثالث : حكى بعض الناس أن { ما { في هذه الآية ظرفية ,
أي ما دمتم تستحسنون النكاح قال ابن عطية : وفي هذا المنزع ضعف . جواب رابع : قال
الفراء { ما { هاهنا مصدر . وقال النحاس : وهذا بعيد جدا ; لا يصح فانكحوا الطيبة
. قال الجوهري : طاب الشيء يطيب طيبة وتطيابا . قال علقمة : كأن تطيابها في الأنف
مشموم جواب خامس : وهو أن المراد بما هنا العقد ; أي فانكحوا نكاحا طيبا . وقراءة
ابن أبي عبلة ترد هذه الأقوال الثلاثة . وحكى أبو عمرو بن العلاء أن أهل مكة إذا
سمعوا الرعد قالوا : سبحان ما سبح له الرعد . أي سبحان من سبح له الرعد . ومثله قولهم
: سبحان ما سخركن لنا . أي من سخركن . واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى :
{ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى { ليس له مفهوم ; إذ قد أجمع المسلمون على أن من
لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة : اثنتين أو ثلاثا أو أربعا كمن
خاف . فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك , وأن حكمها أعم من ذلك . تعلق أبو
حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ . وقال : إنما تكون يتيمة قبل
البلوغ , وبعد البلوغ هي امرأة مطلقة لا يتيمة ; بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهي
عن حطها عن صداق مثلها ; لأنها تختار ذلك فيجوز إجماعا . وذهب مالك والشافعي
والجمهور من العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ وتستأمر ; لقوله تعالى : "
ويستفتونك في النساء } [ النساء : 127 ] والنساء اسم ينطلق على الكبار كالرجال في
الذكور , واسم الرجل لا يتناول الصغير ; فكذلك اسم النساء , والمرأة لا يتناول
الصغيرة . وقد قال : { في يتامى النساء } [ النساء : 127 ] والمراد به هناك اليتامى
هنا ; كما قالت عائشة رضي الله عنها . فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية فلا تزوج
إلا بإذنها , ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها , فإذا بلغت جاز نكاحها لكن لا تزوج
إلا بإذنها . كما رواه الدارقطني من حديث محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال :
زوجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون , فدخل المغيرة بن شعبة على
أمها , فأرغبها في المال وخطبها إليها , فرفع شأنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال قدامة : يا رسول الله ابنة أخي وأنا وصي أبيها ولم أقصر بها , زوجتها من قد
علمت فضله وقرابته . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها يتيمة واليتيمة
أولى بأمرها ) فنزعت مني وزوجها المغيرة بن شعبة . قال الدارقطني : لم يسمعه محمد بن
إسحاق من نافع , وإنما سمعه من عمر بن حسين عنه . ورواه ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين
عن نافع عن عبد الله بن عمر : أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون قال : فذهبت أمها
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن ابنتي تكره ذلك . فأمره النبي صلى الله
عليه وسلم أن يفارقها ففارقها . وقال : ( ولا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن فإذا
سكتن فهو إذنها ) . فتزوجها بعد عبد الله المغيرة بن شعبة . فهذا يرد ما يقوله أبو
حنيفة من أنها إذا بلغت لم تحتج إلى ولي , بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في
صحة النكاح . وقد مضى في { البقرة { ذكره ; فلا معنى لقولهم : إن هذا الحديث محمول
على غير البالغة لقوله ( إلا بإذنها ) فإنه كان لا يكون لذكر اليتيم معنى والله
أعلم . وفي تفسير عائشة للآية من الفقه ما قال به مالك صداق المثل , والرد إليه
فيما فسد من الصداق ووقع الغبن في مقداره ; لقولها : ( بأدنى من سنة صداقها ) . فوجب
أن يكون صداق المثل معروفا لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم . وقد قال مالك : للناس
مناكح عرفت لهم وعرفوا لها . أي صدقات وأكفاء . وسئل مالك عن رجل زوج ابنته من ابن أخ
له فقير فاعترضت أمها فقال : إني لأرى لها في ذلك متكلما . فسوغ لها في ذلك الكلام
حتى يظهر هو من نظره ما يسقط اعتراض الأم عليه . وروي { لا أرى { بزيادة الألف
والأول أصح . وجائز لغير اليتيمة أن تنكح بأدنى من صداق مثلها ; لأن الآية إنما خرجت
في اليتامى . هذا مفهومها وغير اليتيمة بخلافها . فإذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في
صداقها جاز له أن يتزوجها , ويكون هو الناكح والمنكح على ما فسرته عائشة . وبه قال
أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور , وقاله من التابعين الحسن وربيعة , وهو قول
الليث . وقال زفر والشافعي : لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان , أو يزوجها
منه ولي لها هو أقعد بها منه ; أو مثله في القعدد ; وأما أن يتولى طرفي العقد بنفسه
فيكون ناكحا منكحا فلا . واحتجوا بأن الولاية شرط من شروط العقد لقوله عليه السلام :
( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ) . فتعديد الناكح والمنكح والشهود واجب ; فإذا اتحد
اثنان منهم سقط واحد من المذكورين . وفي المسألة قول ثالث , وهو أن تجعل أمرها إلى
رجل يزوجها منه . روي هذا عن المغيرة بن شعبة , وبه قال أحمد , ذكره ابن المنذر .
قوله تعالى : { ما طاب لكم من النساء { معناه ما حل لكم ; عن الحسن وابن جبير
وغيرهما . واكتفى بذكر من يجوز نكاحه ; لأن المحرمات من النساء كثير . وقرأ ابن إسحاق
والجحدري وحمزة { طاب }{ بالإمالة { وفي مصحف أبي { طيب { بالياء ; فهذا دليل
الإمالة .{ من النساء { دليل على أنه لا يقال نساء إلا لمن بلغ الحلم . وواحد النساء
نسوة , ولا واحد لنسوة من لفظه , ولكن يقال امرأة . مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
وموضعها من الإعراب نصب على البدل من { ما { وهي نكرة لا تنصرف ; لأنها معدولة وصفة
; كذا قال أبو علي . وقال الطبري : هي معارف ; لأنها لا يدخلها الألف واللام , وهي
بمنزلة عمر في التعريف ; قاله الكوفي . وخطأ الزجاج هذا القول . وقيل : لم ينصرف ;
لأنه معدول عن لفظه ومعناه , فأحاد معدول عن واحد واحد , ومثنى معدولة عن اثنين
اثنين , وثلاث معدولة عن ثلاثة ثلاثة , ورباع عن أربعة أربعة . وفي كل واحد منها
لغتان : فعال ومفعل ; يقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث ومثلث ورباع ومربع , وكذلك
إلى معشر وعشار . وحكى أبو إسحاق الثعلبي لغة ثالثة : أحد وثنى وثلث وربع مثل عمر
وزفر . وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية . وحكى المهدوي عن النخعي وابن وثاب { ثلاث
وربع { بغير ألف في ربع فهو مقصور من رباع استخفافا ; كما قال : أقبل سيل جاء من
عند الله يحرد حرد الجنة المغله قال الثعلبي : ولا يزاد من هذا البناء على الأربع
إلا بيت جاء عن الكميت : فلم يستثيروك حتى رمي ت فوق الرجال خصالا عشارا يعني طعنت
عشرة . وقال ابن الدهان : وبعضهم يقف على المسموع وهو من أحاد إلى رباع ولا يعتبر
بالبيت لشذوذه . وقال أبو عمرو بن الحاجب : ويقال أحاد وموحد وثناء ومثنى وثلاث
ومثلث ورباع ومربع . وهل يقال فيما عداه إلى التسعة أو لا يقال ؟ فيه خلاف أصحها أنه
لم يثبت . وقد نص البخاري في صحيحه على ذلك . وكونه معدولا عن معناه أنه لا يستعمل في
موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة ; تقول : جاءني اثنان وثلاثة , ولا يجوز مثنى
وثلاث حتى يتقدم قبله جمع , مثل جاءني القوم أحاد وثناء وثلاث ورباع من غير تكرار
. وهي في موضع الحال هنا وفي الآية , وتكون صفة ; ومثال كون هذه الأعداد صفة يتبين
في قوله تعالى : { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } [ فاطر : 1 ] فهي صفة للأجنحة وهي
نكرة . وقال ساعدة بن جؤية : ولكنما أهلي بواد أنيسه ذئاب تبغى الناس مثنى وموحد
وأنشد الفراء : قتلنا به من بين مثنى وموحد بأربعة منكم وآخر خامس فوصف ذئابا وهي
نكرة بمثنى وموحد , وكذلك بيت الفراء ; أي قتلنا به ناسا , فلا تنصرف إذا هذه
الأسماء في معرفة ولا نكرة . وأجاز الكسائي والفراء صرفه في العدد على أنه نكرة
. وزعم الأخفش أنه إن سمى به صرفه في المعرفة والنكرة ; لأنه قد زال عنه العدل .
اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع , كما قاله من بعد فهمه
للكتاب والسنة , وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة , وزعم أن الواو جامعة ; وعضد
ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا , وجمع بينهن في عصمته . والذي صار إلى
هذه الجهالة , وقال هذه المقالة الرافضة وبعض أهل الظاهر ; فجعلوا مثنى مثل اثنين ,
وكذلك ثلاث ورباع . وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها , فقالوا بإباحة الجمع
بين ثمان عشرة ; تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار والواو للجمع ;
فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع . وهذا كله جهل باللسان والسنة ,
ومخالفة لإجماع الأمة , إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في
عصمته أكثر من أربع . وأخرج مالك في موطئه , والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة : ( اختر
منهن أربعا وفارق سائرهن ) . في كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال : أسلمت وعندي
ثمان نسوة , فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( اختر منهن أربعا ) . وقال
مقاتل : إن قيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر ; فلما نزلت هذه الآية أمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا ويمسك أربعا . كذا قال : { قيس بن
الحارث } , والصواب أن ذلك كان حارث بن قيس الأسدي كما ذكر أبو داود . وكذا روى محمد
بن الحسن في كتاب السير الكبير : أن ذلك كان حارث بن قيس , وهو المعروف عند الفقهاء
. وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذلك من خصوصياته ; على ما يأتي
بيانه في { الأحزاب } . وأما قولهم : إن الواو جامعة ; فقد قيل ذلك , لكن الله تعالى
خاطب العرب بأفصح اللغات . والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول اثنين وثلاثة وأربعة
. وكذلك تستقبح ممن يقول : أعط فلانا أربعة ستة ثمانية , ولا يقول ثمانية عشر . وإنما
الواو في هذا الموضع بدل ; أي انكحوا ثلاثا بدلا من مثنى , ورباع بدلا من ثلاث ;
ولذلك عطف بالواو ولم يعطف بأو . ولو جاء بأو لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث , ولا
لصاحب الثلاث رباع . وأما قولهم : إن مثنى تقتضي اثنين , وثلاث ثلاثة , ورباع أربعة
, فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه , وجهالة منهم . وكذلك جهل الآخرين , بأن
مثنى تقتضي اثنين اثنين , وثلاث ثلاثة ثلاثة , ورباع أربعة أربعة , ولم يعلموا أن
اثنين اثنين , وثلاثا ثلاثا , وأربعا أربعا , حصر للعدد . ومثنى وثلاث ورباع بخلافها
. ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الأصل ; وذلك أنها إذا قالت :
جاءت الخيل مثنى , إنما تعني بذلك اثنين اثنين ; أي جاءت مزدوجة . قال الجوهري :
وكذلك معدول العدد . وقال غيره : إذا قلت جاءني قوم مثنى أو ثلاث أو أحاد أو عشار ,
فإنما تريد أنهم جاءوك واحدا واحدا , أو اثنين اثنين , أو ثلاثة ثلاثة , أو عشرة
عشرة , وليس هذا المعنى في الأصل ; لأنك إذا قلت جاءني قوم ثلاثة ثلاثة , أو قوم
عشرة عشرة , فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة . فإذا قلت جاءوني رباع وثناء فلم
تحصر عدتهم . وإنما تريد أنهم جاءوك أربعة أربعة أو اثنين اثنين . وسواء كثر عددهم أو
قل في هذا الباب , فقصرهم كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم . وأما اختلاف
علماء المسلمين في الذي يتزوج خامسة وعنده أربع وهي : فقال مالك والشافعي : عليه
الحد إن كان عالما . وبه قال أبو ثور . وقال الزهري : يرجم إذا كان عالما , وإن كان
جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد , ولها مهرها ويفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا
. وقالت طائفة : لا حد عليه في شيء من ذلك . هذا قول النعمان . وقال يعقوب ومحمد : يحد
في ذات المحرم ولا يحد في غير ذلك من النكاح . وذلك مثل أن يتزوج مجوسية أو خمسة في
عقدة أو تزوج متعة أو تزوج بغير شهود , أو أمة تزوجها بغير إذن مولاها . وقال أبو
ثور : إذا علم أن هذا لا يحل له يجب أن يحد فيه كله إلا التزوج بغير شهود . وفيه قول
ثالث قاله النخعي في الرجل ينكح الخامسة متعمدا قبل أن تنقضي عدة الرابعة من نسائه
: جلد مائة ولا ينفى . فهذه فتيا علمائنا في الخامسة على ما ذكره ابن المنذر فكيف
بما فوقها . ذكر الزبير بن بكار حدثني إبراهيم الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال :
أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ; فقالت : يا أمير المؤمنين , إن زوجي
يصوم النهار ويقوم الليل وأنا أكره أن أشكوه , وهو يعمل بطاعة الله عز وجل . فقال
لها : نعم الزوج زوجك : فجعلت تكرر عليه القول وهو يكرر عليها الجواب . فقال له كعب
الأسدي : يا أمير المؤمنين , هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه
. فقال عمر : كما فهمت كلامها فاقض بينهما . فقال كعب : علي بزوجها , فأتي به فقال له
: إن امرأتك هذه تشكوك . قال : أفي طعام أم شراب ؟ قال لا . فقالت المرأة : يا أيها
القاضي الحكيم رشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده زهده في مضجعي تعبده فاقض القضا كعب
ولا تردده نهاره وليله ما يرقده فلست في أمر النساء أحمده فقال زوجها : زهدني في
فرشها وفي الحجل أني امرؤ أذهلني ما قد نزل في سورة النحل وفي السبع الطول وفي كتاب
الله تخويف جلل فقال كعب : إن لها عليك حقا يا رجل نصيبها في أربع لمن عقل فأعطها
ذاك ودع عنك العلل ثم قال : إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع ,
فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك . فقال عمر : والله ما أدري من أي أمريك أعجب
؟ أمن فهمك أمرهما أم من حكمك بينهما ؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة . وروى أبو هدبة
إبراهيم بن هدبة حدثنا أنس بن مالك قال : أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة
تستعدي زوجها , فقالت : ليس لي ما للنساء ; زوجي يصوم الدهر . قال : ( لك يوم وله
يوم , للعبادة يوم وللمرأة يوم ) . فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا قال الضحاك
وغيره : في الميل والمحبة والجماع والعشرة والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث
والاثنتين فَوَاحِدَةً فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدل في القسم وحسن
العشرة . وذلك دليل على وجوب ذلك , والله أعلم . وقرئت بالرفع , أي فواحدة فيها كفاية
أو كافية . وقال الكسائي : فواحدة تقنع . وقرئت بالنصب بإضمار فعل , أي فانكحوا واحدة
. أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ يريد الإماء . وهو عطف على { فواحدة { أي إن خاف
ألا يعدل في واحدة فما ملكت يمينه . وفي هذا دليل على ألا حق لملك اليمين في الوطء
ولا القسم ; لأن المعنى { فإن خفتم ألا تعدلوا { في القسم { فواحدة أو ما ملكت
أيمانكم { فجعل ملك اليمين كله بمنزلة واحدة , فانتفى بذلك أن يكون للإماء حق في
الوطء أو في القسم . إلا أن ملك اليمين في العدل قائم بوجوب حسن الملكة والرفق
بالرقيق . وأسند تعالى الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح , واليمين مخصوصة بالمحاسن
لتمكنها . ألا ترى أنها المنفقة ؟ كما قال عليه السلام : ( حتى لا تعلم شماله ما
تنفق يمينه ) وهي المعاهدة المبايعة , وبها سميت الألية يمينا , وهي المتلقية
لرايات المجد ; كما قال : إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين ذَلِكَ
أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أي ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا ; عن ابن
عباس ومجاهد وغيرهما . يقال : عال الرجل يعول إذا جار ومال . ومنه قولهم : عال السهم
عن الهدف مال عنه . قال ابن عمر : إنه لعائل الكيل والوزن ; قال الشاعر : قالوا
اتبعنا رسول الله واطرحوا قول الرسول وعالوا في الموازين أي جاروا . وقال أبو طالب :
بميزان صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل يريد غير مائل . وقال آخر : ثلاثة
أنفس وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيالي أي جار ومال . وعال الرجل يعيل إذا افتقر
فصار عالة . ومنه قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } [ التوبة : 38 ] . ومنه قول الشاعر
: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وهو عائل وقوم عيلة , والعيلة
والعالة الفاقة , وعالني الشيء يعولني إذا غلبني وثقل علي , وعال الأمر اشتد وتفاقم
. وقال الشافعي : { ألا تعولوا } [ النساء : 3 ] ألا تكثر عيالكم . قال الثعلبي : وما
قال هذا غيره , وإنما يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله . وزعم ابن العربي أن عال على
سبعة معان لا ثامن لها , يقال : عال مال , الثاني زاد , الثالث جار , الرابع افتقر
, الخامس أثقل , حكاه ابن دريد . قالت الخنساء : ويكفي العشيرة ما عالها السادس عال
قام بمئونة العيال ; ومنه قوله عليه السلام : ( وابدأ بمن تعول ) . السابع عال غلب
; ومنه عيل صبره . أي غلب . ويقال : أعال الرجل كثر عياله . وأما عال بمعنى كثر عياله
فلا يصح . قلت : أما قول الثعلبي { ما قاله غيره { فقد أسنده الدارقطني في سننه عن
زيد بن أسلم , وهو قول جابر بن زيد ; فهذان إمامان من علماء المسلمين وأئمتهم قد
سبقا الشافعي إليه . وأما ما ذكره ابن العربي من الحصر وعدم الصحة فلا يصح . وقد
ذكرنا : عال الأمر اشتد وتفاقم , حكاه الجوهري . وقال الهروي في غريبيه : { وقال أبو
بكر : يقال عال الرجل في الأرض يعيل فيها أي ضرب فيها . وقال الأحمر : يقال عالني
الشيء يعيلني عيلا ومعيلا إذا أعجزك } . وأما عال كثر عياله فذكره الكسائي وأبو عمر
الدوري وابن الأعرابي . قال الكسائي أبو الحسن علي بن حمزة : العرب تقول عال يعول
وأعال يعيل أي كثر عياله . وقال أبو حاتم : كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا , ولعله
لغة . قال الثعلبي المفسر : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمر الدوري
عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حمير ; وأنشد : وإن الموت يأخذ
كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا يعني وإن كثرت ماشيته وعياله . وقال أبو عمرو بن العلاء
: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحنا . وقرأ طلحة بن مصرف { ألا
تعيلوا { وهي حجة الشافعي رضي الله عنه . قال ابن عطية : وقدح الزجاج وغيره في تأويل
عال من العيال بأن قال : إن الله تعالى قد أباح كثرة السراري وفي ذلك تكثير العيال
, فكيف يكون أقرب إلى ألا يكثر العيال . وهذا القدح غير صحيح ; لأن السراري إنما هي
مال يتصرف فيه بالبيع , وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة . وحكى ابن
الأعرابي أن العرب تقول : عال الرجل إذا كثر عياله . تعلق بهذه الآية من أجاز
للمملوك أن يتزوج أربعا , لأن الله تعالى قال : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء }
يعني ما حل { مثنى وثلاث ورباع { ولم يخص عبدا من حر . وهو قول داود والطبري وهو
المشهور عن مالك وتحصيل مذهبه على ما في موطئه , وكذلك روى عنه ابن القاسم وأشهب
. وذكر ابن المواز أن ابن وهب روى عن مالك أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين ; قال وهو
قول الليث . قال أبو عمر : قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والليث بن سعد
: لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين ; وبه قال أحمد وإسحاق . وروي عن عمر بن الخطاب
وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف في العبد لا ينكح أكثر من اثنتين ; ولا أعلم
لهم مخالفا من الصحابة . وهو قول الشعبي وعطاء وابن سيرين والحكم وإبراهيم وحماد
. والحجة لهذا القول القياس الصحيح على طلاقه وحده . وكل من قال حده نصف حد الحر ,
وطلاقه تطليقتان , وإيلاؤه شهران , ونحو ذلك من أحكامه فغير بعيد أن يقال : تناقض
في قوله { ينكح أربعا { والله أعلم .
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ الصدقات جمع , الواحدة صدقة . قال الأخفش : وبنو
تميم يقولون صدقة والجمع صدقات , وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت . قال المازني : يقال
صداق المرأة بالكسر , ولا يقال بالفتح . وحكى يعقوب وأحمد بن يحيى بالفتح عن النحاس
. والخطاب في هذه الآية للأزواج ; قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وابن جريج . أمرهم
الله تعالى بأن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم . وقيل : الخطاب للأولياء
; قاله أبو صالح . وكان الولي يأخذ مهر المرأة ولا يعطيها شيئا , فنهوا عن ذلك
وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهن . قال في رواية الكلبي : أن أهل الجاهلية كان الولي إذا
زوجها فإن كانت معه في العشرة لم يعطها من مهرها كثيرا ولا قليلا , وإن كانت غريبة
حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير ; فنزل : { وآتوا النساء
صدقاتهن نحلة } . وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه : زعم حضرمي أن المراد بالآية
المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى , فأمروا أن يضربوا المهور . والأول
أظهر ; فإن الضمائر واحدة وهي بجملتها للأزواج فهم المراد ; لأنه قال : { وإن خفتم
ألا تقسطوا في اليتامى { إلى قوله : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } . وذلك يوجب
تناسق الضمائر وأن يكون الأول فيها هو الآخر . هذه الآية تدل على وجوب الصداق
للمرأة , وهو مجمع عليه ولا خلاف فيه إلا ما روي عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن
السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق ; وليس بشيء ; لقوله تعالى { وآتوا
النساء صدقاتهن نحلة { فعم . وقال : { فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف }
[ النساء : 25 ] . وأجمع العلماء أيضا أنه لا حد لكثيره , واختلفوا في قليله على ما
يأتي بيانه في قوله : { وآتيتم إحداهن قنطارا } [ النساء : 20 ] . وقرأ الجمهور }
صدقاتهن { بفتح الصاد وضم الدال . وقرأ قتادة { صدقاتهن { بضم الصاد وسكون الدال
. وقرأ النخعي وابن وثاب بضمهما والتوحيد { صدقتهن { نِحْلَةً النحلة والنحلة , بكسر
النون وضمها لغتان . وأصلها من العطاء ; نحلت فلانا شيئا أعطيته . فالصداق عطية من
الله تعالى للمرأة . وقيل : { نحلة { أي عن طيب نفس من الأزواج من غير تنازع . وقال
قتادة : معنى { نحلة { فريضة واجبة . ابن جريج وابن زيد : فريضة مسماة . قال أبو عبيد
: ولا تكون النحلة إلا مسماة معلومة . وقال الزجاج : { نحلة { تدينا . والنحلة
الديانة والملة . يقال . هذا نحلته أي دينه . وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء الذين
كانوا يأخذونه في الجاهلية , حتى قال بعض النساء في زوجها : لا يأخذ الحلوان من
بناتنا تقول : لا يفعل ما يفعله غيره . فانتزعه الله منهم وأمر به للنساء . و { نحلة
{ منصوبة على أنها حال من الأزواج بإضمار فعل من لفظها تقديره انحلوهن نحلة . وقيل :
هي نصب وقيل على التفسير . وقيل : هي مصدر على غير الصدر في موضع الحال . فَإِنْ
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ مخاطبة للأزواج , ويدل بعمومه على أن هبة المرأة
صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيبا جائزة ; وبه قال جمهور الفقهاء . ومنع مالك من هبة
البكر الصداق لزوجها وجعل ذلك للولي مع أن الملك لها . وزعم الفراء أنه مخاطبة
للأولياء ; لأنهم كانوا يأخذون الصداق ولا يعطون المرأة منه شيئا , فلم يبح لهم منه
إلا ما طابت به نفس المرأة . والقول الأول أصح ; لأنه لم يتقدم للأولياء ذكر ,
والضمير في { منه { عائد على الصداق . وكذلك قال عكرمة وغيره . وسبب الآية فيما ذكر
أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوه إلى الزوجات فنزلت { فإن طبن لكم } .
واتفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها نفذ ذلك
عليها , ولا رجوع لها فيه . إلا أن شريحا رأى الرجوع لها فيه , واحتج بقوله : { فإن
طبن لكم عن شيء منه نفسا { وإذا كانت طالبة له لم تطب به نفسا . قال ابن العربي :
وهذا باطل ; لأنها قد طابت وقد أكل فلا كلام لها ; إذ ليس المراد صورة الأكل ,
وإنما هو كناية عن الإحلال والاستحلال , وهذا بين . فإن شرطت عليه عند عقد النكاح
ألا يتزوج عليها , وحطت عنه لذلك شيئا من صداقها , ثم تزوج عليها فلا شيء لها عليه
في رواية ابن القاسم ; لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه . كما اشترط أهل بريرة أن
تعتقها عائشة والولاء لبائعها , فصحح النبي صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط
. كذلك ههنا يصح إسقاط بعض الصداق عنه وتبطل الزيجة . قال ابن عبد الحكم : إن كان بقي
من صداقها مثل صداق مثلها أو أكثر لم ترجع عليه بشيء , وإن كانت وضعت عنه شيئا من
صداقها فتزوج عليها رجعت عليه بتمام صداق مثلها ; لأنه شرط على نفسه شرطا وأخذ عنه
عوضا كان لها واجبا أخذه منه , فوجب عليه الوفاء لقوله عليه السلام : ( المؤمنون
عند شروطهم ) . وفي الآية دليل على أن العتق لا يكون صداقا ; لأنه ليس بمال ; إذ لا
يمكن للمرأة هبته ولا الزوج أكله . وبه قال مالك وأبو حنيفة وزفر ومحمد والشافعي
. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق ويعقوب : يكون صداقا ولا مهر لها غير العتق ; على حديث
صفية - رواه الأئمة - أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها . وروي
عن أنس أنه فعله , وهو راوي حديث صفية . وأجاب الأولون بأن قالوا : لا حجة في حديث
صفية ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا في النكاح بأن يتزوج بغير صداق ,
وقد أراد زينب فحرمت على زيد فدخل عليها بغير ولي ولا صداق . فلا ينبغي الاستدلال
بمثل هذا ; والله أعلم . نَفْسًا قيل : هو منصوب على البيان . ولا يجيز سيبويه ولا
الكوفيون أن يتقدم ما كان منصوبا على البيان , وأجاز ذلك المازني وأبو العباس
المبرد إذا كان العامل فعلا . وأنشد : وما كان نفسا بالفراق تطيب وفي التنزيل { خشعا
أبصارهم يخرجون } [ القمر : 7 ] فعلى هذا يجوز { شحما تفقأت . ووجها حسنت } . وقال
أصحاب سيبويه : إن { نفسا { منصوبة بإضمار فعل تقديره أعني نفسا , وليست منصوبة على
التمييز ; وإذا كان هذا فلا حجة فيه . وقال الزجاج . الرواية : وما كان نفسي ..
. واتفق الجميع على أنه لا يجوز تقديم المميز إذا كان العامل غير متصرف كعشرين درهما
. فَكُلُوهُ ليس المقصود صورة الأكل , وإنما المراد به الاستباحة بأي طريق كان ,
وهو المعني بقوله في الآية التي بعدها { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [
النساء : 10 ] . وليس المراد نفس الأكل ; إلا أن الأكل لما كان أوفى أنواع التمتع
بالمال عبر عن التصرفات بالأكل . ونظيره قوله تعالى : { إذا نودي للصلاة من يوم
الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } [ الجمعة : 9 ] يعلم أن صورة البيع غير
مقصودة , وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النكاح وغيره ; ولكن ذكر
البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى . هَنِيئًا مَرِيئًا منصوب على الحال
من الهاء في { كلوه { وقيل : نعت لمصدر محذوف , أي أكلا هنيئا بطيب الأنفس . هنأه
الطعام والشراب يهنؤه , وما كان هنيئا ; ولقد هنؤ , والمصدر الهنء . وكل ما لم يأت
بمشقة ولا عناء فهو هنيء . وهنيء اسم فاعل من هنؤ كظريف من ظرف . وهنئ يهنأ فهو هنئ
على فعل كزمن . وهنأني الطعام ومرأني على الإتباع ; فإذا لم يذكر { هنأني { قلت :
أمرأني الطعام بالألف , أي انهضم . قال أبو علي : وهذا كما جاء في الحديث ( ارجعن
مأزورات غير مأجورات ) . فقلبوا الواو من { موزورات { ألفا إتباعا للفظ مأجورات
. وقال أبو العباس عن ابن الأعرابي : يقال هنيء وهنأني ومرأني وأمرأني ولا يقال
مرئني ; حكاه الهروي . وحكى القشيري أنه يقال : هنئني ومرئني بالكسر يهنأني ويمرأني
, وهو قليل . وقيل : { هنيئا { لا إثم فيه , و { مريئا { لا داء فيه . قال كثير :
هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت ودخل رجل على علقمة وهو يأكل
شيئا وهبته امرأته من مهرها فقال له : كل من الهنيء المريء . وقيل : الهنيء الطيب
المساغ الذي لا ينغصه شيء , والمريء المحمود العاقبة , التام الهضم الذي لا يضر ولا
يؤذي . يقول : لا تخافون في الدنيا به مطالبة , ولا في الآخرة تبعة . يدل عليه ما روى
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية { فإن طبن لكم عن شيء
منه نفسا فكلوه { فقال : ( إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به
عليكم سلطان , ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة ) وروي عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه قال : ( إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته درهما من صداقها ثم ليشتر به
عسلا فليشربه بماء السماء ; فيجمع الله عز وجل له الهنيء والمريء والماء المبارك )
. والله أعلم .
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى
إليهم في قوله : { وآتوا اليتامى أموالهم { وإيصال الصدقات إلى الزوجات , بين أن
السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه . فدلت الآية على ثبوت الوصي والولي
والكفيل للأيتام . وأجمع أهل العلم على أن الوصية إلى المسلم الحر الثقة العدل جائزة
. واختلفوا في الوصية إلى المرأة الحرة ; فقال عوام أهل العلم : الوصية لها جائزة
. واحتج أحمد بأن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة . وروي عن عطاء بن أبي رباح أنه قال
في رجل أوصى إلى امرأته قال : لا تكون المرأة وصيا ; فإن فعل حولت إلى رجل من قومه
. واختلفوا في الوصية إلى العبد ; فمنعه الشافعي وأبو ثور ومحمد ويعقوب . وأجازه مالك
والأوزاعي وابن عبد الحكم . وهو قول النخعي إذا أوصى إلى عبده . وقد مضى القول في هذا
في { البقرة { مستوفى . { السفهاء { قد مضى في { البقرة { معنى السفه لغة . واختلف
العلماء في هؤلاء السفهاء , من هم ؟ فروى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : هم
اليتامى لا تؤتوهم أموالكم . قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية . وروى
إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك قال : هم الأولاد الصغار , لا تعطوهم أموالكم
فيفسدوها وتبقوا بلا شيء . وروى سفيان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال : هم النساء . قال
النحاس وغيره : وهذا القول لا يصح ; إنما تقول العرب في النساء سفائه أو سفيهات ;
لأنه الأكثر في جمع فعيلة . ويقال : لا تدفع مالك مضاربة ولا إلى وكيل لا يحسن
التجارة . وروي عن عمر أنه قال : من لم يتفقه فلا يتجر في سوقنا ; فذلك قوله تعالى :
{ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم { يعني الجهال بالأحكام . ويقال : لا تدفع إلى الكفار ;
ولهذا كره العلماء أن يوكل المسلم ذميا بالشراء والبيع , أو يدفع إليه مضاربة . وقال
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : ( السفهاء هنا كل من يستحق الحجر ) . وهذا جامع
. وقال ابن خويز منداد : وأما الحجر على السفيه فالسفيه له أحوال : حال يحجر عليه
لصغره , وحالة لعدم عقله بجنون أو غيره , وحالة لسوء نظره لنفسه في ماله . فأما
المغمى عليه فاستحسن مالك ألا يحجر عليه لسرعة زوال ما به . والحجر يكون مرة في حق
الإنسان ومرة في حق غيره ; فأما المحجور عليه في حق نفسه من ذكرنا . والمحجور عليه
في حق غيره العبد والمديان والمريض في الثلثين , والمفلس وذات الزوج لحق الزوج ,
والبكر في حق نفسها . فأما الصغير والمجنون فلا خلاف في الحجر عليهما . وأما الكبير
فلأنه لا يحسن النظر لنفسه في ماله , ولا يؤمن منه إتلاف ماله في غير وجه , فأشبه
الصبي ; وفيه خلاف يأتي . ولا فرق بين أن يتلف ماله في المعاصي أو القرب والمباحات
. واختلف أصحابنا إذا أتلف ماله في القرب ; فمنهم من حجر عليه , ومنهم من لم يحجر
عليه . والعبد لا خلاف فيه . والمديان ينزع ما بيده لغرمائه ; لإجماع الصحابة , وفعل
عمر ذلك بأسيفع جهينة ; ذكره مالك في الموطأ . والبكر ما دامت في الخدر محجور عليها
; لأنها لا تحسن النظر لنفسها . حتى إذا تزوجت ودخل إليها الناس , وخرجت وبرز وجهها
عرفت المضار من المنافع . وأما ذات الزوج فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
لا يجوز لامرأة ملك زوجها عصمتها قضاء في مالها إلا في ثلثها ) . قلت : وأما الجاهل
بالأحكام وإن كان غير محجور عليه لتنميته لماله وعدم تدبيره , فلا يدفع إليه المال
; لجهله بفاسد البياعات وصحيحها وما يحل وما يحرم منها . وكذلك الذمي مثله في الجهل
بالبياعات ولما يخاف من معاملته بالربا وغيره . والله أعلم . واختلفوا في وجه إضافة
المال إلى المخاطبين على هذا , وهي للسفهاء ; فقيل : أضافها إليهم لأنها بأيديهم
وهم الناظرون فيها فنسبت إليهم اتساعا ; كقوله تعالى : { فسلموا على أنفسكم } [
النور : 61 ] وقوله { فاقتلوا أنفسكم } [ البقرة : 54 ] . وقيل : أضافها إليهم
لأنها من جنس أموالهم ; فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد ,
ومن ملك إلى ملك , أي هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أعراضكم وتصونكم وتعظم
أقداركم , وبها قوام أمركم . وقول ثان قاله أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن
وقتادة : ( أن المراد أموال المخاطبين حقيقة ) . قال ابن عباس : ( لا تدفع مالك الذي
هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم ; بل كن
أنت الذي تنفق عليهم ) . فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان ; صغار ولد الرجل
وامرأته . وهذا يخرج مع قول مجاهد وأبي مالك في السفهاء . ودلت الآية على جواز الحجر
على السفيه ; لأمر الله عز وجل بذلك في قوله : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم { وقال
{ فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا } [ البقرة : 282 ] . فأثبت الولاية على
السفيه كما أثبتها على الضعيف . وكان معنى الضعيف راجعا إلى الصغير , ومعنى السفيه
إلى الكبير البالغ ; لأن السفه اسم ذم ولا يذم الإنسان على ما لم يكتسبه , والقلم
مرفوع عن غير البالغ , فالذم والحرج منفيان عنه ; قاله الخطابي . واختلف العلماء في
أفعال السفيه قبل الحجر عليه ; فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم : إن فعل
السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده . وهو قول الشافعي وأبي يوسف . وقال
ابن القاسم : أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب عليه الإمام . وقال أصبغ : إن كان ظاهر
السفه فأفعاله مردودة , وإن كان غير ظاهر السفه فلا ترد أفعاله حتى يحجر عليه
الإمام . واحتج سحنون لقول مالك بأن قال : لو كانت أفعال السفيه مردودة قبل الحجر ما
احتاج السلطان أن يحجر على أحد . وحجة ابن القاسم ما رواه البخاري من حديث جابر أن
رجلا أعتق عبدا ليس له مال غيره فرده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن حجر عليه
قبل ذلك . واختلفوا في الحجر على الكبير ; فقال مالك وجمهور الفقهاء : يحجر عليه
. وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله ; فإذا كان
كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة , فإذا بلغها سلم إليه بكل
حال , سواء كان مفسدا أو غير مفسد ; لأنه يحبل منه لاثنتي عشرة سنة , ثم يولد له
لستة أشهر فيصير جدا وأبا , وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدا . وقيل عنه
: إن في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق , وإنما يمنع من
تسليم المال احتياطا . وهذا كله ضعيف في النظر والأثر . وقد روى الدارقطني : حدثنا
محمد بن أحمد بن الحسن الصواف أخبرنا حامد بن شعيب أخبرنا شريح بن يونس أخبرنا
يعقوب بن إبراهيم - هو أبو يوسف القاضي - أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله
بن جعفر أتى الزبير فقال : إني اشتريت بيع كذا وكذا , وإن عليا يريد أن يأتي أمير
المؤمنين فيسأله أن يحجر علي فيه . فقال الزبير : أنا شريكك في البيع . فأتى علي
عثمان فقال : إن ابن جعفر اشترى بيع كذا وكذا فاحجر عليه . فقال الزبير : فأنا شريكه
في البيع . فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير ؟ قال يعقوب :
أنا آخذ بالحجر وأراه , وأحجر وأبطل بيع المحجور عليه وشراءه , وإذا اشترى أو باع
قبل الحجر أجزت بيعه . قال يعقوب بن إبراهيم : وإن أبا حنيفة لا يحجر ولا يأخذ
بالحجر . فقول عثمان : كيف أحجر على رجل , دليل على جواز الحجر على الكبير ; فإن عبد
الله بن جعفر ولدته أمه بأرض الحبشة , وهو أول مولود ولد في الإسلام بها , وقدم مع
أبيه على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر فسمع منه وحفظ عنه . وكانت خيبر سنة خمس
من الهجرة . وهذا يرد على أبي حنيفة قوله . وستأتي حجته إن شاء الله تعالى . الَّتِي
جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا أي لمعاشكم وصلاح دينكم . وفي { التي { ثلاث لغات :
التي واللت بكسر التاء واللت بإسكانها . وفي تثنيتها أيضا ثلاث لغات : اللتان
واللتا بحذف النون واللتان بشد النون . وأما الجمع فتأتي لغاته في موضعه من هذه
السورة إن شاء الله تعالى . والقيام والقوام : ما يقيمك بمعنى . يقال : فلان قيام
أهله وقوام بيته , وهو الذي يقيم شأنه , أي يصلحه . ولما انكسرت القاف من قوام
أبدلوا الواو ياء . وقراءة أهل المدينة { قيما { بغير ألف . قال الكسائي والفراء :
قيما وقواما بمعنى قياما , وانتصب عندهما على المصدر . أي ولا تؤتوا السفهاء أموالكم
التي تصلح بها أموركم فيقوموا بها قياما . وقال الأخفش : المعنى قائمة بأموركم . يذهب
إلى أنها جمع . وقال البصريون : قيما جمع قيمة ; كديمة وديم , أي جعلها الله قيمة
للأشياء . وخطأ أبو علي هذا القول وقال : هي مصدر كقيام وقوام وأصلها قوم , ولكن شذت
في الرد إلى الياء كما شذ قولهم : جياد في جمع جواد ونحوه . وقوما وقواما وقياما
معناها ثباتا في صلاح الحال ودواما في ذلك . وقرأ الحسن والنخعي { اللاتي { جعل على
جمع التي , وقراءة العامة { التي { على لفظ الجماعة . قال الفراء : الأكثر في كلام
العرب { النساء اللواتي , والأموال التي { وكذلك غير الأموال ; ذكره النحاس :
وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ قيل : معناه اجعلوا لهم فيها أو افرضوا لهم
فيها . وهذا فيمن يلزم الرجل نفقته وكسوته من زوجته وبنيه الأصاغر . فكان هذا دليلا
على وجوب نفقة الولد على الوالد والزوجة على زوجها . وفي البخاري عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد
العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول تقول المرأة : إما أن تطعمني وإما أن
تطلقني ويقول العبد أطعمني واستعملني ويقول الابن أطعمني إلى من تدعني ) ؟ فقالوا :
يا أبا هريرة , سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا , هذا من كيس
أبي هريرة ! . قال المهلب : النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع ; وهذا الحديث
حجة في ذلك . قال ابن المنذر : واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا
كسب ; فقالت طائفة : على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا , وعلى النساء
حتى يتزوجن ويدخل بهن . فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها
. وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها . ولا نفقة لولد الولد على الجد ; هذا قول
مالك . وقالت طائفة : ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض . ثم لا نفقة عليه
إلا أن يكونوا زمنى , وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال , وسواء في
ذلك ولده أو ولد ولده وإن سفلوا ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم ; هذا
قول الشافعي . وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا
لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد ; على ظاهر قوله عليه السلام لهند : (
خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) . وفي حديث أبي هريرة ( يقول الابن أطعمني إلى من
تدعني ؟ ) يدل على أنه إنما يقول ذلك من لا طاقة له على الكسب والتحرف . ومن بلغ سن
الحلم فلا يقول ذلك ; لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها , بدليل قوله تعالى
: { حتى إذا بلغوا النكاح } [ النساء : 6 ] الآية . فجعل بلوغ النكاح حدا في ذلك
. وفي قوله : ( تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني ) يرد على من قال : لا
يفرق بالإعسار ويلزم المرأة الصبر ; وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم . هذا قول عطاء
والزهري . وإليه ذهب الكوفيون متمسكين بقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
ميسرة } [ البقرة : 280 ] . قالوا : فوجب أن ينظر إلى أن يوسر . وقوله تعالى : "
وأنكحوا الأيامى منكم } [ النور : 32 ] الآية . قالوا : فندب تعالى إلى إنكاح الفقير
; فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة وهو مندوب منعه إلى النكاح . ولا حجة لهم في
هذه الآية على ما يأتي بيانه في موضعها . والحديث نص في موضع الخلاف . وقيل : الخطاب
لولي اليتيم لينفق عليه من ماله الذي له تحت نظره ; على ما تقدم من الخلاف في إضافة
المال . فالوصي ينفق على اليتيم على قدر ماله وحاله ; فإن كان صغيرا وماله كثير اتخذ
له ظئرا وحواضن ووسع عليه في النفقة . وإن كان كبيرا قدر له ناعم اللباس وشهي الطعام
والخدم . وإن كان دون ذلك فبحسبه . وإن كان دون ذلك فخشن الطعام واللباس قدر الحاجة
. فإن كان اليتيم فقيرا لا مال له وجب على الإمام القيام به من بيت المال ; فإن لم
يفعل الإمام وجب ذلك على المسلمين الأخص به فالأخص . وأمه أخص به فيجب عليها إرضاعه
والقيام به . ولا ترجع عليه ولا على أحد . وقد مضى في البقرة عند قوله : { والوالدات
يرضعن أولادهن } [ البقرة : 233 ] . وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أراد
تليين الخطاب والوعد الجميل . واختلف في القول المعروف ; فقيل : معناه ادعوا لهم :
بارك الله فيكم , وحاطكم وصنع لكم , وأنا ناظر لك , وهذا الاحتياط يرجع نفعه إليك
. وقيل : معناه وعدوهم وعدا حسنا ; أي إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم . ويقول الأب
لابنه : مالي إليك مصيره , وأنت إن شاء الله صاحبه إذا ملكت رشدك وعرفت تصرفك .
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلىذكر القشيري وابن عطية أن هذه الآية نزلت في قصة
عائشة حين فقدت العقد في غزوة المريسيع , وهي آية الوضوء . قال ابن عطية : لكن من
حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا , فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته , وإنما
أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم , وقد ذكرنا في آية { النساء { خلاف هذا , والله
أعلم . ومضمون هذه الآية داخل فيما أمر به من الوفاء بالعقود وأحكام الشرع , وفيما
ذكر من إتمام النعمة ; فإن هذه الرخصة من إتمام النعم . واختلف العلماء في المعنى
المراد بقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة { على أقوال ; فقالت طائفة : هذا لفظ عام في
كل قيام إلى الصلاة , سواء كان القائم متطهرا أو محدثا ; فإنه ينبغي له إذا قام إلى
الصلاة أن يتوضأ , وكان علي يفعله ويتلو هذه الآية ; ذكره أبو محمد الدارمي في
مسنده , وروي مثله عن عكرمة , وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة . قلت
: فالآية على هذا محكمة لا نسخ فيها , وقالت طائفة : الخطاب خاص بالنبي صلى الله
عليه وسلم ; قال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل : إن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه ; فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من
حدث , وقال علقمة بن الفغواء عن أبيه - وهو من الصحابة , وكان دليل رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى تبوك : نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ;
لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء , ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك
; فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو للقيام إلى الصلاة فقط دون سائر
الأعمال , وقالت طائفة : المراد بالآية الوضوء لكل صلاة طلبا للفضل ; وحملوا الأمر
على الندب , وكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر يتوضئون لكل صلاة طلبا للفضل , وكان
عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد ,
إرادة البيان لأمته صلى الله عليه وسلم . قلت : وظاهر هذا القول أن الوضوء لكل صلاة
قبل ورود الناسخ كان مستحبا لا إيجابا وليس كذلك ; فإن الأمر إذا ورد , مقتضاه
الوجوب ; لا سيما عند الصحابة رضوان الله عليهم , على ما هو معروف من سيرتهم , وقال
آخرون : إن الفرض في كل وضوء كان لكل صلاة ثم نسخ في فتح مكة ; وهذا غلط لحديث أنس
قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة , وإن أمته كانت على خلاف ذلك ,
وسيأتي ; ولحديث سويد بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو بالصهباء
العصر والمغرب بوضوء واحد ; وذلك في غزوة خيبر , وهي سنة ست , وقيل : سنة سبع ,
وفتح مكة كان في سنة ثمان ; وهو حديث صحيح رواه مالك في موطئه , وأخرجه البخاري
ومسلم ; فبان بهذين الحديثين أن الفرض لم يكن قبل الفتح لكل صلاة . فإن قيل : فقد
روى مسلم عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة ,
فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد , ومسح على خفيه , فقال عمر رضي الله
عنه : لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه ; فقال : ( عمدا صنعته يا عمر ) . فلم سأله
عمر واستفهمه ؟ قيل له : إنما سأله لمخالفته عادته منذ صلاته بخيبر ; والله أعلم .
وروى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير
طاهر ; قال حميد : قلت لأنس : وكيف كنتم تصنعون أنتم ؟ قال : كنا نتوضأ وضوءا واحدا
; قال : حديث حسن صحيح ; وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الوضوء على
الوضوء نور ) فكان عليه السلام يتوضأ مجددا لكل صلاة , وقد سلم عليه رجل وهو يبول
فلم يرد عليه حتى تيمم ثم رد السلام وقال : ( إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر )
رواه الدارقطني , وقال السدي وزيد بن أسلم : معنى الآية { إذا قمتم إلى الصلاة }
يريد من المضاجع يعني النوم , والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر , ولا
سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو حدث في نفسه أم لا ؟ وفي الآية على هذا التأويل
تقديم وتأخير ; التقدير : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم , أو
جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء - يعني الملامسة الصغرى - فاغسلوا ; فتمت
أحكام المحدث حدثا أصغر . ثم قال : { وإن كنتم جنبا فاطهروا { فهذا حكم نوع آخر ;
ثم قال للنوعين جميعا : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو
لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } [ النساء : 43 ] . وقال بهذا
التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك - رحمه الله - وغيره , وقال جمهور أهل العلم :
معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ; وليس في الآية على هذا تقديم وتأخير , بل
ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله : { فاطهروا { ودخلت الملامسة الصغرى في
قوله { محدثين } . ثم ذكر بعد قوله : { وإن كنتم جنبا فاطهروا { حكم عادم الماء من
النوعين جميعا , وكانت الملامسة هي الجماع , ولا بد أن يذكر الجنب العادم الماء كما
ذكر الواجد ; وهذا تأويل الشافعي وغيره ; وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي
وقاص وابن عباس وأبي موسى الأشعري وغيرهم . قلت : وهذان التأويلان أحسن ما قيل في
الآية ; والله أعلم , ومعنى { إذا قمتم { إذا أردتم , كما قال تعالى : { فإذا قرأت
القرآن فاستعذ } [ النحل : 98 ] , أي إذا أردت ; لأن الوضوء حالة القيام إلى الصلاة
لا يمكن . الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم
إلىذكر تعالى أربعة أعضاء : الوجه وفرضه الغسل واليدين كذلك والرأس وفرضه المسح
اتفاقا واختلف في الرجلين على ما يأتي , لم يذكر سواها فدل ذلك على أن ما عداها
آداب وسنن , والله أعلم , ولا بد في غسل الوجه من نقل الماء إليه , وإمرار اليد
عليه ; وهذه حقيقة الغسل عندنا , وقد بيناه في { النساء } , وقال غيرنا : إنما عليه
إجراء الماء وليس عليه دلك بيده ; ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء وغمس وجهه
أو يده ولم يدلك يقال : غسل وجهه ويده , ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم
, فإذا حصل كفى , والوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة , وهو عضو مشتمل على أعضاء وله
طول وعرض ; فحده في الطول من مبتدإ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين , ومن الأذن إلى
الأذن في العرض , وهذا في الأمرد ; وأما الملتحي فإذا اكتسى الذقن بالشعر فلا يخلو
أن يكون خفيفا أو كثيفا ; فإن كان الأول بحيث تبين منه البشرة فلا بد من إيصال
الماء إليها , وإن كان كثيفا فقد انتقل الفرض إليه كشعر الرأس ; ثم ما زاد على
الذقن من الشعر واسترسل من اللحية , فقال سحنون عن ابن القاسم : سمعت مالكا سئل :
هل سمعت بعض أهل العلم يقول إن اللحية من الوجه فليمر عليها الماء ؟ قال : نعم ,
وتخليلها في الوضوء ليس من أمر الناس , وعاب ذلك على من فعله , وذكر ابن القاسم
أيضا عن مالك قال : يحرك المتوضئ ظاهر لحيته من غير أن يدخل يده فيها ; قال : وهي
مثل أصابع الرجلين . قال ابن عبد الحكم : تخليل اللحية واجب في الوضوء والغسل . قال
أبو عمر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء من وجوه كلها
ضعيفة . وذكر ابن خويز منداد : أن الفقهاء اتفقوا على أن تخليل اللحية ليس بواجب في
الوضوء , إلا شيء روي عن سعيد بن جبير ; قوله : ما بال الرجل يغسل لحيته قبل أن
تنبت فإذا نبتت لم يغسلها , وما بال الأمرد يغسل ذقنه ولا يغسله ذو اللحية ؟ قال
الطحاوي : التيمم واجب فيه مسح البشرة قبل نبات الشعر في الوجه ثم سقط بعده عند
جميعهم . فكذلك الوضوء . قال أبو عمر : من جعل غسل اللحية كلها واجبا جعلها وجها ;
لأن الوجه مأخوذ من المواجهة , والله قد أمر بغسل الوجه أمرا مطلقا لم يخص صاحب
لحية من أمرد ; فوجب غسلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البشرة . قلت : واختار هذا
القول ابن العربي وقال : وبه أقول ; لما روي أن النبي صلى عليه وسلم كان يغسل لحيته
, خرجه الترمذي وغيره ; فعين المحتمل بالفعل , وحكى ابن المنذر عن إسحاق أن من ترك
تخليل لحيته عامدا أعاد , وروى الترمذي عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يخلل لحيته ; قال : هذا حديث حسن صحيح ; قال أبو عمر : ومن لم يوجب غسل ما
انسدل من اللحية ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشرة , فوجب غسل ما ظهر فوق
البشرة , وما انسدل من اللحية ليس تحته ما يلزم غسله , فيكون غسل اللحية بدلا منه ,
واختلفوا أيضا في غسل ما وراء العذار إلى الأذن ; فروى ابن وهب عن مالك قال : ليس
ما خلف الصدغ الذي من وراء شعر اللحية إلى الذقن من الوجه . قال أبو عمر : لا أعلم
أحدا من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك , وقال أبو حنيفة وأصحابه :
البياض بين العذار والأذن من الوجه , وغسله واجب ; ونحوه قال الشافعي وأحمد , وقيل
: يغسل البياض استحبابا ; قال ابن العربي : والصحيح عندي أنه لا يلزم غسله إلا
للأمرد لا للمعذر . قلت : وهو اختيار القاضي عبد الوهاب ; وسبب الخلاف هل تقع عليه
المواجهة أم لا ؟ والله أعلم , وبسبب هذا الاحتمال اختلفوا هل يتناول الأمر بغسل
الوجه باطن الأنف والفم أم لا ؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب ذلك في
الوضوء والغسل , إلا أن أحمد قال : يعيد من ترك الاستنشاق في وضوئه ولا يعيد من ترك
المضمضة , وقال عامة الفقهاء : هما سنتان في الوضوء والغسل ; لأن الأمر إنما يتناول
الظاهر دون الباطن , والعرب لا تسمي وجها إلا ما وقعت به المواجهة , ثم إن الله
تعالى لم يذكرهما في كتابه , ولا أوجبهما المسلمون , ولا اتفق الجميع عليه ;
والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه , وقد مضى هذا المعنى في { النساء } , وأما
العينان فالناس كلهم مجمعون على أن داخل العينين لا يلزم غسله , إلا ما روي عن عبد
الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه ; وإنما سقط غسلهما للتأذي بذلك والحرج به
; قال ابن العربي : ولذلك كان عبد الله بن عمر لما عمي يغسل عينيه إذ كان لا يتأذى
بذلك ; وإذا تقرر هذا من حكم الوجه فلا بد من غسل جزء من الرأس مع الوجه من غير
تحديد , كما لا بد على القول بوجوب عموم الرأس من مسح جزء معه من الوجه لا يتقدر ;
وهذا ينبني على أصل من أصول الفقه وهو : { أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب مثله }
والله أعلم . وجمهور العلماء على أن الوضوء لا بد فيه من نية ; لقوله عليه السلام :
( إنما الأعمال بالنيات ) . قال البخاري : فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة
والزكاة والحج والصوم والأحكام ; وقال الله تعالى : { قل كل يعمل على شاكلته } [
الإسراء : 84 ] , يعني على نيته . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ولكن جهاد
ونية ) , وقال كثير من الشافعية : لا حاجة إلى نية ; وهو قول الحنفية ; قالوا : لا
تجب النية إلا في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها , فأما ما
كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقارنه ,
والطهارة شرط ; فإن من لا صلاة عليه لا يجب عليه فرض الطهارة , كالحائض والنفساء .
احتج علماؤنا وبعض الشافعية بقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم }
فلما وجب فعل الغسل كانت النية شرطا في صحة الفعل ; 0 لأن الفرض من قبل الله تعالى
فينبغي أن يجب فعل ما أمر الله به ; فإذا قلنا : إن النية لا تجب عليه لم يجب عليه
القصد إلى فعل ما أمره الله تعالى , ومعلوم أن الذي اغتسل تبردا أو لغرض ما , قصد
أداء الواجب ; وصح في الحديث أن الوضوء يكفر ; فلو صح بغير نية لما كفر , وقال
تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } [ البينة : 5 ] . قال ابن
العربي , قال بعض علمائنا : إن من خرج إلى النهر بنية الغسل أجزأه , وإن عزبت نيته
في الطريق , ولو خرج إلى الحمام فعزبت في أثناء الطريق بطلت النية . قال القاضي أبو
بكر بن العربي رضي الله عنه : فركب على هذا سفاسفة المفتين أن نية الصلاة تتخرج على
القولين , وأوردوا فيها نصا عمن لا يفرق بين الظن واليقين بأنه قال : يجوز أن تتقدم
فيها النية على التكبير ; ويا لله ويا للعالمين من أمة أرادت أن تكون مفتية مجتهدة
فما وفقها الله ولا سددها ! ; اعلموا رحمكم الله أن النية في الوضوء مختلف في
وجوبها بين العلماء , وقد اختلف فيها قول مالك ; فلما نزلت عن مرتبة الاتفاق سومح
في تقديمها في بعض المواضع , فأما الصلاة فلم يختلف أحد من الأئمة فيها , وهي أصل
مقصود , فكيف يحمل الأصل المقصود المتفق عليه على الفرع التابع المختلف فيه ! هل
هذا إلا غاية الغباوة ؟ وأما الصوم فإن الشرع رفع الحرج فيه لما كان ابتداؤه في وقت
الغفلة بتقديم النية عليه . قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق { واختلف الناس في
دخول المرافق في التحديد ; فقال قوم : نعم ; لأن ما بعد { إلى { إذا كان من نوع ما
قبلها دخل فيه ; قال سيبويه وغيره , وقد مضى هذا في { البقرة { مبينا , وقيل : لا
يدخل المرفقان في الغسل ; والروايتان مرويتان عن مالك ; الثانية لأشهب ; والأولى
عليها أكثر العلماء وهو الصحيح ; لما رواه الدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه , وقد قال بعضهم : إن { إلى { بمعنى
مع , كقولهم : الذود إلى الذود إبل , أي مع الذود , وهذا لا يحتاج إليه كما بيناه
في { النساء } ; ولأن اليد عند العرب تقع على أطراف الأصابع إلى الكتف , وكذلك
الرجل تقع على الأصابع إلى أصل الفخذ ; فالمرفق داخل تحت اسم اليد , فلو كان المعنى
مع المرافق لم يفد , فلما قال : { إلى { اقتطع من حد المرافق عن الغسل , وبقيت
المرافق مغسولة إلى الظفر , وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى ; قال ابن
العربي : وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمد فإنه قال : إن قوله { إلى
المرافق { حد للمتروك من اليدين لا للمغسول فيهما ; ولذلك تدخل المرافق في الغسل .
قلت : ولما كان اليد والرجل تنطلق في اللغة على ما ذكرنا كان أبو هريرة يبلغ
بالوضوء إبطه وساقه ويقول : سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول : ( تبلغ الحلية من
المؤمن حيث يبلغ الوضوء ) . قال القاضي عياض : والناس مجمعون على خلاف هذا , وألا
يتعدى بالوضوء حدوده ; لقوله عليه السلام : ( فمن زاد فقد تعدى وظلم ) . وقال غيره
: كان هذا الفعل مذهبا له ومما انفرد به , ولم يحكه عن النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما استنبطه من قوله عليه السلام : ( أنتم الغر المحجلون ) ومن قوله : ( تبلغ
الحلية ) كما ذكر . قوله تعالى : { وامسحوا برءوسكم { تقدم في { النساء { أن المسح
لفظ مشترك , وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه ,
فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء وعين الوجه للغسل بقي باقيه للمسح , ولو لم يذكر
الغسل للزم مسح جميعه , ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم ; وقد
أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه ; فإنه سئل عن الذي يترك بعض رأسه في
الوضوء فقال : أرأيت إن ترك غسل بعض وجهه أكان يجزئه ؟ ووضح بهذا الذي ذكرناه أن
الأذنين من الرأس , وأن حكمهما حكم الرأس خلافا للزهري , حيث قال : هما من الوجه
يغسلان معه , وخلافا للشعبي , حيث قال : ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس
; وهو قول الحسن وإسحاق , وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي , وسيأتي بيان حجتهما ;
وإنما سمي الرأس رأسا لعلوه ونبات الشعر فيه , ومنه رأس الجبل ; وإنما قلنا إن
الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر : إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري وغودر عند
الملتقى ثم سائري واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولا ; ثلاثة لأبي
حنيفة , وقولان للشافعي , وستة أقوال لعلمائنا ; والصحيح منها واحد وهو وجوب
التعميم لما ذكرناه . وأجمع العلماء على أن من مسح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه
; والباء مؤكدة زائدة ليست للتبعيض : والمعنى وامسحوا رءوسكم , وقيل : دخولها هنا
كدخولها في التيمم في قوله : { فامسحوا بوجوهكم { فلو كان معناها التبعيض لأفادته
في ذلك الموضع , وهذا قاطع . وقيل : إنما دخلت لتفيد معنى بديعا وهو أن الغسل لغة
يقتضي مغسولا به , والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به ; فلو قال : وامسحوا رءوسكم لأجزأ
المسح باليد إمرارا من غير شيء على الرأس ; فدخلت الباء لتفيد ممسوحا به وهو الماء
, فكأنه قال : وامسحوا برءوسكم الماء ; وذلك فصيح في اللغة على وجهين ; إما على
القلب كما أنشد سيبويه : كنواح ريش حمامة بخدية 53 ومسحت باللثتين عصف الإثمد
واللثة هي الممسوحة بعصف الإثمد فقلب , وأما على الاشتراك في الفعل والتساوي في
نسبته كقول الشاعر : مثل القنافذ هداجون قد بلغت نجران أو بلغت سوءاتهم هجر فهذا ما
لعلمائنا في معنى الباء , وقال الشافعي : احتمل قول الله تعالى : { وامسحوا برءوسكم
{ بعض الرأس ومسح جميعه فدلت السنة أن مسح بعضه يجزئ , وهو أن النبي صلى الله عليه
وسلم مسح بناصيته ; وقال في موضع آخر : فإن قيل قد قال الله عز وجل : { فامسحوا
بوجوهكم { في التيمم أيجزئ بعض الوجه فيه ؟ قيل له : مسح الوجه في التيمم بدل من
غسله ; فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل منه , ومسح الرأس أصل ; فهذا فرق
ما بينهما . أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا : لعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل
ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم في السفر وهو مظنة الأعذار
, وموضع الاستعجال والاختصار , وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقات والأخطار ; ثم هو
لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة ; أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة ; فلو
لم يكن مسح جميع الرأس واجبا لما مسح على العمامة ; والله أعلم . وجمهور العلماء
على أن مسحة واحدة موعبة كاملة تجزئ , وقال الشافعي : يمسح رأسه ثلاثا ; وروي عن
أنس وسعيد بن جبير وعطاء , وكان ابن سيرين يمسح مرتين . قال أبو داود : وأحاديث
عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة ; فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا , قالوا
فيها : ومسح برأسه ولم يذكروا عددا . واختلفوا من أين يبدأ بمسحه ; فقال مالك :
يبدأ بمقدم رأسه , ثم يذهب بيديه إلى مؤخره , ثم يردهما إلى مقدمه ; على حديث عبد
الله بن زيد أخرجه مسلم ; وبه يقول الشافعي وابن حنبل , وكان الحسن بن حي يقول :
يبدأ بمؤخر الرأس ; على حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء ; وهو حديث يختلف في ألفاظه
, وهو يدور على عبد الله بن محمد بن عقيل وليس بالحافظ عندهم ; أخرجه أبو داود من
رواية بشر بن المفضل عن عبد الله عن الربيع , وروى ابن عجلان عنه عن الربيع : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ عندنا فمسح الرأس كله من قرن الشعر كل ناحية
بمنصب الشعر , لا يحرك الشعر عن هيئته ; ورويت هذه الصفة عن ابن عمر , وأنه كان
يبدأ من وسط رأسه , وأصح ما في هذا الباب حديث عبد الله بن زيد ; وكل من أجاز بعض
الرأس فإنما يرى ذلك البعض في مقدم الرأس . وروي عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا :
أي نواحي رأسك مسحت أجزأ عنك , ومسح عمر اليافوخ فقط , والإجماع منعقد على استحسان
المسح باليدين معا , وعلى الإجزاء إن مسح بيد واحدة , واختلف فيمن مسح بإصبع واحدة
حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس ; فالمشهور أن ذلك يجزئ , وهو قول سفيان الثوري ;
قال سفيان : إن مسح رأسه بإصبع واحدة أجزأه , وقيل : إن ذلك لا يجزئ ; لأنه خروج عن
سنة المسح وكأنه لعب , إلا أن يكون ذلك عن ضرورة مرض فينبغي ألا يختلف في الإجزاء .
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع ; واختلفوا
في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أو سنة - بعد الإجماع على أن المسحة الأولى
فرض بالقرآن - فالجمهور على أنه سنة , وقيل : هو فرض . فلو غسل متوضئ رأسه بدل
المسح فقال ابن العربي : لا نعلم خلافا أن ذلك يجزئه , إلا ما أخبرنا الإمام فخر
الإسلام الشاشي في الدرس عن أبي العباس بن القاص من أصحابهم قال : لا يجزئه , وهذا
تولج في مذهب الداودية الفاسد من اتباع الظاهر المبطل للشريعة الذي ذمه الله في
قوله : { يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا } [ الروم : 7 ] , وقال تعالى : { أم بظاهر
من القول } [ الرعد : 33 ] وإلا فقد جاء هذا الغاسل بما أمر وزيادة . فإن قيل : هذه
زيادة خرجت عن اللفظ المتعبد به ; قلنا : ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى
المحل ; وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح . وأما الأذنان فهما من
الرأس عند مالك وأحمد والثوري وأبي حنيفة وغيرهم , ثم اختلفوا في تجديد الماء ;
فقال مالك وأحمد : يستأنف لهما ماء جديدا سوى الماء الذي مسح به الرأس , على ما فعل
ابن عمر ; وهكذا قال الشافعي في تجديد الماء , وقال : هما سنة على حالهما لا من
الوجه ولا من الرأس ; لاتفاق العلماء على أنه لا يحلق ما عليهما من الشعر في الحج ;
وقول أبي ثور في هذا كقول الشافعي , وقال الثوري وأبو حنيفة : يمسحان مع الرأس بماء
واحد ; وروي عن جماعة من السلف مثل هذا القول من الصحابة والتابعين , وقال داود :
إن مسح أذنيه فحسن , وإلا فلا شيء عليه ; إذ ليستا مذكورتين في القرآن . قيل له :
اسم الرأس تضمنهما كما بيناه , وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في كتاب النسائي وأبي
داود وغيرهما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهرهما وباطنهما , وأدخل أصابعه في
صماخيه , وإنما يدل عدم ذكرهما من الكتاب على أنهما ليستا بفرض كغسل الوجه واليدين
, وثبتت سنة مسحهما بالسنة , وأهل العلم يكرهون للمتوضئ ترك مسح أذنيه ويجعلونه
تارك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم , ولا يوجبون عليه إعادة إلا إسحاق فإنه
قال : إن ترك مسح أذنيه لم يجزه , وقال أحمد : إن تركهما عمدا أحببت أن يعيد , وروي
عن علي بن زياد من أصحاب مالك أنه قال : من ترك سنة من سنن الوضوء أو الصلاة عامدا
أعاد ; وهذا عند الفقهاء ضعيف , وليس لقائله سلف ولا له حظ من النظر , ولو كان كذلك
لم يعرف الفرض الواجب من غيره ; والله أعلم . احتج من قال : هما من الوجه بما ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : ( سجد وجهي للذي خلقه وصوره
وشق سمعه وبصره ) فأضاف السمع إلى الوجه فثبت أن يكون لهما حكم الوجه , وفي مصنف
أبي داود من حديث عثمان : فغسل بطونهما وظهورهما مرة واحدة , ثم غسل رجليه ثم قال :
أين السائلون عن الوضوء ؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ . احتج من
قال : يغسل ظاهرهما مع الوجه , وباطنها يمسح مع الرأس بأن الله عز وجل قد أمر بغسل
الوجه وأمر بمسح الرأس ; فما واجهك من الأذنين وجب غسله ; لأنه من الوجه وما لم
يواجهك وجب مسحه لأنه من الرأس , وهذا ترده الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما من حديث علي وعثمان وابن عباس والربيع وغيرهم . احتج
من قال : هما من الرأس بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث الصنابحي : ( فإذا مسح
رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه ) الحديث أخرجه مالك . قوله تعالى : "
وأرجلكم { قرأ نافع وابن عامر والكسائي { وأرجلكم { بالنصب ; وروى الوليد بن مسلم
عن نافع أنه قرأ { وأرجلكم { بالرفع وهي قراءة الحسن والأعمش سليمان ; وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو وحمزة { وأرجلكم { بالخفض وبحسب هذه القراءات اختلف الصحابة
والتابعون ; فمن قرأ بالنصب جعل العام { اغسلوا { وبنى على أن الفرض في الرجلين
الغسل دون المسح , وهذا مذهب الجمهور والكافة من العلماء , وهو الثابت من فعل النبي
صلى الله عليه وسلم , واللازم من قوله في غير ما حديث , وقد رأى قوما يتوضئون
وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته ( ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء ) . ثم إن
الله حدهما فقال : { إلى الكعبين { كما قال في اليدين { إلى المرافق { فدل على وجوب
غسلهما ; والله أعلم , ومن قرأ بالخفض جعل العامل الباء , قال ابن العربي : اتفقت
العلماء على وجوب غسلهما , وما علمت من رد ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين ,
والرافضة من غيرهم , وتعلق الطبري بقراءة الخفض . قلت : قد روي عن ابن عباس أنه قال
: الوضوء غسلتان ومسحتان , وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال : اغسلوا
وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم , فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من
قدميه , فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما . فسمع ذلك أنس بن مالك فقال : صدق
الله وكذب الحجاج ; قال الله وتعالى : { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } . قال : وكان
إذا مسح رجليه بلهما , وروي عن أنس أيضا أنه قال : نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل
, وكان عكرمة يمسح رجليه وقال : ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح , وقال
عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح ; ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا , ويلغى
ما كان مسحا , وقال قتادة : افترض الله غسلتين ومسحتين , وذهب ابن جرير الطبري إلى
أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح , وجعل القراءتين كالروايتين ; قال النحاس :
ومن أحسن ما قيل فيه أن المسح والغسل واجبان جميعا , فالمسح واجب على قراءة من قرأ
بالخفض , والغسل واجب على قراءة من قرأ بالنصب , والقراءتان بمنزلة آيتين . قال ابن
عطية : وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل . قلت : وهو
الصحيح ; فإن لفظ المسح مشترك , يطلق بمعنى المسح ويطلق بمعنى الغسل ; قال الهروي :
أخبرنا الأزهري أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان بن سعيد الداري عن أبي حاتم عن أبي
زيد الأنصاري قال : المسح في كلام العرب يكون غسلا ويكون مسحا , ومنه يقال للرجل
إذا توضأ فغسل أعضاءه : قد تمسح ; ويقال : مسح الله ما بك إذا غسلك وطهرك من الذنوب
, فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل فترجح قول من قال : إن
المراد بقراءة الخفض الغسل ; بقراءة النصب التي لا احتمال فيها , وبكثرة الأحاديث
الثابتة بالغسل , والتوعد على ترك غسلها في أخبار صحاح لا تحصى كثرة أخرجها الأئمة
; ثم إن المسح في الرأس إنما دخل بين ما يغسل لبيان الترتيب على أنه مفعول قبل
الرجلين , التقدير فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا
برءوسكم ; فلما كان الرأس مفعولا قبل الرجلين قدم عليهما في التلاوة - والله أعلم -
لا أنهما مشتركان مع الرأس لتقدمه عليهما في صفة التطهير , وقد روى عاصم بن كليب عن
أبي عبد الرحمن السلمي قال : قرأ الحسن والحسين - رحمة الله عليهما - علي ( وأرجلكم
) فسمع علي ذلك وكان يقضي بين الناس فقال : ( وأرجلكم ) هذا من المقدم والمؤخر من
الكلام , وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : اغسلوا الأقدام إلى
الكعبين , وكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قرآ ( وأرجلكم ) بالنصب , وقد قيل
: إن الخفض في الرجلين إنما جاء مقيدا لمسحهما لكن إذا كان عليهما خفان , وتلقينا
هذا القيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم , إذ لم يصح عنه أنه مسح رجليه إلا
وعليهما خفان , فبين صلى الله عليه وسلم بفعله الحال التي تغسل فيه الرجل والحال
التي تمسح فيه , وهذا حسن . فإن قيل : إن المسح على الخفين منسوخ بسورة ( المائدة )
- وقد قاله ابن عباس , ورد المسح أبو هريرة وعائشة , وأنكره مالك في رواية عنه -
فالجواب أن من نفى شيئا وأثبته غيره فلا حجة للنافي , وقد أثبت المسح على الخفين
عدد كثير من الصحابة وغيرهم , وقد قال الحسن : حدثني سبعون رجلا من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم أنهم مسحوا على الخفين ; وقد ثبت بالنقل الصحيح عن همام قال : بال
جرير ثم توضأ ومسح على خفيه ; قال إبراهيم النخعي : وإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه , وقال إبراهيم النخعي : كان يعجبهم هذا الحديث ;
لأن إسلام جرير كان بعد نزول ( المائدة ) وهذا نص يرد ما ذكروه وما احتجوا به من
رواية الواقدي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن جريرا أسلم في ستة عشر من شهر
رمضان , وأن ( المائدة ) نزلت في ذي الحجة يوم عرفات , وهذا حديث لا يثبت لوهاه ;
وإنما نزل منها يوم عرفة { اليوم أكملت لكم دينكم { على ما تقدم ; قال أحمد بن حنبل
: أنا أستحسن حديث جرير في المسح على الخفين ; لأن إسلامه كان بعد نزول ( المائدة )
وأما ما روي عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما فلا يصح , أما عائشة فلم يكن عندها
بذلك علم ; ولذلك ردت السائل إلى علي رضي الله عنه وأحالته عليه فقالت : سله فإنه
كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ; الحديث , وأما مالك فما روي عنه من
الإنكار فهو منكر لا يصح , والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال : إني كنت آخذ
في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصرا فيما يجب عليه , وعلى هذا حمل أحمد بن
حنبل ما رواه ابن وهب عنه أنه قال : لا أمسح في حضر ولا سفر . قال أحمد : كما روي
عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ وقال : حبب إلي الوضوء ;
ونحوه عن أبي أيوب , وقال أحمد رضي الله عنه : فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر
وأبو أيوب ومالك لم أنكره عليه , وصلينا خلفه ولم نعبه , إلا أن يترك ذلك ولا يراه
كما صنع أهل البدع , فلا يصلى خلفه , والله أعلم , وقد قيل : إن قوله { وأرجلكم }
معطوف على اللفظ دون المعنى , وهذا أيضا يدل على الغسل فإن المراعى المعنى لا اللفظ
, وإنما خفض للجوار كما تفعل العرب ; وقد جاء هذا في القرآن وغيره قال الله تعالى :
{ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس } [ الرحمن : 35 ] بالجر لأن النحاس الدخان , وقال
: { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } [ البروج : 21 - 22 ] بالجر . قال امرؤ القيس :
[ كأن أبانا في أفانين دقه ] كبير أناس في بجاد مزمل فخفض مزمل بالجوار , وإن
المزمل الرجل وإعرابه الرفع ; قال زهير : لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور
والقطر قال أبو حاتم : كان الوجه القطر بالرفع ولكنه جره على جوار المور ; كما قالت
العرب : هذا جحر ضب خرب ; فجروه وإنما هو رفع , وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة ورده
النحاس وقال : هذا القول غلط عظيم ; لأن الجوار لا يكون في الكلام أن يقاس عليه ,
وإنما هو غلط ونظيره الإقواء . قلت : والقاطع في الباب من أن فرض الرجلين الغسل ما
قدمناه , وما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام ( ويل للأعقاب وبطون الأقدام من
النار ) فخوفنا بذكر النار على مخالفة مراد الله عز وجل , ومعلوم أن النار لا يعذب
بها إلا من ترك الواجب , ومعلوم أن المسح ليس شأنه الاستيعاب ولا خلاف بين القائلين
بالمسح على الرجلين أن ذلك على ظهورهما لا على بطونهما , فتبين بهذا الحديث بطلان
قول من قال بالمسح , إذ لا مدخل لمسح بطونهما عندهم , وإنما ذلك يدرك بالغسل لا
بالمسح , ودليل آخر من جهة الإجماع ; وذلك أنهم اتفقوا على أن من غسل قدميه فقد أدى
الواجب عليه , واختلفوا فيمن مسح قدميه ; فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا
فيه , ونقل الجمهور كافة عن كافة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه كان يغسل رجليه
في وضوئه مرة واثنتين وثلاثا حتى ينقيهما ; وحسبك بهذا حجة في الغسل مع ما بيناه ,
فقد وضح وظهر أن قراءة الخفض المعني فيها الغسل لا المسح كما ذكرنا , وأن العامل في
قوله { وأرجلكم { قوله : { فاغسلوا { والعرب قد تعطف الشيء على الشيء بفعل ينفرد به
أحدهما تقول : أكلت الخبز واللبن أي وشربت اللبن ; ومنه قول الشاعر : علفتها تبنا
وماء باردا وقال آخر : ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا وقال آخر : وأطفلت
بالجلهتين ظباؤها ونعامها وقال آخر : شراب ألبان وتمر وأقط التقدير : علفتها تبنا
وسقيتها ماء , ومتقلدا سيفا وحاملا رمحا , وأطفلت بالجلهتين ظباؤها وفرخت نعامها ;
والنعام لا يطفل إنما يفرخ , وأطفلت كان لها أطفال , والجلهتان جنبتا الوادي ,
وشراب ألبان وآكل تمر ; فيكون قوله : { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم { عطف بالغسل على
المسح حملا على المعنى والمراد الغسل ; والله أعلم . قوله تعالى : { إلى الكعبين }
روى البخاري : حدثني موسى قال أنبأنا وهيب عن عمرو - هو ابن يحيى - عن أبيه قال
شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا
بتور من ماء , فتوضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ; فأكفأ على يده من التور
فغسل يديه ثلاثا , ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات , ثم
أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا , ثم أدخل يديه فغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا , ثم أدخل
يده فمسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة , ثم غسل رجليه إلى الكعبين ; فهذا
الحديث دليل على أن الباء في قوله { وامسحوا برءوسكم { زائدة لقوله : فمسح رأسه ولم
يقل برأسه , وأن مسح الرأس مرة , وقد جاء مبينا في كتاب مسلم من حديث عبد الله بن
زيد في تفسير قوله : فأقبل بهما وأدبر , وبدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه , ثم
ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه , واختلف العلماء في الكعبين فالجمهور على
أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل , وأنكر الأصمعي قول الناس : إن الكعب في ظهر
القدم ; قاله في ( الصحاح ) وروي عن ابن القاسم , وبه قال محمد بن الحسن ; قال ابن
عطية : ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا , ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في
ذلك بلفظ فيه تخليط وإيهام ; وقال الشافعي رحمه الله : لم أعلم مخالفا في أن
الكعبين هما العظمان في مجمع مفصل الساق ; وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال
: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب
, وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم . قلت : هذا هو الصحيح لغة وسنة فإن الكعب في
كلام العرب مأخوذ من العلو ومنه سميت الكعبة ; وكعبت المرأة إذا فلك ثديها , وكعب
القناة أنبوبها , وأنبوب ما بين كل عقدتين كعب , وقد يستعمل في الشرف والمجد تشبيها
, ومنه الحديث : ( والله لا يزال كعبك عاليا ) , وأما السنة فقوله صلى الله عليه
وسلم فيما رواه أبو دواد عن النعمان بن بشير ( والله لتقيمن صفوفكم أو ليخالفن الله
بين قلوبكم ) , قال : فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه , وركبته بركبة صاحبه
وكعبه بكعبه والعقب هو مؤخر الرجل تحت العرقوب , والعرقوب هو مجمع مفصل الساق
والقدم , ومنه الحديث ( ويل للعراقيب من النار ) يعني إذا لم تغسل ; كما قال : (
ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار ) . الخامسة عشرة : قال ابن وهب عن مالك : ليس
على أحد تخليل أصابع رجليه في الوضوء ولا في الغسل , ولا خير في الجفاء والغلو ;
قال ابن وهب : تخليل أصابع الرجلين مرغب فيه ولا بد من ذلك في أصابع اليدين ; وقال
ابن القاسم عن مالك : من لم يخلل أصابع رجليه فلا شيء عليه , وقال محمد بن خالد عن
ابن القاسم عن مالك فيمن توضأ على نهر فحرك رجليه : إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه
; قال ابن القاسم : وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأه . قلت : الصحيح أنه لا
يجزئه فيهما إلا غسل ما بينهما كسائر الرجل إذ ذلك من الرجل , كما أن ما بين أصابع
اليد من اليد , ولا اعتبار بانفراج أصابع اليدين وانضمام أصابع الرجلين , فإن
الإنسان مأمور بغسل الرجل جميعها كما هو مأمور بغسل اليد جميعها , وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره , مع ما ثبت أنه عليه
الصلاة والسلام كان يغسل رجليه ; وهذا يقتضي العموم . وقد كان مالك رحمه الله في
آخر عمره يدلك أصابع رجليه بخنصره أو ببعض أصابعه لحديث حدثه به ابن وهب عن ابن
لهيعة والليث بن سعد عن يزيد بن عمرو الغفاري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد
بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فيخلل بخنصره ما بين
أصابع رجليه ; قال ابن وهب , فقال لي مالك : إن هذا لحسن , وما سمعته قط إلا الساعة
; قال ابن وهب : وسمعته سئل بعد ذلك عن تخليل الأصابع في الوضوء فأمر به , وقد روى
حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خللوا بين الأصابع لا تخللها النار )
وهذا نص في الوعيد على ترك التخليل ; فثبت ما قلناه , والله الموفق . ألفاظ الآية
تقتضي الموالاة بين الأعضاء , وهي إتباع المتوضئ الفعل الفعل إلى آخره من غير تراخ
بين أبعاضه , ولا فصل بفعل ليس منه ; واختلف العلماء في ذلك ; فقال ابن أبي سلمة
وابن وهب : ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان , فمن فرق بين أعضاء وضوئه متعمدا
أو ناسيا لم يجزه , وقال ابن عبد الحكم : يجزئه ناسيا ومتعمدا , وقال مالك في }
المدونة { وكتاب محمد : إن الموالاة ساقطة ; وبه قال الشافعي , وقال مالك وابن
القاسم : إن فرقه متعمدا لم يجزه ويجزئه ناسيا ; وقال مالك في رواية ابن حبيب :
يجزئه في المغسول ولا يجزئه في الممسوح ; فهذه خمسة أقوال ابتنيت على أصلين : الأول
: أن الله سبحانه وتعالى أمر أمرا مطلقا فوال أو فرق , وإنما المقصود وجود الغسل في
جميع الأعضاء عند القيام إلى الصلاة , والثاني : أنها عبادات ذات أركان مختلفة فوجب
فيها التوالي كالصلاة ; وهذا أصح , والله أعلم . السابعة عشرة : وتتضمن ألفاظ الآية
أيضا الترتيب وقد اختلف فيه ; فقال الأبهري : الترتيب سنة , وظاهر المذهب أن
التنكيس للناسي يجزئ , واختلف في العامد فقيل : يجزئ ويرتب في المستقبل , وقال أبو
بكر القاضي وغيره : لا يجزئ لأنه عابث , وإلى هذا ذهب الشافعي وسائر أصحابه , وبه
يقول أحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وإسحاق وأبو ثور , وإليه ذهب أبو مصعب
صاحب مالك وذكره في مختصره , وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم في أن من قدم في
الوضوء يديه على وجهه , ولم يتوضأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك
الوضوء , وذهب مالك في أكثر الروايات عنه وأشهرها أن { الواو { لا توجب التعقيب ولا
تعطي رتبة , وبذلك قال أصحابه وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والليث
بن سعد والمزني وداود بن علي ; قال الكيا الطبري ظاهر قوله تعالى : { فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم { يقتضي الإجزاء فرق أو جمع أو والى على ما هو الصحيح من مذهب
الشافعي , وهو مذهب الأكثرين من العلماء . قال أبو عمر : إلا أن مالكا يستحب له
استئناف الوضوء على النسق لما يستقبل من الصلاة , ولا يرى ذلك واجبا عليه ; هذا
تحصيل مذهبه , وقد روى علي بن زياد عن مالك قال : من غسل ذراعيه ثم وجهه ثم ذكر
مكانه أعاد غسل ذراعيه , وإن لم يذكر حتى صلى أعاد الوضوء والصلاة ; قال علي ثم قال
بعد ذلك : لا يعيد الصلاة ويعيد الوضوء لما يستأنف . وسبب الخلاف ما قال بعضهم : إن
{ الفاء { توجب التعقيب في قوله : { فاغسلوا { فإنها لما كانت جوابا للشرط ربطت
المشروط به , فاقتضت الترتيب في الجميع ; وأجيب بأنه إنما اقتضت البداءة في الوجه
إذ هو جزاء الشرط وجوابه , وإنما كنت تقتضي الترتيب في الجميع لو كان جواب الشرط
معنى واحدا , فإذا كانت جملا كلها جوابا لم تبال بأيها بدأت , إذ المطلوب تحصيلها .
قيل : إن الترتيب إنما جاء من قبل الواو ; وليس كذلك لأنك تقول : تقاتل زيد وعمرو ,
وتخاصم بكر وخالد , فدخولها في باب المفاعلة يخرجها عن الترتيب , والصحيح أن يقال :
إن الترتيب متلقى من وجوه أربعة : الأول : أن يبدأ بما بدأ الله به كما قال عليه
الصلاة والسلام حين حج : ( نبدأ بما بدأ الله به ) . الثاني : من إجماع السلف فإنهم
كانوا يرتبون . الثالث : من تشبيه الوضوء بالصلاة . الرابع : من مواظبة رسول الله
صلى الله عليه وسلم على ذلك . احتج من أجاز ذلك بالإجماع على أن لا ترتيب في غسل
أعضاء الجنابة , فكذلك غسل أعضاء الوضوء ; لأن المعنى في ذلك الغسل لا التبدية ,
وروي عن علي أنه قال : ما أبالي إذا أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت , وعن عبد الله بن
مسعود قال : لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك ; قال الدارقطني : هذا مرسل ولا يثبت ,
والأولى وجوب الترتيب , والله أعلم . إذا كان في الاشتغال بالوضوء فوات الوقت لم
يتيمم عند أكثر العلماء , ومالك يجوز التيمم في مثل ذلك ; لأن التيمم إنما جاء في
الأصل لحفظ وقت الصلاة , ولولا ذلك لوجب تأخير الصلاة إلى حين وجود الماء . احتج
الجمهور بقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا { وهذا واجد , فقد عدم شرط صحة
التيمم فلا يتيمم . وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن إزالة النجاسة ليست
بواجبة ; لأنه قال : { إذا قمتم إلى الصلاة { ولم يذكر الاستنجاء وذكر الوضوء , فلو
كانت إزالتها واجبة لكانت أول مبدوء به ; وهو قول أصحاب أبي حنيفة , وهي رواية أشهب
عن مالك , وقال ابن وهب عن مالك : إزالتها واجبة في الذكر والنسيان ; وهو قول
الشافعي , وقال ابن القاسم : تجب إزالتها مع الذكر , وتسقط مع النسيان , وقال أبو
حنيفة : تجب إزالة النجاسة إذا زادت على قدر الدرهم البغلي - يريد الكبير الذي هو
على هيئة المثقال - قياسا على فم المخرج المعتاد الذي عفي عنه , والصحيح رواية ابن
وهب ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صاحبي القبرين : ( إنهما ليعذبان وما
يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله )
ولا يعذب إلا على ترك الواجب ; ولا حجة في ظاهر القرآن ; لأن الله سبحانه وتعالى
إنما بين من آية الوضوء صفة الوضوء خاصة , ولم يتعرض لإزالة النجاسة ولا غيرها .
ودلت الآية أيضا على المسح على الخفين كما بينا , ولمالك في ذلك ثلاث روايات :
الإنكار مطلقا كما يقوله الخوارج , وهذه الرواية منكرة وليست بصحيحة , وقد تقدم .
الثانية : يمسح في السفر دون الحضر ; لأن أكثر الأحاديث بالمسح إنما هي في السفر ;
وحديث السباطة يدل على جواز المسح في الحضر , أخرجه مسلم من حديث حذيفة قال : فلقد
رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى ; فأتى سباطة قوم خلف حائط , فقام
كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت منه , فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ - زاد في
رواية - فتوضأ ومسح على خفيه , ومثله حديث شريح بن هانئ قال : أتيت عائشة أسألها عن
المسح على الخفين فقالت : عليك بابن أبي طالب فسله ; فإنه كان يسافر مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ; فسألناه فقال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر
ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة ; - وهي الرواية الثالثة - يمسح حضرا وسفرا
; وقد تقدم ذكرها . ويمسح المسافر عند مالك على الخفين بغير توقيت , وهو قول الليث
بن سعد ; قال ابن وهب سمعت مالكا يقول : ليس عند أهل بلدنا في ذلك وقت . وروى أبو
داود من حديث أبي بن عمارة أنه قال : يا رسول الله أمسح على الخفين ؟ قال : ( نعم )
قال : يوما ؟ قال : ( يوما ) قال : ويومين ؟ قال : ( ويومين ) قال : وثلاثة أيام ؟
قال : ( نعم وما شئت ) وفي رواية ( نعم وما بدا لك ) . قال أبو داود : وقد اختلف في
إسناده وليس بالقوي . وقال الشافعي وأحمد بن حنبل والنعمان والطبري : يمسح المقيم
يوما وليلة , والمسافر ثلاثة أيام على حديث شريح وما كان مثله ; وروي عن مالك في
رسالته إلى هارون أو بعض الخلفاء , وأنكرها أصحابه . والمسح عند جميعهم لمن لبس
خفيه على وضوء ; لحديث المغيرة بن شعبة أنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم
ذات ليلة في مسير - الحديث - وفيه ; فأهويت لأنزع خفيه فقال : ( دعهما فإني
أدخلتهما طاهرتين ) ومسح عليهما . ورأى أصبغ أن هذه طهارة التيمم , وهذا بناء منه
على أن التيمم يرفع الحدث . وشذ داود فقال : المراد بالطهارة هاهنا هي الطهارة من
النجس فقط ; فإذا كانت رجلاه طاهرتين من النجاسة جاز المسح على الخفين , وسبب
الخلاف الاشتراك في اسم الطهارة . ويجوز عند مالك المسح على الخف وإن كان فيه خرق
يسير : قال ابن خويز منداد : معناه أن يكون الخرق لا يمنع من الانتفاع به ومن لبسه
, ويكون مثله يمشى فيه , وبمثل قول مالك هذا قال الليث والثوري والشافعي والطبري ;
وقد روي عن الثوري والطبري إجازة المسح على الخف المخرق جملة , وقال الأوزاعي :
يمسح على الخف وعلى ما ظهر من القدم ; وهو قول الطبري , وقال أبو حنيفة : إذا كان
ما ظهر من الرجل أقل من ثلاث أصابع مسح , ولا يمسح إذا ظهر ثلاث ; وهذا تحديد يحتاج
إلى توقيف , ومعلوم أن أخفاف الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من التابعين كانت لا
تسلم من الخرق اليسير , وذلك متجاوز عند الجمهور منهم , وروي عن الشافعي إذا كان
الخرق في مقدم الرجل أنه لا يجوز المسح عليه . وقال الحسن بن حي : يمسح على الخف
إذا كان ما ظهر منه يغطيه الجورب , فإن ظهر شيء من القدم لم يمسح , قال أبو عمر :
هذا على مذهبه في المسح على الجوربين إذا كانا ثخينين ; وهو قول الثوري وأبي يوسف
ومحمد وهي : ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا
مجلدين , وهو أحد قولي مالك , وله قول آخر أنه لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا
مجلدين , وفي كتاب أبي داود عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
توضأ ومسح على الجوربين والنعلين ; قال أبو داود : وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث
بهذا الحديث ; لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين
; وروي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي
ولا بالمتصل . قال أبو داود : ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وأبو مسعود
والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث ; وروي ذلك عن
عمر بن الخطاب وابن عباس ; رضي الله عنهم أجمعين . قلت : وأما المسح على النعلين
فروى أبو محمد الدارمي في مسنده حدثنا أبو نعيم أخبرنا يونس عن أبي إسحاق عن عبد
خير قال : رأيت عليا توضأ ومسح على النعلين فوسع ثم قال : لولا أني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من
ظاهرهما ; قال أبو محمد الدارمي رحمه الله : هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى : "
فامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } . قلت : وقول علي - رضي الله عنه - لرأيت أن
باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما مثله قال في المسح على الخفين , أخرجه أبو داود
عنه قال : لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه , وقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه . قال مالك والشافعي فيمن مسح
ظهور خفيه دون بطونهما : إن ذلك يجزئه ; إلا أن مالكا قال : من فعل ذلك أعاد في
الوقت ; ومن مسح على باطن الخفين دون ظاهرهما لم يجزه ; وكان عليه الإعادة في ال .
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ
كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا فيه خمس مسائل : الأولى : لما ذكر الله تعالى أمر
اليتامى وصله بذكر المواريث . ونزلت الآية في أوس بن ثابت الأنصاري , توفي وترك
امرأة يقال لها : أم كجة وثلاث بنات له منها ; فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه
يقال لهما : سويد وعرفجة ; فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته وبناته شيئا , وكانوا في
الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا , ويقولون : لا يعطى إلا من
قاتل على ظهور الخيل , وطاعن بالرمح , وضارب بالسيف , وحاز الغنيمة . فذكرت أم كجة
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما , فقالا : يا رسول الله , ولدها لا يركب
فرسا , ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا . فقال عليه السلام : ( انصرفا حتى أنظر ما يحدث
الله لي فيهن ) . فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم , وإبطالا لقولهم وتصرفهم بجهلهم ;
فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحق بالمال من الكبار , لعدم تصرفهم والنظر
في مصالحهم , فعكسوا الحكم , وأبطلوا الحكمة فضلوا بأهوائهم , وأخطئوا في آرائهم
وتصرفاتهم . الثانية : قال علماؤنا : في هذه الآية فوائد ثلاث : إحداها : بيان علة
الميراث وهي القرابة . الثانية : عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد .
الثالثة : إجمال النصيب المفروض . وذلك مبين في آية المواريث ; فكان في هذه الآية
توطئة للحكم , وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي . الثالثة : ثبت أن
أبا طلحة لما تصدق بماله - بئر حاء - وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له : (
اجعلها في فقراء أقاربك ) فجعلها لحسان وأبي . قال أنس : ( وكانا أقرب إليه مني )
. قال أبو داود : بلغني عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه قال : أبو طلحة الأنصاري
زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن
النجار . وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان في الأب الثالث وهو حرام . وأبي بن
كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار . قال الأنصاري :
بين أبي طلحة وأبي ستة آباء . قال : وعمرو بن مالك يجمع حسان وأبي بن كعب وأبا طلحة
. قال أبو عمر : في هذا ما يقضي على القرابة أنها ما كانت في هذا القعدد ونحوه , وما
كان دونه فهو أحرى أن يلحقه اسم القرابة . الرابعة : قوله تعالى : { مما قل منه أو
كثر نصيبا مفروضا { أثبت الله تعالى للبنات نصيبا في الميراث ولم يبين كم هو ;
فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة ألا يفرقا من مال أوس شيئا ; فإن
الله جعل لبناته نصيبا ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا . فنزلت { يوصيكم الله
في أولادكم } [ النساء : 11 ] إلى قوله تعالى : { الفوز العظيم } [ النساء : 13 ]
فأرسل إليهما ( أن أعطيا أم كجة الثمن مما ترك أوس , ولبناته الثلثين , ولكما بقية
المال ) . الخامسة : استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان
فيه تغيير عن حاله , كالحمام والبيت وبيدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار
أهل السهام فيها . فقال مالك : يقسم ذلك وإن لم يكن في نصيب أحدهم ما ينتفع به ;
لقوله تعالى : { مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا } . وهو قول ابن كنانة , وبه قال
الشافعي , ونحوه قول أبي حنيفة . قال أبو حنيفة : في الدار الصغيرة بين اثنين فطلب
أحدهما القسمة وأبى صاحبه قسمت له . وقال ابن أبي ليلى : إن كان فيهم من لا ينتفع
بما يقسم له فلا يقسم . وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الآخر فإنه لا يقسم ;
وهو قول أبي ثور . قال ابن المنذر : وهو أصح القولين . ورواه ابن القاسم عن مالك فيما
ذكر ابن العربي . قال ابن القاسم : وأنا أرى أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل
والحمامات , وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم , أن يباع ولا شفعة فيه ; لقوله
عليه السلام : ( الشفعة في كل ما لا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة ) . فجعل عليه
السلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود , وعلق الشفعة فيما لم يقسم مما
يمكن إيقاع الحدود فيه . هذا دليل الحديث . قلت : ومن الحجة لهذا القول ما خرجه
الدارقطني من حديث ابن جريج أخبرني صديق بن موسى عن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم )
. قال أبو عبيد : هو أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على
جميعهم أو على بعضهم . يقول : فلا يقسم ; وذلك مثل الجوهرة والحمام والطيلسان وما
أشبه ذلك . والتعضية التفريق , يقال : عضيت الشيء إذا فرقته . ومنه قوله تعالى : "
الذين جعلوا القرآن عضين } [ الحجر : 91 ] . وقال تعالى : { غير مضار } [ النساء :
12 ] فنفى المضارة . وكذلك قال عليه السلام : ( لا ضرر ولا ضرار ) . وأيضا فإن الآية
ليس فيها تعرض للقسمة , وإنما اقتضت الآية وجوب الحظ والنصيب للصغير والكبير قليلا
كان أو كثيرا , ردا على الجاهلية فقال : { للرجال نصيب }{ وللنساء نصيب } [ النساء
: 32 ] وهذا ظاهر جدا . فأما إبراز ذلك النصيب فإنما يؤخذ من دليل آخر ; وذلك بأن
يقول الوارث : قد وجب لي نصيب بقول الله عز وجل فمكنوني منه ; فيقول له شريكه : أما
تمكينك على الاختصاص فلا يمكن ; لأنه يؤدي إلى ضرر بيني وبينك من إفساد المال ,
وتغيير الهيئة , وتنقيص القيمة ; فيقع الترجيح . والأظهر سقوط القسمة فيما يبطل
المنفعة وينقص المال مع ما ذكرناه من الدليل . والله الموفق . قال الفراء : { نصيبا
مفروضا { هو كقولك : قسما واجبا , وحقا لازما ; فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب
. الزجاج : انتصب على الحال . أي لهؤلاء أنصباء في حال الفرض . الأخفش : أي جعل الله
لهم نصيبا . والمفروض : المقدر الواجب .
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ بين
الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة , وكان من الأقارب أو اليتامى
والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا , إن كان المال كثيرا ; والاعتذار
إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ . ( وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر
عظيم ; درهم يسبق مائة ألف ) . فالآية على هذا القول محكمة ; قاله ابن عباس . وامتثل
ذلك جماعة من التابعين : عروة بن الزبير وغيره , وأمر به أبو موسى الأشعري وروي عن
ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ
الأنثيين } [ النساء : 11 ] ) وقال سعيد بن المسيب : نسخها آية الميراث والوصية
. وممن قال إنها منسوخة أبو مالك وعكرمة والضحاك . والأول أصح ; فإنها مبينة استحقاق
الورثة لنصيبهم , واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم . قال ابن جبير : ضيع
الناس هذه الآية . قال الحسن : ولكن الناس شحوا . وفي البخاري عن ابن عباس في قوله
تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين { قال : ( هي محكمة
وليست بمنسوخة ) . وفي رواية قال : ( إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت , لا والله
ما نسخت ولكنها مما تهاون بها ; هما واليان : وال يرث وذلك الذي يرزق , ووال لا يرث
وذلك الذي يقول بالمعروف , ويقول : لا أملك لك أن أعطيك ) . قال ابن عباس : ( أمر
الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم , ويتاماهم ومساكينهم من الوصية
, فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث ) . قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية ,
أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير , والشكر لله عز وجل . وقالت طائفة : هذا
الرضخ واجب على جهة الفرض , تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم , كالماعون
والثوب الخلق وما خف . حكى هذا القول ابن عطية والقشيري . والصحيح أن هذا على الندب ;
لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث , لأحد الجهتين معلوم
وللآخر مجهول . وذلك مناقض للحكمة , وسبب للتنازع والتقاطع . وذهبت فرقة إلى أن
المخاطب والمراد في الآية المحتضرون الذين يقسمون أموالهم بالوصية , لا الورثة
. وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وابن زيد . ( فإذا أراد المريض أن يفرق ماله
بالوصايا وحضره من لا يرث ينبغي له ألا يحرمه ) . وهذا والله أعلم - يتنزل حيث كانت
الوصية واجبة , ولم تنزل آية الميراث . والصحيح الأول وعليه المعول . فإذا كان
الوارث صغيرا لا يتصرف في ماله ; فقالت طائفة : يعطى ولي الوارث الصغير من مال
محجوره بقدر ما يرى . وقيل : لا يعطى بل يقول لمن حضر القسمة : ليس لي شيء من هذا
المال إنما هو لليتيم , فإذا بلغ عرفته حقكم . فهذا هو القول المعروف . وهذا إذا لم
يوص الميت له بشيء ; فإن أوصى يصرف له ما أوصى . ورأى عبيدة ومحمد بن سيرين أن الرزق
في هذه الآية أن يصنع لهم طعاما يأكلونه ; وفعلا ذلك , ذبحا شاة من التركة , وقال
عبيدة : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي . وروى قتادة عن يحيى بن يعمر قال : ثلاث
محكمات تركهن الناس : هذه الآية , وآية الاستئذان { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم
الذين ملكت أيمانكم } [ النور : 58 ] , وقوله : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر
وأنثى } [ الحجرات : 13 ] . فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الضمير عائد على معنى القسمة ;
إذ هي بمعنى المال والميراث ; لقوله تعالى : { ثم استخرجها من وعاء أخيه } [ يوسف :
76 ] أي السقاية ; لأن الصواع مذكر . ومنه قوله عليه السلام : ( واتق دعوة المظلوم
فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) فأعاد مذكرا على معنى الدعاء . وكذلك قوله لسويد بن
طارق الجعفي حين سأله عن الخمر ( إنه ليس بدواء ولكنه داء ) فأعاد الضمير على معنى
الشراب . ومثله كثير . يقال : قاسمه المال وتقاسماه واقتسماه , والاسم القسمة مؤنثة ;
والقسم مصدر قسمت الشيء فانقسم , والموضع مقسم مثل مجلس , وتقسمهم الدهر فتقسموا ,
أي فرقهم فتفرقوا . والتقسيم التفريق . والله أعلم . وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا
مَعْرُوفًا قال سعيد بن جبير : يقال لهم خذوا بورك لكم . وقيل : قولوا مع الرزق وددت
أن لو كان أكثر من هذا . وقيل : لا حاجة مع الرزق إلى عذر , نعم إن لم يصرف إليهم
شيء فلا أقل من قول جميل ونوع اعتذار .
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ قوله تعالى : { وليخش { حذفت الألف من { ليخش }
للجزم بالأمر , ولا يجوز عند سيبويه إضمار لام الأمر قياسا على حروف الجر إلا في
ضرورة الشعر . وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم ; وأنشد الجميع : محمد تفد نفسك كل
نفس إذا ما خفت من شيء تبالا أراد لتفد , ومفعول { يخش { محذوف لدلالة الكلام عليه
. و { خافوا { جواب { لو } . التقدير لو تركوا لخافوا . ويجوز حذف اللام في جواب { لو
" . وهذه الآية قد اختلف العلماء في تأويلها ; فقالت طائفة : ( هذا وعظ للأوصياء ,
أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم ) ; قاله ابن عباس . ولهذا
قال الله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء : 10 ] . وقالت
طائفة : المراد جميع الناس , أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ; وإن لم
يكونوا في حجورهم . وأن يشددوا لهم القول كما يريد كل واحد منهم أن يفعل بولده بعده
. ومن هذا ما حكاه الشيباني قال : كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن عبد الملك ,
فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي , فتذاكروا ما يكون من أهوال
آخر الزمان . فقلت له : يا أبا بشر , ودي ألا يكون لي ولد . فقال لي : ما عليك ! ما
من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت , أحب أو كره , ولكن إذا أردت أن تأمن
عليهم فاتق الله في غيرهم ; ثم تلا الآية . وفي رواية : ألا أدلك على أمر إن أنت
أدركته نجاك الله منه , وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك ؟ فقلت : بلى ! فتلا
هذه الآية { وليخش الذين لو تركوا { إلى آخرها . قلت : ومن هذا المعنى ما روى محمد
بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحسن الصدقة
جاز على الصراط ومن قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته ) . وقول ثالث قاله جمع من
المفسرين : هذا في الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته عند وصيته : إن الله سيرزق
ولدك فانظر لنفسك , وأوص بمالك في سبيل الله , وتصدق وأعتق . حتى يأتي على عامة ماله
أو يستغرقه فيضر ذلك بورثته ; فنهوا عن ذلك . فكأن الآية تقول لهم : ( كما تخشون على
ورثتكم وذريتكم بعدكم , فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم ولا تحملوه على تبذير ماله ) ;
قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد . روى سعيد بن جبير عن ابن
عباس أنه قال : ( إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي أن يقول أوص بمالك فإن الله تعالى
رازق ولدك , ولكن يقول قدم لنفسك واترك لولدك ) ; فذلك قوله تعالى : { فليتقوا الله
" . وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس هذا , وهو أن يقول للمحتضر من يحضره : أمسك على
ورثتك , وأبق لولدك فليس أحد أحق بمالك من أولادك , وينهاه عن الوصية , فيتضرر بذلك
ذوو القربى وكل من يستحق أن يوصى له ; فقيل لهم : كما تخشون على ذريتكم وتسرون بأن
يحسن إليهم , فكذلك سددوا القول في جهة المساكين واليتامى , واتقوا الله في ضررهم
. وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث ; روي عن سعيد بن
جبير وابن المسيب . قال ابن عطية : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ,
بل الناس صنفان ; يصلح لأحدهما القول الواحد , ولآخر القول الثاني . وذلك أن الرجل
إذا ترك ورثته مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية , ويحمل على أن يقدم
لنفسه . وإذا ترك ورثة ضعفاء مهملين مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط ;
فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين , فالمراعاة إنما هو الضعف فيجب أن يمال معه
. قلت : وهذا التفصيل صحيح ; لقوله عليه السلام لسعد : ( إنك إن تذر ورثتك أغنياء
خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) . فإن لم يكن للإنسان ولد , أو كان وهو غني
مستقل بنفسه وماله عن أبيه فقد أمن عليه ; فالأولى بالإنسان حينئذ تقديم ماله بين
يديه حتى لا ينفقه من بعده فيما لا يصلح , فيكون وزره عليه . وَلْيَقُولُوا قَوْلًا
سَدِيدًا السديد : العدل والصواب من القول ; أي مروا المريض بأن يخرج من ماله ما
عليه من الحقوق الواجبة , ثم يوصي لقرابته بقدر ما لا يضر بورثته الصغار . وقيل :
المعنى قولوا للميت قولا عدلا , وهو أن يلقنه بلا إله إلا الله , ولا يأمره بذلك ,
ولكن يقول ذلك في نفسه حتى يسمع منه ويتلقن . هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (
لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) ولم يقل مروهم ; لأنه لو أمر بذلك لعله يغضب ويجحد
. وقيل : المراد اليتيم ; أن لا ينهروه ولا يستخفوا به .
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ نَارًا روي أنها نزلت في رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد , ولي
مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله ; فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية , قال مقاتل بن
حيان ; ولهذا قال الجمهور : إن المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال
اليتيم . وقال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار
. وسمي أخذ المال على كل وجوهه أكلا ; لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر إتلاف
الأشياء . وخص البطون بالذكر لتبيين نقصهم , والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق . وسمى
المأكول نارا بما يئول إليه ; كقوله تعالى : { إني أراني أعصر خمرا } [ يوسف : 36 ]
أي عنبا . وقيل : نارا أي حراما ; لأن الحرام يوجب النار , فسماه الله تعالى باسمه
. وروى أبو سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال :
( رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في
أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هم الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلما ) . فدل الكتاب والسنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر . وقال
صلى الله عليه وسلم : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) وذكر فيها ( وأكل مال اليتيم ) .
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية ابن عباس بضم الياء على اسم
ما لم يسم فاعله ; من أصلاه الله حر النار إصلاء . قال الله تعالى : { سأصليه سقر }
[ المدثر : 26 ] . وقرأ أبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام من التصلية
لكثرة الفعل مرة بعد أخرى . دليله قوله تعالى : { ثم الجحيم صلوه } [ الحاقة : 31 ]
. ومنه قولهم : صليته مرة بعد أخرى . وتصليت : استدفأت بالنار . قال : وقد تصليت حر
حربهم كما تصلى المقرور من قرس وقرأ الباقون بفتح الياء من صلي النار يصلاها صلى
وصلاء . قال الله تعالى : { لا يصلاها إلا الأشقى } [ الليل : 15 ] . والصلاء هو
التسخن بقرب النار أو مباشرتها ; ومنه قول الحارث بن عباد : لم أكن من جناتها علم
الله إني لحرها اليوم صال والسعير : الجمر المشتعل . وهذه آية من آيات الوعيد , ولا
حجة فيها لمن يكفر بالذنوب . والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة
فيصلى ثم يحترق ويموت ; بخلاف أهل النار لا يموتون ولا يحيون , فكأن هذا جمع بين
الكتاب والسنة , لئلا يقع الخبر فيهما على خلاف مخبره , ساقط بالمشيئة عن بعضهم ;
لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء
: 48 ] . وهكذا القول في كل ما يرد عليك من هذا المعنى . روى مسلم في صحيحه عن أبي
سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما أهل النار الذين هم
أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال
بخطاياهم - فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر
ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون كما تنبت
الحبة في حميل السيل ) . فقال رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان
يرعى بالبادية .
قال جماعة : نزلت بسبب فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط سيف النبي صلى
الله عليه وسلم وقال : من يعصمك مني يا محمد ؟ كما تقدم في { النساء } , وفي
البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى
الله عليه وسلم ولم يعاقبه , وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم , وذكر قوم أنه
ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات , وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث
بن الحارث ( بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها راء وثاء مثلثة ) وقد ضم بعضهم
الغين , والأول أصح , وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي , وأبو عبد الله محمد بن
عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث , وذكر أنه أسلم كما تقدم , وذكر محمد بن
إسحاق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير , وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش
في غير هذه القصة , والله أعلم , وقال قتادة ومجاهد وغيرهما : نزلت في قوم من
اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية فهموا بقتله صلى الله عليه
وسلم فمنعه الله منهم . قال القشيري : وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى
لادكار ما سبق .{ أن يبسطوا إليكم أيديهم { أي بالسوء .{ فكف أيديهم عنكم { أي
منعهم .
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ
كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا
تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ الخطاب للرجال
. والولد هنا بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا , ذكرانا وإناثا واحدا فما زاد بإجماع
. وأجمع العلماء على أن للزوج النصف مع عدم الولد أو ولد الولد , وله مع وجوده الربع
. وترث المرأة من زوجها الربع مع فقد الولد , والثمن مع وجوده . وأجمعوا على أن حكم
الواحدة من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد , وفي
الثمن إن كان له ولد واحد , وأنهن شركاء في ذلك ; لأن الله عز وجل لم يفرق بين حكم
الواحدة منهن وبين حكم الجميع , كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من
الأخوات وبين حكم الجميع منهن . وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ
امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ الكلالة
مصدر ; من تكلله النسب أي أحاط به . وبه سمي الإكليل , وهي منزلة من منازل القمر
لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها . ومنه الإكليل أيضا وهو التاج والعصابة المحيطة
بالرأس . ( فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة ) . هذا قول أبي بكر
الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم . وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الأحوص عن
أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال : ما رأيتهم إلا وقد تواطئوا وأجمعوا على أن
الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد . وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي
وابن عرفة والقتبي وأبو عبيد وابن الأنباري . فالأب والابن طرفان للرجل ; فإذا ذهبا
تكلله النسب . ومنه قيل : روضة مكللة إذا حفت بالنور . وأنشدوا : مسكنه روضة مكللة عم
بها الأيهقان والذرق يعني نبتين . وقال امرؤ القيس : أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع
اليدين في حبي مكلل فسموا القرابة كلالة ; لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا
منه ولا هو منهم , وإحاطتهم به أنهم ينتسبون معه . كما قال أعرابي : مالي كثير
ويرثني كلالة متراخ نسبهم . وقال الفرزدق : ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني
مناف عبد شمس وهاشم وقال آخر : وإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب وقيل :
إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء ; فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد
وإعياء . قال الأعشى : فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تلاقي محمدا وذكر
أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال : الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو
عند العرب كلالة . قال أبو عمر : ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط
الكلالة غلط لا وجه له , ولم يذكره في شرط الكلالة غيره . وروي عن عمر بن الخطاب أن
( الكلالة من لا ولد له خاصة ) ; وروي عن أبي بكر ثم رجعا عنه . وقال ابن زيد :
الكلالة الحي والميت جميعا . وعن عطاء : الكلالة المال . قال ابن العربي : وهذا قول
طريف لا وجه له . قلت : له وجه يتبين بالإعراب آنفا . وروي عن ابن الأعرابي أن
الكلالة بنو العم الأباعد . وعن السدي أن الكلالة الميت . وعنه مثل قول الجمهور . وهذه
الأقوال تتبين وجوهها بالإعراب ; فقرأ بعض الكوفيين { يورث كلالة { بكسر الراء
وتشديدها . وقرأ الحسن وأيوب { يورث { بكسر الراء وتخفيفها , على اختلاف عنهما . وعلى
هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة أو المال . كذلك حكى أصحاب المعاني ;
فالأول من ورث , والثاني من أورث . و { كلالة { مفعوله و { كان { بمعنى وقع . ومن قرأ
{ يورث { بفتح الراء احتمل أن تكون الكلالة المال , والتقدير : يورث وراثة كلالة
فتكون نعتا لمصدر محذوف . ويجوز أن تكون الكلالة اسما للورثة وهي خبر كان ; فالتقدير
: ذا ورثة . ويجوز أن تكون تامة بمعنى وقع , و { يورث { نعت لرجل , و { رجل { رفع
بكان , و { كلالة { نصب على التفسير أو الحال ; على أن الكلالة هو الميت , التقدير
: وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت . ذكر الله عز وجل في كتابه الكلالة في
موضعين : آخر السورة وهنا , ولم يذكر في الموضعين وارثا غير الإخوة . فأما هذه الآية
فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عنى بها الإخوة للأم ; لقوله تعالى : { فإن كانوا
أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } . وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ { وله أخ أو أخت من
أمه } . ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو الأب ليس ميراثهم كهذا ;
فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه أو
لأبيه ; لقوله عز وجل { وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } [
النساء : 176 ] . ولم يختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا ; فدلت الآيتان أن
الإخوة كلهم جميعا كلالة . وقال الشعبي : ( الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من
الورثة إخوة أو غيرهم من العصبة ) . كذلك قال علي وابن مسعود وزيد وابن عباس , وهو
القول الأول الذي بدأنا به . قال الطبري : والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت
من عدا ولده ووالده , لصحة خبر جابر : فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة , أفأوصي
بمالي كله ؟ قال : ( لا ) . قال أهل اللغة : يقال رجل كلالة وامرأة كلالة . ولا يثنى
ولا يجمع ; لأنه مصدر كالوكالة والدلالة والسماحة والشجاعة . وأعاد ضمير مفرد في
قوله : { وله أخ { ولم يقل لهما . ومضى ذكر الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت
اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت
إليهما جميعا ; تقول : من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم
; قال الله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة } [ البقرة : 45 ]
. وقال تعالى : { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } [ النساء : 135 ] ويجوز
أولى بهم ; عن الفراء وغيره . ويقال في امرأة : مرأة , وهو الأصل . وأخ أصله أخو ,
يدل عليه أخوان ; فحذف منه وغير على غير قياس . قال الفراء ضم أول أخت , لأن المحذوف
منها واو , وكسر أول بنت ; لأن المحذوف منها ياء . وهذا الحذف والتعليل على غير قياس
أيضا . فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ هذا
التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا . وإذا كانوا يأخذون بالأم فلا
يفضل الذكر على الأنثى . وهذا إجماع من العلماء , وليس في الفرائض موضع يكون فيه
الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم . فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها
وأخاها لأمها فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخ من الأم السدس . فإن تركت أخوين وأختين
- والمسألة بحالها - فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوين والأختين الثلث , وقد تمت
الفريضة . وعلى هذا عامة الصحابة ; لأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى
السدس . وأما ابن عباس فإنه لم ير العول ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة , وهو لا
يرى ذلك . والعول مذكور في غير هذا الموضع , ليس هذا موضعه . فإن تركت زوجها وإخوة
لأم وأخا لأب وأم ; فللزوج النصف , ولإخوتها لأمها الثلث , وما بقي فلأخيها لأمها
وأبيها . وهكذا من له فرض مسمى أعطيه , والباقي للعصبة إن فضل . فإن تركت ستة إخوة
مفترقين فهذه الحمارية , وتسمى أيضا المشتركة . قال قوم : ( للإخوة للأم الثلث ,
وللزوج النصف , وللأم السدس ) , وسقط الأخ والأخت من الأب والأم , والأخ والأخت من
الأب . روي عن علي وابن مسعود وأبي موسى والشعبي وشريك ويحيى بن آدم , وبه قال أحمد
بن حنبل واختاره ابن المنذر ; لأن الزوج والأم والأخوين للأم أصحاب فرائض مسماة ولم
يبق للعصبة شيء . وقال قوم : ( الأم واحدة , وهب أن أباهم كان حمارا ! وأشركوا بينهم
في الثلث ) ; ولهذا سميت المشتركة والحمارية . روي هذا عن عمر وعثمان وابن مسعود
أيضا وزيد بن ثابت ومسروق وشريح , وبه قال مالك والشافعي وإسحاق . ولا تستقيم هذه
المسألة أن لو كان الميت رجلا . فهذه جملة من علم الفرائض تضمنتها الآية , والله
الموفق للهداية . وكانت الوراثة في الجاهلية بالرجولية والقوة , وكانوا يورثون
الرجال دون النساء ; فأبطل الله عز وجل ذلك بقوله : { للرجال نصيب مما اكتسبوا
وللنساء نصيب } [ النساء : 32 ] كما تقدم . وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية وبدء
الإسلام بالمحالفة , قال الله عز وجل : { والذين عقدت أيمانكم } [ النساء : 33 ]
على ما يأتي بيانه . ثم صارت بعد المحالفة بالهجرة ; قال الله تعالى : { والذين
آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] وسيأتي
. وهناك يأتي القول في ذوي الأرحام وميراثهم , إن شاء الله تعالى . وسيأتي في سورة }
النور { ميراث ابن الملاعنة وولد الزنا والمكاتب بحول الله تعالى . والجمهور من
العلماء على أن الأسير المعلوم حياته أن ميراثه ثابت ; لأنه داخل في جملة المسلمين
الذين أحكام الإسلام جارية عليهم . وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الأسير في
يد العدو : لا يرث . وقد تقدم ميراث المرتد في سورة { البقرة { والحمد لله . مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ
{ غير مضار { نصب على الحال والعامل { يوصى } . أي يوصي بها غير مضار , أي غير مدخل
الضرر على الورثة . أي لا ينبغي أن يوصي بدين ليس عليه ليضر بالورثة ; ولا يقر بدين
. فالإضرار راجع إلى الوصية والدين ; أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو
يوصي لوارث , فإن زاد فإنه يرد , إلا أن يجيزه الورثة ; لأن المنع لحقوقهم لا لحق
الله تعالى . وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا . وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث
لا تجوز . وقد تقدم هذا في { البقرة } . وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا
يجوز له فيها ; كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف ; فإن ذلك لا يجوز عندنا
. وروي عن الحسن أنه قرأ { غير مضار وصية من الله { على الإضافة . قال النحاس : وقد
زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن ; لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر . والقراءة حسنة
على حذف , والمعنى : غير مضار ذي وصية , أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم . وأجمع
العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة
. فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين ; فقالت طائفة : يبدأ بدين
الصحة ; هذا قول النخعي والكوفيين . قالوا : فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار في
المرض يتحاصون . وقالت طائفة : هما سواء إذا كان لغير وارث . هذا قول الشافعي وأبي
ثور وأبي عبيد , وذكر أبو عبيد إنه قول أهل المدينة ورواه عن الحسن . قد مضى في }
البقرة { الوعيد في الإضرار في الوصية ووجوهها . وقد روى أبو داود من حديث شهر بن
حوشب ( وهو مطعون فيه ) عن أبي هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (
إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية
فتجب لهما النار ) . قال : وقرأ علي أبو هريرة من هاهنا { من بعد وصية يوصى بها أو
دين غير مضار { حتى بلغ { ذلك الفوز العظيم } . وقال ابن عباس : ( الإضرار في الوصية
من الكبائر ) ; ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم , إلا أن مشهور مذهب مالك وابن
القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه ; لأن ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء
. وفي المذهب قوله : أن ذلك مضارة ترد . وبالله التوفيق . قوله تعالى : { وصية { نصب
على المصدر في موضع الحال والعامل { يوصيكم { ويصح أن يعمل فيها { مضار { والمعنى
أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا , قال ابن عطية ; وذكر أن الحسن بن
أبي الحسن قرأ { غير مضار وصية { بالإضافة ; كما تقول : شجاع حرب . وبضة المتجرد ;
في قول طرفة بن العبد . والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى .
وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ يعني عليم بأهل الميراث حليم على أهل الجهل منكم . وقرأ
بعض المتقدمين { والله عليم حكيم } [ النساء : 26 ] يعني حكيم بقسمة الميراث
والوصية .
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ و { تلك { بمعنى هذه , أي هذه أحكام الله قد بينها لكم
لتعرفوها وتعملوا بها . وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ في قسمة المواريث فيقر
بها ويعمل بها كما أمره الله تعالى يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا والجنات : البساتين , وإنما سميت جنات لأنها تجن من
فيها أي تستره بشجرها , ومنه : المجن والجنين والجنة .{ من تحتها { أي من تحت
أشجارها , ولم يجر لها ذكر , لأن الجنات دالة عليها .{ الأنهار { أي ماء الأنهار ,
فنسب الجري إلى الأنهار توسعا , وإنما يجري الماء وحده فحذف اختصارا , كما قال
تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] أي أهلها . وقال الشاعر : نبئت أن النار
بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس أراد : أهل المجلس ; فحذف . والنهر : مأخوذ من
أنهرت , أي وسعت , ومنه قول قيس بن الخطيم : ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من
دونها ما وراءها أي وسعتها , يصف طعنة . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما
أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ) . معناه : ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر
. وجمع النهر : نهر وأنهار . ونهر نهر : كثير الماء ; قال أبو ذؤيب : أقامت به فابتنت
خيمة على قصب وفرات نهر وروي : إن أنهار الجنة ليست في أخاديد , إنما تجري على سطح
الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها . والوقف على { الأنهار { حسن وليس بتام
وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الكبير .
وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ يريد في قسمة المواريث فلم يقسمها ولم يعمل بها
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أي يخالف أمره يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ
عَذَابٌ مُهِينٌ والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه , وإن أريد به الكبائر
وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما . كما تقول : خلد الله ملكه . وقال
زهير : ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع . وقرأ نافع
وابن عامر { ندخله { بالنون في الموضعين , على معنى الإضافة إلى نفسه سبحانه
. الباقون بالياء كلاهما ; لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى أي يدخله الله .
وَاللَّاتِي لما ذكر الله تعالى في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن
إليهن , وانجر الأمر إلى ذكر ميراثهن مع مواريث الرجال , ذكر أيضا التغليظ عليهن
فيما يأتين به من الفاحشة , لئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف . قوله
تعالى : { واللاتي }{ اللاتي { جمع التي , وهو اسم مبهم للمؤنث , وهي معرفة ولا
يجوز نزع الألف واللام منه للتنكير , ولا يتم إلا بصلته ; وفيه ثلاث لغات كما تقدم
. ويجمع أيضا { اللات { بحذف الياء وإبقاء الكسرة ; و { اللائي { بالهمزة وإثبات
الياء , و { اللاء { بكسر الهمزة وحذف الياء , و { اللا { بحذف الهمزة . فإن جمعت
الجمع قلت في اللاتي : اللواتي , وفي اللاء : اللوائي . وقد روي عنهم { اللوات }
بحذف الياء وإبقاء الكسرة ; قاله ابن الشجري . قال الجوهري : أنشد أبو عبيد : من
اللواتي والتي واللاتي زعمن أن قد كبرت لدات واللوا بإسقاط التاء . وتصغير التي
اللتيا بالفتح والتشديد ; قال الراجز : بعد اللتيا واللتيا والتي إذا علتها نفس
تودت وبعض الشعراء أدخل على { التي { حرف النداء , وحروف النداء لا تدخل على ما فيه
الألف واللام إلا في قولنا : يا الله وحده ; فكأنه شبهها به من حيث كانت الألف
واللام غير مفارقتين لها . وقال : من اجلك يالتي تيمت قلبي وأنت بخيلة بالود عني
ويقال : وقع في اللتيا والتي ; وهما اسمان من أسماء الداهية . يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ الفاحشة في هذا الموضع الزنا , والفاحشة الفعلة القبيحة , وهي مصدر
كالعاقبة والعافية . وقرأ ابن مسعود { بالفاحشة { بباء الجر . مِنْ نِسَائِكُمْ
إضافة في معنى الإسلام وبيان حال المؤمنات ; كما قال { واستشهدوا شهيدين من رجالكم
" [ البقرة : 282 ] لأن الكافرة قد تكون من نساء المسلمين بنسب ولا يلحقها هذا
الحكم . فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي من المسلمين , فجعل
الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد . وتعديل
الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن ; قال الله تعالى :
{ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } [ النور
: 4 ] وقال هنا : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } . وروى أبو داود عن جابر بن عبد
الله قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم قد زنيا فقال : النبي صلى الله عليه وسلم
( ائتوني بأعلم رجلين منكم ) فأتوه بابني صوريا فنشدهما : ( كيف تجدان أمر هذين في
التوراة ؟ ) قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل
الميل في المكحلة رجما . قال : ( فما يمنعكما أن ترجموهما ) ; قالا : ذهب سلطاننا
فكرهنا القتل ; فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود , فجاءوا فشهدوا أنهم
رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ; فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
برجمهما . وقال قوم : إنما كان الشهود في الزنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من
الزانيين كسائر الحقوق ; إذ هو حق يؤخذ من كل واحد منهما ; وهذا ضعيف ; فإن اليمين
تدخل في الأموال واللوث في القسامة ولا مدخل لواحد منهما هنا . ولا بد أن يكون
الشهود ذكورا ; لقوله : { منكم { ولا خلاف فيه بين الأمة . وأن يكونوا عدولا ; لأن
الله تعالى شرط العدالة في البيوع والرجعة , وهذا أعظم , وهو بذلك أولى . وهذا من
حمل المطلق على المقيد بالدليل , على ما هو مذكور في أصول الفقه . ولا يكونون ذمة ,
وإن كان الحكم على ذمية , وسيأتي ذلك في { المائدة { وتعلق أبو حنيفة بقوله : "
أربعة منكم { في أن الزوج إذا كان أحد الشهود في القذف لم يلاعن . وسيأتي بيانه في }
النور { إن شاء الله تعالى . فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا هذه أول
عقوبات الزناة ; وكان هذا في ابتداء الإسلام ; قاله عبادة بن الصامت والحسن ومجاهد
حتى نسخ بالأذى الذي بعده , ثم نسخ ذلك بآية { النور { وبالرجم في الثيب . وقالت
فرقة : بل كان الإيذاء هو الأول ثم نسخ بالإمساك , ولكن التلاوة أخرت وقدمت ; ذكره
ابن فورك , وهذا الإمساك والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام قبل أن يكثر الجناة ,
فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذ لهم سجن ; قاله ابن العربي . واختلف العلماء هل كان هذا
السجن حدا أو توعدا بالحد على قولين : أحدهما : أنه توعد بالحد , والثاني : ( أنه
حد ) ; قال ابن عباس والحسن . زاد ابن زيد : وأنهم منعوا من النكاح حتى يموتوا عقوبة
لهم حين طلبوا النكاح من غير وجهه . وهذا يدل على أنه كان حدا بل أشد ; غير أن ذلك
الحكم كان ممدودا إلى غاية وهو الأذى في الآية الأخرى , على اختلاف التأويلين في
أيهما قبل ; وكلاهما ممدود إلى غاية وهي قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت
: ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام
والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) . وهذا نحو قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى
الليل } [ البقرة : 187 ] فإذا جاء الليل ارتفع حكم الصيام لانتهاء غايته لا لنسخه
. هذا قول المحققين المتأخرين من الأصوليين , فإن النسخ إنما يكون في القولين
المتعارضين من كل وجه اللذين لا يمكن الجمع بينهما , والجمع ممكن بين الحبس
والتعيير والجلد والرجم , وقد قال بعض العلماء : إن الأذى والتعيير باق مع الجلد ;
لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد . وأما الحبس فمنسوخ بإجماع , وإطلاق
المتقدمين النسخ على مثل هذا تجوز . والله أعلم .
يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ أي ما رضيه الله . سُبُلَ
السَّلَامِ طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة , والمؤمنة من كل
مخافة ; وهي الجنة , وقال الحسن والسدي : { السلام { الله عز وجل ; فالمعنى دين
الله - وهو الإسلام - كما قال : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] .
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الكفر والجهالات إلى
نور الإسلام والهدايات . بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي
بتوفيقه وإرادته .
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ قيل : هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا . وقيل :
لمن جهل فقط , والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر . واتفقت الأمة على أن التوبة
فرض على المؤمنين ; لقوله تعالى : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون } .[
النور : 31 ] . وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه خلافا للمعتزلة في
قولهم : لا يكون تائبا من أقام على ذنب . ولا فرق بين معصية ومعصية - هذا مذهب أهل
السنة . وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها , وإن شاء لم يقبلها
. وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المخالف ; لأن من شرط
الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه , والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم ,
والمكلف لهم ; فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه , تعالى عن ذلك , غير أنه قد أخبر
سبحانه وهو الصادق في وعده بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى : "
وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات } [ الشورى : 25 ] . وقول : { ألم يعلموا
أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } [ التوبة : 104 ] وقوله : { وإني لغفار لمن تاب
" [ طه : 82 ] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك
الأشياء . والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلا ; فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب
. قال أبو المعالي وغيره : وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن , لا قطعا على الله تعالى
بقبول التوبة . قال ابن عطية : وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى . فإذا
فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا تامة الشروط فقال أبو المعالي : يغلب على الظن قبول
توبته . وقال غيره : يقطع على الله تعالى بقبول توبته كما أخبر عن نفسه جل وعز . قال
ابن عطية : وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول ويرجحه , وبه أقول , والله تعالى
أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله : { وهو الذي يقبل التوبة
عن عباده } [ الشورى : 25 ] وقوله تعالى : { وإني لغفار } [ طه : 82 ] . وإذا تقرر
هذا فاعلم أن في قوله { على الله { حذفا وليس على ظاهره , وإنما المعنى على فضل
الله ورحمته بعباده . وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( أتدري ما حق
العباد على الله ) ؟ قال : الله ورسوله أعلم . قال : ( أن يدخلهم الجنة ) . فهذا كله
معناه : على فضله ورحمته بوعده الحق وقوله الصدق . دليله قوله تعالى : { كتب على
نفسه الرحمة } [ الأنعام : 12 ] أي وعد بها . وقيل : { على { هاهنا معناها { عند }
والمعنى واحد , التقدير : عند الله , أي إنه وعد ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة
إذا كانت بشروطها المصححة لها ; وهي أربعة : الندم بالقلب , وترك المعصية في الحال
, والعزم على ألا يعود إلى مثلها , وأن يكون ذلك حياء من الله تعالى لا من غيره ;
فإذا اختل شرط من هذه الشروط لم تصح التوبة . وقد قيل من شروطها : الاعتراف بالذنب
وكثرة الاستغفار , وقد تقدم في { آل عمران { كثير من معاني التوبة وأحكامها . ولا
خلاف فيما أعلمه أن التوبة لا تسقط حدا ; ولهذا قال علماؤنا : إن السارق والسارقة
والقاذف متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود . وقيل : { على { بمعنى }
من { أي إنما التوبة من الله للذين ; قاله أبو بكر بن عبدوس , والله أعلم . وسيأتي
في { التحريم { الكلام في التوبة النصوح والأشياء التي يتاب منها . لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ السوء في هذه الآية , و { الأنعام } .{ أنه من
عمل منكم سوءا بجهالة } [ الأنعام : 54 ] يعم الكفر والمعاصي ; فكل من عصى ربه فهو
جاهل حتى ينزع عن معصيته . قال قتادة : أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن
كل معصية فهي بجهالة , عمدا كانت أو جهلا ; وقال ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد
والسدي . وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا : الجهالة هنا العمد . وقال عكرمة : أمور
الدنيا كلها جهالة ; يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله . وهذا القول جار مع قوله
تعالى : { إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } [ محمد : 36 ] . وقال الزجاج : يعني قوله }
بجهالة { اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية . وقيل : { بجهالة { أي لا
يعلمون كنه العقوبة ; ذكره ابن فورك . قال ابن عطية : وضعف قوله هذا ورد عليه .
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا قال ابن عباس والسدي : معناه قبل المرض والموت . وروي عن
الضحاك أنه قال : كل ما كان قبل الموت فهو قريب . وقال أبو مجلز والضحاك أيضا وعكرمة
وابن زيد وغيرهم : قبل المعاينة للملائكة والسوق , وأن يغلب المرء على نفسه . ولقد
أحسن محمود الوراق حيث قال : قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن بادر
بها غلق النفوس فإنها ذخر وغنم للمنيب المحسن قال علماؤنا رحمهم الله : وإنما صحت
التوبة منه في هذا الوقت ; لأن الرجاء باق ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل
. وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يقبل
توبة العبد ما لم يغرغر ) . قال : هذا حديث حسن غريب . ومعنى ما لم يغرغر : ما لم
تبلغ روحه حلقومه ; فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به . قاله الهروي وقيل : المعنى
يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار . والمبادر في الصحة أفضل , وألحق لأمله
من العمل الصالح . والبعد كل البعد الموت ; كما قال : وأين مكان البعد إلا مكانيا
وروى صالح المري عن الحسن قال : من عير أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله
به . وقال الحسن أيضا : إن إبليس لما هبط قال : بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح
في جسده . قال الله تعالى : ( فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم تغرغر نفسه )
.
نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس ; كما كان
فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان ; لأن التوبة في
ذلك الوقت لا تنفع , لأنها حال زوال التكليف . وبهذا قال ابن عباس وابن زيد وجمهور
المفسرين . وأما الكفار يموتون على كفرهم فلا توبة لهم في الآخرة , وإليهم الإشارة
بقوله تعالى : { أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما { وهو الخلود . وإن كانت الإشارة
بقوله إلى الجميع فهو في جهة العصاة عذاب لا خلود معه ; وهذا على أن السيئات ما دون
الكفر ; أي ليست التوبة لمن عمل دون الكفر من السيئات ثم تاب عند الموت , ولا لمن
مات كافرا فتاب يوم القيامة . وقد قيل : إن السيئات هنا الكفر , فيكون المعنى وليست
التوبة للكفار الذين يتوبون عند الموت , ولا للذين يموتون وهم كفار . وقال أبو
العالية : نزل أول الآية في المؤمنين { إنما التوبة على الله } . والثانية في
المنافقين .{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات { يعني قبول التوبة للذين أصروا
على فعلهم .{ حتى إذا حضر أحدهم الموت { يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت ."
قال إني تبت الآن { فليس لهذا توبة . ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى : { ولا الذين
يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما { أي وجيعا دائما . وقد تقدم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ هذا
متصل بما تقدم ذكره من الزوجات . والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن ; والخطاب
للأولياء . و { أن { في موضع رفع ب { يحل } ; أي لا يحل لكم وراثة النساء . و { كرها
{ مصدر ف ي موضع الحال . واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها ; فروى
البخاري عن ابن عباس { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا
تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن { قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق
بامرأته , إن شاء بعضهم تزوجها , وإن شاءوا زوجوها , وإن شاءوا لم يزوجوها , فهم
أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك . وأخرجه أبو داود بمعناه . وقال الزهري
وأبو مجلز : كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه
على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ; فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا
الصداق الذي أصدقها الميت , وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ;
وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها , فأنزل الله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } . فيكون المعنى : لا يحل
لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن . وقيل : كان الوارث إن سبق فألقى
عليها ثوبا فهو أحق بها , وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها ; قاله السدي
. وقيل : كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها
فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها . فنزلت هذه الآية
. وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها ; فذلك قوله تعالى : { لا يحل
لكم أن ترثوا النساء كرها } . والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم ,
وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال .{ وكرها { بضم الكاف
قراءة حمزة والكسائي , الباقون بالفتح , وهما لغتان . وقال القتبي : الكره ( بالفتح
) بمعنى الإكراه , والكره ( بالضم ) المشقة . يقال : لتفعل ذلك طوعا أو كرها , يعني
طائعا أو مكرها . والخطاب للأولياء . وقيل : لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة
طماعية إرثها , أو يفتدين ببعض مهورهن , وهذا أصح . واختاره ابن عطية قال : ودليل
ذلك قوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة ) وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى
يذهب بمالها إجماعا من الأمة , وإنما ذلك للزوج , على ما يأتي بيانه في المسألة بعد
هذا . كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا قد تقدم معنى العضل
وأنه المنع في { البقرة } . وقال عطاء الخراساني : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة
أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها , فنسخ ذلك بالحدود . وإذا تنزلنا على القول بأن
المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في
أمر المرأة وزوجها . إلا الأب في بناته ; فإنه إن كان في عضله صلاح فلا يعترض , قولا
واحدا , وذلك بالخاطب والخاطبين وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك : أنه كسائر
الأولياء , يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه . والقول الآخر - لا يعرض له
: يجوز أن يكون { تعضلوهن { جزما على النهي , فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة
من الأولى , ويجوز أن يكون نصبا عطفا على { أن ترثوا { فتكون الواو مشتركة عطفت
فعلا على فعل . وقرأ ابن مسعود { ولا أن تعضلوهن { فهذه القراءة تقوي احتمال النصب ,
وأن العضل مما لا يجوز بالنص . آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
اختلف الناس في معنى الفاحشة ; فقال الحسن : هو الزنا , وإذا زنت البكر فإنها تجلد
مائة وتنفى سنة , وترد إلى زوجها ما أخذت منه . وقال أبو قلابة ; إذا زنت امرأة
الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه . وقال السدي : إذا فعلن ذلك
فخذوا مهورهن . وقال ابن سيرين وأبو قلابة : لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد
على بطنها رجلا , قال الله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } . وقال ابن مسعود
وابن عباس والضحاك وقتادة : الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز , قالوا :
فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها ; وهذا هو مذهب مالك . قال ابن عطية : إلا أني لا
أحفظ له نصا في الفاحشة في الآية . وقال قوم : الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة
قولا وفعلا ; وهذا في معنى النشوز . ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على
جهة الخلع ; إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى : { لتذهبوا
ببعض ما آتيتموهن } . وقال مالك وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع
ما تملك . قال ابن عطية : والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى , وكل ذلك فاحشة
تحل أخذ المال . قال أبو عمر : قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشيء ; لأن
الفاحشة قد تكون البذاء والأذى ; ومنه قيل للبذيء : فاحش ومتفحش , وعلى أنه لو اطلع
منها على الفاحشة كان له لعانها , وإن شاء طلقها ; وأما أن يضارها حتى تفتدي منه
بمالها فليس له ذلك , ولا أعلم أحدا قال : له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه
إذا وجدها تزني غير أبي قلابة . والله أعلم . وقال الله عز وجل : { فإن خفتم ألا
يقيما حدود الله } [ البقرة : 229 ] يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه
بحقها { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } [ البقرة : 229 ] وقال الله عز وجل : "
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا } [ النساء : 4 ] فهذه الآيات أصل
هذا الباب . وقول رابع { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة { إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت
, فيكون هذا قبل النسخ , وهذا في معنى قول عطاء , وهو ضعيف . { مبينة { بكسر الياء
قراءة نافع وأبي عمرو , والباقون بفتح الياء . وقرأ ابن عباس { مبينة { بكسر الباء
وسكون الياء , من أبان الشيء , يقال : أبان الأمر بنفسه , وأبنته وبين وبينته ,
وهذه القراءات كلها لغات فصيحة . مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ أي على ما أمر الله
به من حسن المعاشرة . والخطاب للجميع , إذ لكل أحد عشرة , زوجا كان أو وليا ; ولكن
المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج , وهو مثل قوله تعالى : { فإمساك بمعروف } [
البقرة : 229 ] . وذلك توفية حقها من المهر والنفقة , وألا يعبس في وجهها بغير ذنب ,
وأن يكون منطلقا في القول لا فظا ولا غليظا ولا مظهرا ميلا إلى غيرها . والعشرة :
المخالطة والممازجة . ومنه قول طرفة : فلئن شطت نواها مرة لعلى عهد حبيب معتشر جعل
الحبيب . جمعا كالخليط والغريق . وعاشره معاشرة , وتعاشر القوم واعتشروا . فأمر الله
سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال ,
فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش . وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء . وقال بعضهم
: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له . وقال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي : أتيت محمد ابن
الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية , فقلت : ما هذا ؟ قال :
إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب , وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه
منهن . وقال ابن عباس رضي الله عنه : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين
المرأة لي . وهذا داخل فيما ذكرناه . قال ابن عطية : وإلى معنى الآية ينظر قول النبي
صلى الله عليه وسلم : ( فاستمتع بها وفيها عوج ) أي لا يكن منك سوء عشرة مع
اعوجاجها ; فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق , وهو سبب الخلع . واستدل علماؤنا
بقوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف { على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد
أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها , كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم
واحد , وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزمه إلا خادم
واحد - وذلك يكفيها خدمة نفسها , وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها ;
وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد ; لأنه لا يمكنه القتال
إلا على فرس واحد . قال علماؤنا : وهذا غلط ; لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة
كثيرة لا يكفيها خادم واحد ; لأنها تحتاج من غسل ثيابها لإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى
ما لا يقوم به الواحد , وهذا بين . والله أعلم . بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ
خَيْرًا { فإن كرهتموهن { أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز ; فهذا
يندب فيه إلى الاحتمال , فعسى أن يئول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين
. و { أن { رفع ب { عسى { وأن والفعل مصدر . قلت : ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح
مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يفرك مؤمن مؤمنة
إن كره منها خلقا رضي منها آخر ) أو قال ( غيره ) . المعنى : أي لا يبغضها بغضا كليا
يحمله على فراقها . أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما
يحب . وقال مكحول : سمعت ابن عمر يقول : إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له ,
فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له . وذكر ابن
العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية , عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر
بن عبد الرحمن حيث قال : كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة
والمعرفة . وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها ; فيقال
له في أمرها ويعذل بالصبر عليها , فكان يقول : أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في
صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني , فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن
تنزل بي عقوبة هي أشد منها . قال علماؤنا : في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة
. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا
الطلاق والأكل وإن الله ليبغض المعى إذا امتلأ ) .
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ لما مضى في الآية المتقدمة
حكم الفراق الذي سببه المرأة , وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي
سببه الزوج , وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها
مالا . واختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة ;
فقال مالك رضي الله عنه : للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه
هو . وقال جماعة من العلماء : لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه
في ذلك . وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فيها دليل على جواز المغالاة في
المهور ; لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح . وخطب عمر رضي الله عنه فقال : ألا لا
تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان
أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ; ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته
فوق اثنتي عشرة أوقية . فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر , يعطينا الله وتحرمنا !
أليس الله سبحانه وتعالى يقول : { وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا { ؟
فقال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر . وفي رواية فأطرق عمر ثم قال : كل الناس أفقه منك
يا عمر ! . وفي أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ . وترك الإنكار . أخرجه أبو حاتم البستي
في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال : خطب عمر الناس , فذكره إلى قوله : اثنتي
عشرة أوقية , ولم يذكر : فقامت إليه امرأة . إلى آخره . وأخرجه ابن ماجه في سننه عن
أبي العجفاء , وزاد بعد قوله : أوقية . وإن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى تكون لها
عداوة في نفسه , ويقول : قد كلفت إليك علق القربة - أو عرق القربة ; وكنت رجلا
عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة . قال الجوهري : وعلق القربة لغة
في عرق القربة . قال غيره : ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به . يقول كلفت إليك
حتى عصام القربة . وعرق القربة ماؤها ; يقول : جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق
القربة , وهو ماؤها في السفر . ويقال : بل عرق القربة أن يقول : نصبت لك وتكلفت حتى
عرقت عرق القربة , وهو سيلانها . وقيل : إنهم كانوا يتزودون الماء فيعلقونه على
الإبل يتناوبونه فيشق على الظهر ; ففسر به اللفظان : العرق والعلق . وقال الأصمعي :
عرق القربة كلمة معناها الشدة . قال : ولا أدري ما أصلها . قال الأصمعي : وسمعت ابن
أبي طرفة وكان من أفصح من رأيت يقول : سمعت شيخاننا يقولون : لقيت من فلان عرق
القربة , يعنون الشدة . وأنشدني لابن الأحمر : ش ليست بمشتمة تعد وعفوها و عرق
السقاء على القعود اللاغب ش قال أبو عبيد : أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم
فيؤاخذ صاحبها بها , وقد أبلغت إليه كعرق القربة , فقال : كعرق السقا لما لم يمكنه
الشعر ; ثم قال : على القعود اللاغب , وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في
أسفارهم . وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه ; زعم أنهم كانوا في المفاوز في
أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه ; فكان في ذلك تعب ومشقة على
الظهر . وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام . وقال قوم : لا تعطي
الآية جواز المغالاة بالمهور ; لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة ;
كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد . وهذا كقوله صلى الله عليه
وسلم : ( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ) . ومعلوم أنه
لا يكون مسجد كمفحص قطاة . وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد وقد جاء
يستعينه في مهره , فسأله عنه فقال : مائتين ; فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال : ( كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل ) . فاستقرأ بعض الناس من
هذا منع المغالاة بالمهور ; وهذا لا يلزم , وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على
هذا الرجل المتزوج ليس إنكارا لأجل المغالاة والإكثار في المهور , وإنما الإنكار
لأنه كان فقيرا في تلك الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال , وهذا مكروه باتفاق
. وقد أصدق عمر أم كلثوم بنت علي من فاطمة رضوان الله عليهم أربعين ألف درهم . وروى
أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : ( أترضى أن أزوجك
فلانة ) ؟ قال : نعم . وقال للمرأة : ( أترضين أن أزوجك فلانا ) ؟ قالت : نعم . فزوج
أحدهما من صاحبه ; فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا , وكان ممن
شهد الحديبية وله سهم بخيبر ; فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا , وإني أشهدكم أني قد أعطيتها
من صداقها سهمي بخيبر ; فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف . وقد أجمع العلماء على ألا
تحديد في أكثر الصداق ; لقوله تعالى : { وآتيتم إحداهن قنطارا { واختلفوا في أقله ,
وسيأتي عند قوله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } [ النساء : 24 ] . ومضى القول في
تحديد القنطار في { آل عمران } . وقرأ ابن محيصن { وآتيتم احداهن { بوصل ألف }
إحداهن { وهي لغة ; ومنه قول الشاعر : وتسمع من تحت العجاج لها ازملا وقول الآخر :
إن لم أقاتل فألبسوني برقعا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا قال بكر بن عبد الله
المزني : لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا ; لقول الله تعالى : { فلا تأخذوا } ,
وجعلها ناسخة لآية { البقرة } . وقال ابن زيد وغيره : هي منسوخة بقوله تعالى في سورة
البقرة { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } [ البقرة : 229 ] . والصحيح أن
هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض . قال الطبري :
هي محكمة , ولا معنى لقول بكر : إن أرادت هي العطاء ; فقد جوز النبي صلى الله عليه
وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها . أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا
مُبِينًا { بهتانا { مصدر في موضع الحال { وإثما { معطوف عليه { مبينا { من نعته .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ و{ المقدسة { معناه المطهرة . مجاهد : المباركة ;
والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه . قتادة : هي الشام . مجاهد : الطور وما حوله
. ابن عباس والسدي وابن زيد : هي أريحاء . قال الزجاج : دمشق وفلسطين وبعض : الأردن ,
وقول قتادة يجمع هذا كله . الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ أي فرض دخولها
عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم . ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل
أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا : لا علم لنا بتلك الديار ; فبعث بأمر الله اثني عشر
نقيبا , من كل سبط رجل يتجسسون الأخبار على ما تقدم , فرأوا سكانها الجبارين من
العمالقة , وهم ذوو أجسام هائلة ; حتى قيل : إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في
كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يده وقال : إن
هؤلاء يريدون قتالنا ; فقال لهم الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا ; على ما
تقدم , وقيل : إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الأرض عنقودا فقيل : حمله رجل واحد
, وقيل : حمله النقباء الاثنا عشر . قلت : وهذا أشبه ; فإنه يقال : إنهم لما وصلوا
إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم , ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة
منهم في خشبة , ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة . قلت : ولا
تعارض بين هذا والأول ; فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه - ويقال : في حجره - هو
عوج بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا ; على ما يأتي من ذكره إن شاء الله
تعالى , وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصفا في قول مقاتل . وقال الكلبي : كان طول كل
رجل منهم ثمانين ذراعا , والله أعلم . فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب بن يوقنا
, وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة
ونشأ أولادهم , فقاتلوا الجبارين وغلبوهم . لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا أي لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال
الجبارين , وقيل : لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته , والمعنى واحد .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ و{ المقدسة { معناه المطهرة . مجاهد : المباركة ;
والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه . قتادة : هي الشام . مجاهد : الطور وما حوله
. ابن عباس والسدي وابن زيد : هي أريحاء . قال الزجاج : دمشق وفلسطين وبعض : الأردن ,
وقول قتادة يجمع هذا كله . الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ أي فرض دخولها
عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم . ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل
أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا : لا علم لنا بتلك الديار ; فبعث بأمر الله اثني عشر
نقيبا , من كل سبط رجل يتجسسون الأخبار على ما تقدم , فرأوا سكانها الجبارين من
العمالقة , وهم ذوو أجسام هائلة ; حتى قيل : إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في
كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يده وقال : إن
هؤلاء يريدون قتالنا ; فقال لهم الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا ; على ما
تقدم , وقيل : إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الأرض عنقودا فقيل : حمله رجل واحد
, وقيل : حمله النقباء الاثنا عشر . قلت : وهذا أشبه ; فإنه يقال : إنهم لما وصلوا
إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم , ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة
منهم في خشبة , ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة . قلت : ولا
تعارض بين هذا والأول ; فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه - ويقال : في حجره - هو
عوج بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا ; على ما يأتي من ذكره إن شاء الله
تعالى , وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصفا في قول مقاتل . وقال الكلبي : كان طول كل
رجل منهم ثمانين ذراعا , والله أعلم . فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب بن يوقنا
, وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة
ونشأ أولادهم , فقاتلوا الجبارين وغلبوهم . لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا أي لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال
الجبارين , وقيل : لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته , والمعنى واحد . وَلَا
تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يقال : كان الناس يتزوجون امرأة
الأب برضاها بعد نزول قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا
النساء كرها } [ النساء : 19 ] حتى نزلت هذه الآية : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم }
فصار حراما في الأحوال كلها ; لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج , فإن كان الأب
تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح حرمت على ابنه ; على ما يأتي بيانه إن شاء الله
تعالى . { ما نكح { قيل : المراد بها النساء . وقيل : العقد , أي نكاح آباؤكم الفاسد
المخالف لدين الله ; إذ الله قد أحكم وجه النكاح وفصل شروطه . وهو اختيار الطبري . ف
{ من { متعلقة ب { تنكحوا { و } ما نكح { مصدر . قال : ولو كان معناه ولا تنكحوا
النساء اللاتي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع { ما }{ من } . فالنهي على هذا إنما
وقع على ألا ينكحوا مثل نكاح آبائهم الفاسد . والأول أصح , وتكون { ما { بمعنى }
الذي { و } من } . والدليل عليه أن الصحابة تلقت الآية على ذلك المعنى ; ومنه استدلت
على منع نكاح الأبناء حلائل الآباء . وقد كان في العرب قبائل قد أعتادت أن يخلف ابن
الرجل على امرأة أبيه , وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة , وكانت في قريش مباحة
مع التراضي . ألا ترى أن عمرو بن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا
وأبا معيط , وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ; فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي
معيط وأعمامهما . ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاختة بنت
الأسود بن المطلب بن أسد , وكان أمية قتل عنها . ومن ذلك منظور بن زبان خلف على
مليكة بنت خارجة , وكانت تحت أبيه زبان بن سيار . ومن ذلك حصن بن أبي قيس تزوج امرأة
أبيه كبيشة بنت معن . والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه . وقال الأشعث بن سوار : توفي
أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت : إني أعدك ولدا ,
ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره ; فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه
الآية . وقد كان في العرب من تزوج ابنته , وهو حاجب بن زرارة تمجس وفعل هذه الفعلة ;
ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب . فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من
هذه السيرة . إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أي تقدم ومضى . والسلف ; من تقدم من آبائك وذوي
قرابتك . وهذا استثناء منقطع , أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه . وقيل : { إلا }
بمعنى بعد , أي بعد ما سلف ; كما قال تعالى : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة
الأولى } [ الدخان : 56 ] أي بعد الموتة الأولى . وقيل : { إلا ما قد سلف { أي ولا
ما سلف ; كقوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } [ النساء : 92 ]
يعني ولا خطأ . وقيل : في الآية تقديم وتأخير , معناه : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من
النساء إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا ما قد سلف . وقيل : في الآية إضمار لقوله
{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء { فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد
سلف . إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا عقب بالذم البالغ
المتتابع , وذلك دليل على أنه فعل انتهى من القبح إلى الغاية . قال أبو العباس :
سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو
مات عنها ; ويقال لهذا الرجل : الضيزن . وقال ابن عرفة : كانت العرب إذا تزوج الرجل
امرأة أبيه فأولدها قيل للولد : المقتي . وأصل المقت البغض ; من مقته يمقته مقتا فهو
ممقوت ومقيت . فكانت العرب تقول للرجل من امرأة أبيه : مقيت ; فسمى تعالى هذا النكاح
{ مقتا { إذ هو ذا مقت يلحق فاعله . وقيل : المراد بالآية النهي عن أن يطأ الرجل
امرأة وطئها الآباء , إلا ما قد سلف من الآباء في الجاهلية من الزنى بالنساء لا على
وجه المناكحة فإنه جائز لكم زواجهن . وأن تطئوا بعقد النكاح ما وطئه آباؤكم من الزنى
; قال ابن زيد : وعليه فيكون الاستثناء متصلا , ويكون أصلا في أن الزنى لا يحرم على
ما يأتي بيانه . والله أعلم .
قوله تعالى : قال رجلان من الذين يخافون قال ابن عباس وغيره : هما يوشع وكالب بن
يوقنا ويقال ابن قانيا ، وكانا من الاثني عشر نقيبا . ويخافون أي : من الجبارين .
قتادة : يخافون الله تعالى ، وقال الضحاك : هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على
دين موسى ; فمعنى يخافون على هذا أي : من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على
إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله ، وقيل : يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم ، وقرأ
مجاهد وابن جبير { يخافون { بضم الياء ، وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى . أنعم
الله عليهما أي : بالإسلام أو باليقين والصلاح . ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه
فإنكم غالبون قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم ;
فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة ، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان
لهم الغلب ، ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله . ثم قالا : وعلى الله فتوكلوا
إن كنتم مؤمنين مصدقين به ; فإنه ينصركم . ثم قيل على القول الأول : لما قالا هذا
أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة ، وقالوا : نصدقكما وندع قول عشرة ! .
ثم قالوا لموسى : إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها وهذا عناد وحيد عن القتال ،
وإياس من النصر . ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا فاذهب أنت وربك وصفوه
بالذهاب والانتقال ، والله متعال عن ذلك ، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة ; وهو
معنى قول الحسن ; لأنه قال : هو كفر منهم بالله ، وهو الأظهر في معنى الكلام ، وقيل
: أي : أن نصرة ربك لك أحق من نصرتنا ، وقتاله معك - إن كنت رسوله - أولى من قتالنا
; فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر ; لأنهم شكوا في رسالته . وقيل المعنى : اذهب أنت
فقاتل وليعنك ربك ، وقيل : أرادوا بالرب هارون ، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه
. وبالجملة فقد فسقوا بقولهم ; لقوله تعالى : فلا تأس على القوم الفاسقين أي : لا
تحزن عليهم . إنا هاهنا قاعدون أي : لا نبرح ولا نقاتل ، ويجوز { قاعدين { على
الحال ; لأن الكلام قد تم قبله .
قوله تعالى : قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي لأنه كان يطيعه ، وقيل المعنى : إني
لا أملك إلا نفسي ، ثم ابتدأ فقال : وأخي . أي : وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه ; فأخي
على القول الأول في موضع نصب عطفا على نفسي ، وعلى الثاني في موضع رفع ، وإن شئت
عطفت على اسم إن وهي الياء ; أي : إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا ، وإن شئت عطفت على
المضمر في أملك كأنه قال : لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا . فافرق بيننا وبين القوم
الفاسقين يقال : بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم ؟ ففيه أجوبة ; الأول :
بما يدل على بعدهم عن الحق ، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان ; ولذلك
ألقوا في التيه . الثاني : بطلب التمييز أي : ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا
بهم في العقاب ، وقيل المعنى : فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي
ابتليتهم به ; ومنه قوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم أي : يقضى . وقد فعل لما
أماتهم في التيه ، وقيل : إنما أراد في الآخرة ، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا
معهم في النار ; والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر :
يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن
عبيد بن عمير أنه قرأ : { فافرق { بكسر الراء .
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي
الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قوله تعالى : { قال فإنها
محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض { استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه
أربعين سنة , وأصل التيه في اللغة الحيرة ; يقال منه : تاه يتيه تيها وتوها إذا
تحير . وتيهته وتوهته بالياء والواو , والياء أكثر , والأرض التيهاء التي لا يهتدى
فيها ; وأرض تيه وتيهاء ومنها قال : تيه أتاويه على السقاط وقال آخر : بتيهاء قفر
والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة - قيل :
في قدر ستة فراسخ - يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا ; فكانوا
سيارة لا قرار لهم . واختلف هل كان معهم موسى وهارون ؟ فقيل : لا ; لأن التيه عقوبة
, وكانت سنو التيه بعدد أيام العجل , فقوبلوا على كل يوم سنة ; وقد قال : { فافرق
بيننا وبين القوم الفاسقين } , وقيل : كانا معهم لكن سهل الله الأمر عليهما كما جعل
النار بردا وسلاما على إبراهيم , ومعنى { محرمة { أي أنهم ممنوعون من دخولها ; كما
يقال : حرم الله وجهك على النار , وحرمت عليك دخول الدار ; فهو تحريم منع لا تحريم
شرع , عن أكثر أهل التفسير ; كما قال الشاعر : جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني
امرؤ صرعي عليك حرام أي أنا فارس فلا يمكنك صرعي , وقال أبو علي : يجوز أن يكون
تحريم تعبد , ويقال : كيف يجوز على جماعة كثيرة من العقلاء أن يسيروا في فراسخ
يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها ؟ فالجواب : قال أبو علي : قد يكون ذلك بأن يحول الله
الأرض التي هي عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدءوا منه , وقد يكون بغير
ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن
العادة .{ أربعين { ظرف زمان للتيه ; في قول الحسن وقتادة ; قالا : ولم يدخلها أحد
منهم ; فالوقف على هذا على { عليهم } , وقال الربيع بن أنس وغيره : إن { أربعين سنة
{ ظرف للتحريم , فالوقف على هذا على { أربعين سنة } ; فعلى الأول إنما دخلها
أولادهم ; قاله ابن عباس . ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب , فخرج منهم يوشع بذرياتهم
إلى تلك المدينة وفتحوها , وعلى الثاني : فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها . وروي
عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا في التيه . قال غيره : ونبأ الله يوشع وأمره بقتال
الجبارين , وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة , وفيها أحرق الذي وجد الغلول
عنده , وكانت تنزل من السماء إذا غنموا نار بيضاء فتأكل الغنائم ; وكان ذلك دليلا
على قبولها , فإن كان فيها غلول لم تأكله , وجاءت السباع والوحوش فأكلته ; فنزلت
النار فلم تأكل ما غنموا فقال : إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته , فلصقت
يد رجل منهم بيده فقال : فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى
لصقت يد رجل منهم بيده فقال : عندك الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب , فنزلت
النار فأكلت الغنائم , وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي صوت مثل صوت الشجر
وجناح الطائر فيما يذكرون ; فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن عاجز ,
عرف باسم الغال ; وكان اسمه عاجزا . قلت : ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا , وقد
تقدم حكمه في ملتنا , وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي
هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( غزا نبي من الأنبياء ) الحديث أخرجه
مسلم وفيه قال : ( فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس
أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه - قال :
فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال : فيكم غلول فليبايعني من
كل قبيلة رجل فبايعوه - قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول )
وذكر نحو ما تقدم . قال علماؤنا : والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل
أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة , وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه
لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت , ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف
ويجتاحهم ; فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة بخبر موسى عليه الصلاة
والسلام , على ما يقال , والله أعلم , وفي هذا الحديث يقول عليه السلام : ( فلم تحل
الغنائم لأحد من قبلنا ) ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا , وهذا
يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى : { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين { إنه
تحليل الغنائم والانتفاع بها , وممن قال إن موسى عليه الصلاة والسلام مات بالتيه
عمرو بن ميمون الأودي , وزاد وهارون ; وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات
هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل ; فقالوا : ما فعل هارون ؟ فقال : مات ;
قالوا : كذبت ولكنك قتلته لحبنا له , وكان محبا في بني إسرائيل ; فأوحى الله تعالى
إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله ; فانطلق
بهم إلى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال : أنا قاتلك ؟ قال : لا ;
ولكني مت ; قال : فعد إلى مضجعك ; وانصرف , وقال الحسن : إن موسى لم يمت بالتيه ,
وقال غيره : إن موسى فتح أريحاء , وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا
بها , ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم , ثم قبضه الله
تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق . قال الثعلبي : وهو أصح الأقاويل . قلت :
قد روى مسلم عن أبي هريرة قال : أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما
جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال : { أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت { قال :
فرد الله إليه عينه وقال : { ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده
بكل شعرة سنة { قال : { أي رب ثم مه } , قال : { ثم الموت { قال : { فالآن } ; فسأل
الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر ) فهذا نبينا صلى الله
عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه , ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء , إلا
أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم ; ولعل ذلك
لئلا يعبد , والله أعلم , ويعني بالطريق طريق بيت المقدس , ووقع في بعض الروايات
إلى جانب الطور مكان الطريق , واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت
وفقئها على أقوال ; منها : أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة , وهذا باطل , لأنه يؤدي
إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له , ومنها : أنها كانت عينا
معنوية وإنما فقأها بالحجة , وهذا مجاز لا حقيقة , ومنها : أنه عليه السلام لم يعرف
الموت , وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه
ففقأها ; وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن , وهذا وجه حسن ; لأنه حقيقة في العين
والصك ; قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة , غير أنه اعترض عليه بما في الحديث ; وهو أن
ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال : { يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت }
فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت ; وأيضا قوله في الرواية الأخرى : "
أجب ربك { يدل على تعريفه بنفسه , والله أعلم . ومنها : أن موسى عليه الصلاة والسلام
كان سريع الغضب , إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته ; وسرعة غضبه
كانت سببا لصكه ملك الموت . قال ابن العربي : وهذا كما ترى , فإن الأنبياء معصومون
أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب , ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال :
أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت , وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء
الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير , وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم من ( أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيره ) فلما جاءه على غير
الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه , فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك
الموت ; إذ لم يصرح له بالتخيير , ومما يدل على صحة هذا , أنه لما رجع إليه ملك
الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموث واستسلم , والله بغيبه أحكم وأعلم . هذا
أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام , وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله
أعلم بصحتها ; وفي الصحيح غنية عنها . وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة ; فيروى أن
يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له : كيف وجدت الموت ؟ فقال : { كشاة تسلخ وهي
حية } , وهذا صحيح معنى ; قال : صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( إن للموت
سكرات ) على ما بيناه في كتاب { التذكرة } , وقوله : { فلا تأس على القوم الفاسقين
{ أي لا تحزن , والأسى الحزن ; أسي يأسى أي حزن , قال : يقولون لا تهلك أسى وتجمل .
قوله تعالى : { والله يريد أن يتوب عليكم { ابتداء وخبر . و { أن { في موضع نصب ب }
يريد { وكذلك { يريد الله أن يخفف عنكم } ; ف { أن يخفف { في موضع نصب ب { يريد }
والمعنى : يريد توبتكم , أي يقبلها فيتجاوز عن ذنوبكم ويريد التخفيف عنكم . قيل :
هذا في جميع أحكام الشرع , وهو الصحيح . وقيل : المراد بالتخفيف نكاح الأمة , أي لما
علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء ; قاله مجاهد وابن زيد
وطاوس . قال طاوس : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء . واختلف في
تعيين المتبعين للشهوات ; فقال مجاهد : هم الزناة . السدي : هم اليهود والنصارى
. وقالت فرقة : هم اليهود خاصة ; لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات
من الأب . وقال ابن زيد : ذلك على العموم , وهو الأصح . والميل : العدول عن طريق
الاستواء ; فمن كان عليها أحب أن يكون أمثاله عليها حتى لا تلحقه معرة .
قوله تعالى : { وخلق الإنسان ضعيفا { نصب على الحال ; والمعنى أن هواه يستميله
وشهوته وغضبه يستخفانه , وهذا أشد الضعف فاحتاج إلى التخفيف . وقال طاوس : ذلك في
أمر النساء خاصة . وروي عن ابن عباس أنه قرأ { وخلق الإنسان ضعيفا { أي وخلق الله
الإنسان ضعيفا , أي لا يصبر عن النساء . قال ابن المسيب : لقد أتى علي ثمانون سنة
وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وصاحبي أعمى أصم - يعني ذكره - وإني أخاف من
فتنة النساء . ونحوه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه , قال عبادة : ألا تروني لا
أقوم إلا رفدا ولا آكل إلا ما لوق لي - قال يحيى : يعني لين وسخن - وقد مات صاحبي
منذ زمان - قال يحيى : يعني ذكره - وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي , وأن لي
ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه علي , إنه لا سمع له ولا بصر .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ قوله
تعالى : { بالباطل { أي بغير حق . ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه ; وقد قدمنا معناه في
البقرة . ومن أكل المال بالباطل بيع العربان ; وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتري منك
الدابة ويعطيك درهما فما فوقه , على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن
السلعة أو كراء الدابة ; وإن ترك ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطاك فهو لك
. فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين , لأنه من
باب بيع القمار والغرر والمخاطرة , وأكل المال بالباطل بغير عوض ولا هبة , وذلك
باطل بإجماع . وبيع العربان مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده , وترد
السلعة إن كانت قائمة , فإن فاتت رد قيمتها يوم قبضها . وقد روي عن قوم منهم ابن
سيرين ومجاهد ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما
وصفنا . وكان زيد بن أسلم يقول : أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر :
هذا لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يصح , وإنما ذكره عبد الرزاق عن
الأسلمي عن زيد بن أسلم مرسلا ; وهذا ومثله ليس حجة . ويحتمل أن يكون بيع العربان
الجائز على ما تأوله مالك والفقهاء معه ; وذلك أن يعربنه ثم يحسب عربانه من الثمن
إذا اختار تمام البيع . وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره ; وفي موطأ مالك عن
الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى
عن بيع العربان ) . قال أبو عمر : قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع ,
وأشبه ما قيل فيه : أنه أخذه عن ابن لهيعة أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة ; لأن ابن
لهيعة سمعه من عمرو بن شعيب ورواه عنه . حدث به عن ابن لهيعة ابن وهب وغيره , وابن
لهيعة أحد العلماء إلا أنه يقال : إنه احترقت كتبه فكان إذا حدث بعد ذلك من حفظه
غلط . وما رواه عنه ابن المبارك وابن وهب فهو عند بعضهم صحيح . ومنهم من يضعف حديثه
كله ., وكان عنده علم واسع وكان كثير الحديث , إلا أن حاله عندهم كما وصفنا .
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ هذا استثناء منقطع , أي ولكن تجارة عن تراض
. والتجارة هي البيع والشراء ; وهذا مثل قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا
" [ البقرة : 275 ] على ما تقدم . وقرئ { تجارة } , بالرفع أي إلا أن تقع تجارة ;
وعليه أنشد سيبويه : فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب وتسمى
هذه كان التامة ; لأنها تمت بفاعلها ولم تحتج إلى مفعول . وقرئ { تجارة { بالنصب ;
فتكون كان ناقصة ; لأنها لا تتم بالاسم دون الخبر , فاسمها مضمر فيها , وإن شئت
قدرته , أي إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ; فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
, وقد تقدم هذا ; ومنه قوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة } [ البقرة : 280 ] . قوله
تعالى : { تجارة { التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ; ومنه الأجر الذي يعطيه
البارئ سبحانه العبد عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فعله ; قال الله تعالى
: { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [ الصف : 10 ]
. وقال تعالى : { يرجون تجارة لن تبور } [ فاطر : 29 ] . وقال تعالى : { إن الله
اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] الآية . فسمى ذلك كله بيعا
وشراء على وجه المجاز , تشبيها بعقود الأشربة والبياعات التي تحصل بها الأغراض ,
وهي نوعان : تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر , وهذا تربص واحتكار قد رغب عنه
أولو الأقدار , وزهد فيه ذوو الأخطار . والثاني تقلب المال بالأسفار ونقله إلى
الأمصار , فهذا أليق بأهل المروءة , وأعم جدوى ومنفعة , غير أنه أكثر خطرا وأعظم
غررا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن المسافر وماله لعلى قلت
إلا ما وقى الله ) . يعني على خطر . وقيل : في التوراة يا ابن آدم , أحدث سفرا أحدث
لك رزقا . الطبري : وهذه الآية أدل دليل على فساد قول . اعلم أن كل معاوضة تجارة على
أي وجه كان العوض إلا أن قوله { بالباطل { أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو
جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك . وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا
عوض فيه ; كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب . وجازت عقود التبرعات بأدلة أخرى مذكورة
في مواضعها . فهذان طرفان متفق عليهما . وخرج منها أيضا دعاء أخيك إياك إلى طعامه
. روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا
أن تكون تجارة عن تراض منكم { فكان الرجل يحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما
نزلت هذه الآية ; فنسخ ذلك بالآية الأخرى التي في { النور } ; فقال : { ليس على
الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من
بيوتكم } [ النور : 61 ] إلى قوله { أشتاتا } ; فكان الرجل الغني يدعو الرجل من
أهله إلى طعامه فيقول : إني لأجنح أن آكل منه - والتجنح الحرج ويقول : المسكين أحق
به مني . فأحل في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه , وأحل طعام أهل الكتاب . لو
اشتريت من السوق شيئا ; فقال لك صاحبه قبل الشراء : ذقه وأنت في حل ; فلا تأكل منه
; لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء ; فربما لا يقع بينكما شراء فيكون ذلك شبهة , ولكن
لو وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار . والجمهور على جواز
الغبن في التجارة ; مثل أن يبيع رجل ياقوتة به بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز ,
وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير , وهذا ما لا
اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك , كما تجوز الهبة لو وهب . واختلفوا فيه إذا
لم يعرف قدر ذلك ; فقال قوم : عرف قدر ذلك أو لم يعرف فهو جائز إذا كان رشيدا حرا
بالغا . وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود , وإنما أبيح منه المتقارب
المتعارف في التجارات , وأما المتفاحش الفادح فلا ; وقاله ابن وهب من أصحاب مالك
رحمه الله . والأول أصح ; لقوله عليه السلام في حديث الأمة الزانية . ( فليبعها ولو
بضفير ) وقوله عليه السلام لعمر : ( لا تبتعه يعني الفرس - ولو أعطاكه بدرهم واحد )
وقوله عليه السلام : ( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ) وقوله عليه السلام : (
لا يبع حاضر لباد ) وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره .
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ أي عن رضا , إلا أنها جاءت من المفاعلة إذ التجارة من اثنين
. واختلف العلماء في التراضي ; فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة
البيع , أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر ; فيقول : قد اخترت , وذلك بعد العقدة
أيضا فينجزم أيضا وإن لم يتفرقا ; قاله جماعة من الصحابة والتابعين , وبه قال
الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم . قال الأوزاعي : هما
بالخيار ما لم يتفرقا ; إلا بيوعا ثلاثة : بيع السلطان المغانم , والشركة في
الميراث , والشركة في التجارة ; فإذا صافقه في هذه الثلاثة فقد وجب البيع وليسا فيه
بالخيار . وقال : وحد التفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه ; وهو قول أهل الشام
. وقال الليث : التفرق أن يقوم أحدهما . وكان أحمد بن حنبل يقول : هما بالخيار أبدا
ما لم يتفرقا بأبدانهما , وسواء قالا : اخترنا أو لم يقولاه حتى يفترقا بأبدانهما
من مكانهما ; وقاله الشافعي أيضا . وهو الصحيح في هذا الباب للأحاديث الواردة في ذلك
. وهو مروي عن ابن عمر وأبي برزة وجماعة من العلماء . وقال مالك وأبو حنيفة : تمام
البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فينجزم العقد بذلك ويرتفع الخيار . قال محمد بن
الحسن : معنى قوله في الحديث ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) أن البائع إذا قال :
قد بعتك , فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قد قبلت . وهو قول أبي حنيفة , ونص مذهب
مالك أيضا , حكاه ابن خويز منداد . وقيل : ليس له أن يرجع . وقد مضى في { البقرة }
. واحتج الأولون بما ثبت من حديث سمرة بن جندب وأبي برزة وابن عمر وعبد الله بن عمرو
بن العاص وأبي هريرة وحكيم بن حزام وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ( البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه أختر ) . رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر
; فقوله عليه السلام في هذه الرواية : ( أو يقول أحدهما لصاحبه اختر ) هو معنى
الرواية الأخرى ( إلا بيع الخيار ) وقوله : ( إلا أن يكون بيعهما عن خيار ) ونحوه
. أي يقول أحدهما بعد تمام البيع لصاحبه : اختر إنفاذ البيع أو فسخه ; فإن اختار
إمضاء البيع تم البيع بينهم وإن لم يتفرقا . وكان ابن عمر وهو راوي الحديث إذا بايع
أحدا وأحب أن ينفذ البيع مشى قليلا ثم رجع . وفي الأصول : إن من روى حديثا فهو أعلم
بتأويله , لا سيما الصحابة إذ هم أعلم بالمقال وأقعد بالحال . وروى أبو داود
والدارقطني عن أبي الوضيء قال : كنا في سفر في عسكر فأتى رجل معه فرس فقال له رجل
منا : أتبيع هذا الفرس بهذا الغلام ؟ قال : نعم ; فباعه ثم بات معنا , فلما أصبح
قام إلى فرسه , فقال له صاحبنا : ما لك والفرس ! أليس قد بعتنيها ؟ فقال : ما لي في
هذا البيع من حاجة . فقال : ما لك ذلك , لقد بعتني . فقال لهما القوم : هذا أبو برزة
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه ; فقال لهما : أترضيان بقضاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ فقالا : نعم . فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) وإني لا أراكما افترقتما . فهذان صحابيان قد علما
مخرج الحديث وعملا بمقتضاه , بل هذا كان عمل الصحابة . قال سالم : قال ابن عمر : كنا
إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان . قال : فتبايعت أنا
وعثمان فبعته مالي بالوادي بمال له بخيبر ; قال : فلما بعته طفقت أنكص القهقرى ,
خشية أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه . أخرجه الدارقطني ثم قال : إن أهل اللغة
فرقوا بين فرقت مخففا وفرقت مثقلا ; فجعلوه بالتخفيف في الكلام وبالتثقيل في
الأبدان . قال أحمد بن يحيى ثعلب : أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال : يقال فرقت
بين الكلامين مخففا فافترقا وفرقت بين اثنين مشددا فتفرقا ; فجعل الافتراق في القول
, والتفرق في الأبدان . احتجت المالكية بما تقدم بيانه في آية الدين , وبقوله تعالى
: { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] وهذان قد تعاقدا . وفي هذا الحديث إبطال الوفاء
بالعقود . قالوا : وقد يكون التفرق بالقول كعقد النكاح ووقوع الطلاق الذي قد سماه
الله فراقا ; قال الله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } [ النساء : 130
] وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } [ آل عمران : 105 ] وقال عليه السلام
: ( تفترق أمتي ) ولم يقل بأبدانها . وقد روى الدارقطني وغيره عن عمرو بن شعيب قال :
سمعت شعيبا يقول : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول : ( أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من
مكانهما إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله )
. قالوا : فهذا يدل على أنه قد تم البيع بينهما قبل الافتراق ; لأن الإقالة لا تصح
إلا فيما قد تم من البيوع . قالوا : ومعنى قوله ( المتبايعان بالخيار ) أي
المتساومان بالخيار ما لم يعقدا فإذا عقدا بطل الخيار فيه . والجواب : أما ما اعتلوا
به من الافتراق بالكلام فإنما المراد بذلك الأديان كما بيناه في { آل عمران } , وإن
كان صحيحا في بعض المواضع فهو في هذا الموضع غير صحيح . وبيانه أن يقال : خبرونا عن
الكلام الذي وقع به الاجتماع وتم به البيع , أهو الكلام الذي أريد به الافتراق أم
غيره ؟ فإن قالوا : هو غيره فقد أحالوا وجاءوا بما لا يعقل ; لأنه ليس ثم كلام غير
ذلك . وإن قالوا : هو ذلك الكلام بعينه قيل لهم : كيف يجوز أن يكون الكلام الذي به
اجتمعا وتم به بيعهما , به افترقا , هذا عين المحال والفاسد من القول . وأما قوله :
( ولا يحل له أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله ) فمعناه - إن صح - على الندب ; بدليل
قوله عليه السلام . ( من أقال مسلما أقاله الله عثرته ) وبإجماع المسلمين على أن ذلك
يحل لفاعله على خلاف ظاهر الحديث , ولإجماعهم أنه جائز له أن يفارقه لينفذ بيعه ولا
يقيله إلا أن يشاء . وفيما أجمعوا عليه من ذلك رد لرواية من روى ( لا يحل ) فإن لم
يكن وجه هذا الخبر الندب , وإلا فهو باطل بالإجماع . وأما تأويل { المتبايعان }
بالمتساومين فعدول عن ظاهر اللفظ , وإنما معناه المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما
داما في مجلسهما , إلا بيعا يقول أحدهما لصاحبه فيه : اختر فيختار ; فإن الخيار
ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ; فإن فرض خيار فالمعنى : إلا بيع الخيار فإنه يبقى
الخيار بعد التفرد بالأبدان . وتتميم هذا الباب في كتب الخلاف . وفي قول عمرو بن شعيب
{ سمعت أبي يقول { دليل على صحة حديثه ; فإن الدارقطني قال حدثنا أبو بكر
النيسابوري حدثنا محمد بن علي الوراق قال : قلت لأحمد بن حنبل : شعيب سمع من أبيه
شيئا ؟ قال : يقول حدثني أبي . قال : فقلت : فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو ؟ قال :
نعم , أراه قد سمع منه . قال الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول : هو عمرو بن
شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص , وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه
شعيب وسماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو . روى الدارقطني عن ابن عمر قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبي والصديقين
والشهداء يوم القيامة ) . ويكره للتاجر أن يحلف لأجل ترويج السلعة وتزيينها , أو
يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في عرض سلعته ; وهو أن يقول : صلى الله على محمد
! ما أجود هذا . ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارته عن أداء الفرائض ; فإذا جاء وقت
الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية : { رجال لا تلهيهم تجارة
ولا بيع عن ذكر الله } [ النور : 37 ] وسيأتي . وفي هذه الآية مع الأحاديث التي
ذكرناها ما يرد قول من ينكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات من المتصوفة الجهلة ;
لأن الله تعالى حرم أكلها بالباطل وأحلها بالتجارة , وهذا بين . مِنْكُمْ وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ فيه مسألة واحدة - قرأ الحسن }
تقتلوا { على التكثير . وأجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهي أن يقتل
بعض الناس بعضا . ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على
الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف . ويحتمل أن يقال : "
ولا تقتلوا أنفسكم { في حال ضجر أو غضب ; فهذا كله يتناوله النهي . وقد احتج عمرو بن
العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات
السلاسل خوفا على نفسه منه ; فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه وضحك عنده ولم
يقل شيئا . خرجه أبو داود وغيره , وسيأتي .
{ ذلك { إشارة إلى القتل ; لأنه أقرب مذكور ; قاله عطاء . وقيل : هو عائد إلى أكل
المال بالباطل وقتل النفس ; لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا , ثم ورد الوعيد حسب
النهي . وقيل : هو عام على كل ما نهى عنه من القضايا , من أول السورة إلى قوله تعالى
: { ومن يفعل ذلك } . وقال الطبري : { ذلك { عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد , وذلك
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } [ النساء :
19 ] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد , إلا من قول : { يا أيها الذين
آمنوا لا يحل لكم { فإنه لا وعيد بعده إلا قوله : { ومن يفعل ذلك عدوانا } [ النساء
10 ] . والعدوان تجاوز الحد . والظلم وضع الشيء في غير موضعه , وقد تقدم . وقيد الوعيد
بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط , وذكر العدوان والظلم مع تقارب
معانيهما لاختلاف ألفاظهما , وحسن ذلك في الكلام كما قال : وألفى قولها كذبا ومينا
وحسن العطف لاختلاف اللفظين ; يقال : بعدا وسحقا ; ومنه قول يعقوب : { إنما أشكو
بثي وحزني إلى الله } [ يوسف : 86 ] . فحسن ذلك لاختلاف اللفظ . و { نصليه { معناه
نمسه حرها . وقد بينا معنى الجمع بين هذه الآي وحديث أبي سعيد الخدري في العصاة وأهل
الكبائر لمن أنفذ عليه الوعيد ; فلا معنى لإعادة ذلك . وقرأ الأعمش والنخعي { نصليه
{ بفتح النون , على أنه منقول من صلى نارا , أي أصليته ; وفي الخبر { شاة مصلية }
. ومن ضم النون منقول بالهمزة , مثل طعمت وأطعمت .
قال مجاهد : بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه , وكان ابن
آدم هذا أول من قتل , وقيل : إن الغراب بحث الأرض على طعمه ليخفيه إلى وقت الحاجة
إليه ; لأنه من عادة الغراب فعل ذلك ; فتنبه قابيل ذلك على مواراة أخيه . وروي أن
قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب , ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة ; قاله مجاهد ,
وروى ابن القاسم عن مالك أنه حمله سنة واحدة ; وقاله ابن عباس , وقيل : حتى أروح
ولا يدري ما يصنع به إلى أن اقتدى بالغراب كما تقدم , وفي الخبر عن أنس قال : سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث بالريح
بعد الروح فلولا أن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما وبالدود في الجثة فلولا
أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيرا لهم من الدراهم والدنانير
وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان
الموت أستر له ) , وقال قوم : كان قابيل يعلم الدفن , ولكن ترك أخاه بالعراء
استخفافا به , فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه , فقال عند ذلك : { يا
ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين } , حيث رأى
إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه , ولم يكن ذلك ندم توبة , وقيل :
إنما ندمه كان على فقده لا على قتله , وإن كان فلم يكن موفيا شروطه . أو ندم ولم
يستمر ندمه ; فقال ابن عباس : ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه ,
ويقال : إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه . ثم إن قابيل كان على ذروة جبل
فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه . ويقال : دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض
, ويقال : إن قابيل استوحش بعد قتل هابيل ولزم البرية , وكان لا يقدر على ما يأكله
إلا من الوحش , فكان إذا ظفر به وقذه حتى يموت ثم يأكله . قال ابن عباس : فكانت
الموقوذة حراما من لدن قابيل بن آدم , وهو أول من يساق من الآدميين إلى النار ;
وذلك قوله تعالى : { ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس } [ فصلت : 29 ] الآية
, فإبليس رأس الكافرين من الجن , وقابيل رأس الخطيئة من الإنس ; على ما يأتي بيانه
في { حم فصلت { إن شاء الله تعالى , وقد قيل : إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة ,
والله بكل ذلك أعلم وأحكم , وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم ; ولذلك
جهلت سنة المواراة ; وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في كتب
الأوائل , وقوله { يبحث { معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره . ومن هذا سميت سورة }
براءة { البحوث ; لأنها فتشت عن المنافقين ; ومن ذلك قول الشاعر : إن الناس غطوني
تغطيت عنهم وإن بحثوني كان فيهم مباحث وفي المثل : لا تكن كالباحث على الشفرة ; قال
الشاعر : فكانت كعنز السوء قامت برجلها إلى مدية مدفونة تستثيرها بعث الله الغراب
حكمة ; ليرى ابن آدم كيفية المواراة , وهو معنى قوله تعالى : { ثم أماته فأقبره } [
عبس : 21 ] , فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق , فرضا على جميع
الناس على الكفاية , من فعله منهم سقط فرضه . عن الباقين . وأخص الناس به الأقربون
الذين يلونه , ثم الجيرة , ثم سائر المسلمين , وأما الكفار فقد روى أبو داود عن علي
قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال قد مات ; قال : ( اذهب فوار
أباك التراب ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني ) فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت
ودعا لي , ويستحب في القبر سعته وإحسانه ; لما رواه ابن ماجه عن هشام بن عامر رضي
الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( احفروا وأوسعوا وأحسنوا ) ,
وروي عن الأدرع السلمي قال : جئت ليلة أحرس النبي صلى الله عليه وسلم ; فإذا رجل
قراءته عالية , فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله : هذا مراء ;
قال : فمات بالمدينة ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه , فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله ) . قال : وحضر حفرته فقال
: ( أوسعوا له وسع الله عليه ) فقال بعض أصحابه : يا رسول الله لقد حزنت عليه ؟
فقال : ( أجل إنه كان يحب الله ورسوله ) ; أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد بن
الحباب . عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي سعيد . قال أبو عمر بن عبد البر : أدرع
السلمي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا , وروى عنه سعيد بن أبي سعيد
المقبري ; وأما هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار
الأنصاري , كان يسمى في الجاهلية شهابا فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه
هشاما , واستشهد أبوه عامر يوم أحد . سكن هشام البصرة ومات بها ; ذكر هذا في كتاب
الصحابة . ثم قيل : اللحد أفضل من الشق ; فإنه الذي اختاره الله لرسوله صلى الله
عليه وسلم ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد
والآخر لا يلحد ; فقالوا : أيهما جاء أول عمل عمله , فجاء الذي يلحد فلحد لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ; ذكره مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه , وأخرجه
ابن ماجه عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما , والرجلان هما أبو طلحة وأبو عبيدة
; وكان أبو طلحة يلحد وأبو عبيدة يشق , واللحد هو أن يحفر في جانب القبر إن كانت
تربة صلبة , يوضع فيه الميت ثم يوضع عليه اللبن ثم يهال التراب ; قال سعد بن أبي
وقاص في مرضه الذي هلك فيه : الحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول
الله صلى الله عليه وسلم . أخرجه مسلم . وروى ابن ماجه وغيره عن ابن عباس قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللحد لنا والشق لغيرنا ) . روى ابن ماجه عن سعيد
بن المسيب قال : حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال : بسم الله وفي
سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما أخذ في تسوية [ اللبن على
] اللحد قال : اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر , اللهم جاف الأرض عن جنبيها
, وصعد روحها ولقها منك رضوانا . قلت يا ابن عمر أشيء سمعته من رسول الله صلى الله
عليه وسلم أم قلته برأيك ؟ قال : إني إذا لقادر على القول ! بل شيء سمعته من رسول
الله صلى الله عليه وسلم , وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى
على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثا . فهذا ما تعلق في معنى
الآية من الأحكام , والأصل في { يا ويلتى { يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألف , وقرأ
الحسن على الأصل بالياء , والأول أفصح ; لأن حذف الياء في النداء أكثر , وهي كلمة
تدعو بها العرب عند الهلاك ; قاله سيبويه , وقال الأصمعي : { ويل { بعد , وقرأ
الحسن : { أعجزت { بكسر الجيم . قال النحاس : وهي لغة شاذة ; إنما يقال عجزت المرأة
إذا عظمت عجيزتها , وعجزت عن الشيء عجزا ومعجزة ومعجزة , والله أعلم .
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ روى الترمذي
عن أم سلمة أنها قالت : يغزو الرجال ولا يغزو النساء وإنما لنا نصف الميراث ; فأنزل
الله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } . قال مجاهد : وأنزل فيها
{ إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] , وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت
المدينة مهاجرة . قال أبو عيسى : هذا حديث مرسل , ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن
مجاهد , مرسل أن أم سلمة قالت كذا . وقال قتادة : كان الجاهلية لا يورثون النساء ولا
الصبيان ; فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن
كأنصباء الرجال . وقال الرجال : إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة
كما فضلنا عليهن في الميراث ; فنزلت , { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض }
. قوله تعالى : { ولا تتمنوا { التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل , كالتلهف
نوع منها يتعلق بالماضي ; فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني ; لأن فيه تعلق
البال ونسيان الأجل . وقد اختلف العلماء هل يدخل في هذا النهي الغبطة , وهي أن يتمنى
الرجل أن يكون له حال صاحبه وإن لم يتمن زوال حاله . والجمهور على إجازة ذلك : مالك
وغيره ; وهي المراد عند بعضهم في قوله عليه السلام ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه
الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه
آناء الليل وآناء النهار ) . فمعنى قوله : { لا حسد { أي لا غبطة أعظم وأفضل من
الغبطة في هذين الأمرين . وقد نبه البخاري على هذا المعنى حيث بوب على هذا الحديث (
باب الاغتباط في العلم والحكمة ) قال المهلب : بين الله تعالى في هذه الآية ما لا
يجوز تمنيه , وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها . قال ابن عطية : وأما التمني في
الأعمال الصالحة فذلك هو الحسن , وأما إذا تمنى المرء على الله من غير أن يقرن
أمنيته بشيء مما قدمنا ذكره فذلك جائز ; وذلك موجود في حديث النبي صلى الله عليه
وسلم في قول : ( وددت أن أحيا ثم أقتل ) . قلت : هذا الحديث هو الذي صدر به البخاري
كتاب التمني في صحيحه , وهو يدل على تمني الخير وأفعال البر والرغبة فيها , وفيه
فضل الشهادة على سائر أعمال البر ; لأنه عليه السلام تمناها دون غيرها , وذلك لرفيع
منزلتها وكرامة أهلها , فرزقه الله إياها ; لقوله : ( ما زالت أكلة خيبر تعاودني
الآن أوان قطعت أبهري ) . وفي الصحيح : ( إن الشهيد يقال له تمن فيقول أتمنى أن أرجع
إلى الدنيا حتى أقتل في سبيلك مرة أخرى ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمنى
إيمان أبي طالب وإيمان أبي لهب وصناديد قريش مع علمه بأنه لا يكون ; وكان يقول : (
واشوقاه إلى إخواني الذين يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ) . وهذا كله يدل على
أن التمني لا ينهى عنه إذا لم يكن داعية إلى الحسد والتباغض , والتمني المنهي عنه
في الآية من هذا القبيل ; فيدخل فيه أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على
أن يذهب ما عند الآخر , وسواء تمنيت مع ذلك أن يعود إليك أو لا . وهذا هو الحسد
بعينه , وهو الذي ذمه الله تعالى بقوله : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من
فضله } [ النساء : 54 ] ويدخل فيه أيضا خطبة الرجل على خطبة أخيه وبيعه على بيعه ;
لأنه داعية الحسد والمقت . وقد كره بعض العلماء الغبطة وأنها داخلة في النهي ,
والصحيح جوازها على ما بينا , وبالله توفيقنا . وقال الضحاك : لا يحل لأحد أن يتمنى
مال أحد , ألم تسمع الذين قالوا : { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون } [ القصص : 79 ]
إلى أن قال : { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } [ القصص : 82 ] حين خسف به وبداره
وبأمواله { لولا أن من الله علينا لخسف بنا } [ القصص : 82 ] وقال الكلبي : لا يتمن
الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته ; ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله
. وهو كذلك في التوراة , وكذلك قوله في القرآن { واسألوا الله من فضله } . وقال ابن
عباس : نهى الله سبحانه أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله , وأمر عباده المؤمنين أن
يسألوه من فضله . ومن الحجة للجمهور قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الدنيا لأربعة
نفر : رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا
فهذا بأفضل المنازل , ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو صادق النية يقول لو أن
لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء ) الحديث .. . وقد تقدم . خرجه
الترمذي وصححه . وقال الحسن : لا يتمن أحدكم المال وما يدريه لعل هلاكه فيه ; وهذا
إنما يصح إذا تمناه للدنيا , وأما إذا تمناه للخير فقد جوزه الشرع , فيتمناه العبد
ليصل به إلى الرب , ويفعل الله ما يشاء . لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا
وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ { للرجال نصيب مما اكتسبوا { يريد من
الثواب والعقاب { وللنساء { كذلك ; قال قتادة . فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر
أمثالها كما للرجال . وقال ابن عباس : المراد بذلك الميراث . والاكتساب على هذا القول
بمعنى الإصابة , للذكر مثل حظ الأنثيين ; فنهى الله عز وجل عن التمني على هذا الوجه
لما فيه من دواعي الحسد ; ولأن الله تعالى أعلم بمصالحهم منهم ; فوضع القسمة بينهم
على التفاوت على ما علم من مصالحهم . وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ
اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا { واسألوا الله من فضله { روى الترمذي عن
عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سلوا الله من فضله فإنه يحب
أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج ) وخرج أيضا ابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) . وهذا يدل على أن
الأمر بالسؤال لله تعالى واجب ; وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه فقال : الله
يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب وقال أحمد بن المعذل أبو الفضل الفقيه
المالكي فأحسن : التمس الأرزاق عند الذي ما دونه إن سيل من حاجب من يبغض التارك
تسآله جودا ومن يرضى عن الطالب ومن إذا قال جرى قوله بغير توقيع إلى كاتب وقد
أشبعنا القول في هذا المعنى في كتاب { قمع الحرص بالزهد والقناعة } . وقال سعيد بن
جبير : { واسألوا الله من فضله { العبادة , ليس من أمر الدنيا . وقيل : سلوه التوفيق
للعمل بما يرضيه . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سلوا ربكم حتى الشبع ; فإنه
إن لم ييسره الله عز وجل لم يتيسر . وقال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالسؤال إلا
ليعطي . وقرأ الكسائي وابن كثير : { وسلوا الله من فضله { بغير همز في جميع القرآن
. الباقون بالهمز .{ واسألوا الله } . وأصله بالهمز إلا أنه حذفت الهمزة للتخفيف
. والله أعلم .
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ بين
تعالى أن لكل إنسان ورثة وموالي ; فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث ,
ولا يتمن مال غير . وروى البخاري في كتاب الفرائض من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس
: { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم { قال : كان
المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه ; للأخوة التي آخى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم , فلما نزلت { ولكل جعلنا موالي { قال : نسختها
{ والذين عاقدت أيمانكم } . قال أبو الحسن بن بطال : وقع في جميع النسخ { ولكل جعلنا
موالي { قال : نسختها { والذين عاقدت أيمانكم } . والصواب أن الآية الناسخة { ولكل
جعلنا موالي { والمنسوخة { والذين عاقدت أيمانكم } , وكذا رواه الطبري في روايته
. وروي , عن جمهور السلف أن الآية الناسخة لقوله : { والذين عاقدت أيمانكم { قوله
تعالى في { الأنفال } : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ الأنفال : 75 ] . روي
هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن البصري ; وهو الذي أثبته أبو عبيد في كتاب { الناسخ
والمنسوخ { له . وفيها قول آخر رواه الزهري عن سعيد بن المسيب قال : أمر الله عز وجل
الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوا في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في
الوصية ورد الميراث إلى ذوي الرحم والعصبة . وقالت طائفة : قوله تعالى : { والذين
عاقدت أيمانكم { محكم وليس بمنسوخ ; وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء
أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك ; ذكره الطبري عن ابن عباس .{ والذين
عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم { من النصرة والنصيحة والرفادة ويوصي لهم وقد ذهب
الميراث ; وهو قول مجاهد والسدي . قلت : واختاره النحاس ; ورواه عن سعيد بن جبير ,
ولا يصح النسخ ; فإن الجمع ممكن كما بينه ابن عباس فيما ذكره الطبري , ورواه
البخاري عنه في كتاب التفسير . وسيأتي ميراث { ذوي الأرحام { في { الأنفال { إن شاء
الله تعالى . { كل { في كلام العرب معناها الإحاطة والعموم . فإذا جاءت مفردة فلا بد
أن يكون في الكلام حذف عند جميع النحويين ; حتى إن بعضهم أجاز مررت بكل , مثل قبل
وبعد . وتقدير الحذف : ولكل أحد جعلنا موالي , يعني ورثة .{ والذين عاقدت أيمانكم }
يعني بالحلف ; عن قتادة . وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك , وهدمي
هدمك , وثأري ثأرك , وحربي حربك , وسلمي سلمك , وترثني وأرثك , وتطلب بي وأطلب بك ,
وتعقل عني وأعقل عنك ; فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ثم نسخ . قوله تعالى : "
موالي { أعلم أن المولى لفظ مشترك يطلق على وجوه ; فيسمى المعتق مولى والمعتق مولى
. ويقال : المولى الأسفل والأعلى أيضا . ويسمى الناصر المولى ; ومنه قوله تعالى : "
وأن الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] . ويسمى ابن العم مولى والجار مولى . فأما
قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي { يريد عصبة ; لقوله عليه السلام : ( ما أبقت
السهام فلأولى عصبة ذكر ) . ومن العصبات المولى الأعلى لا الأسفل , على قول أكثر
العلماء ; لأن المفهوم في حق المعتق أنه المنعم على المعتق , كالموجد له ; فاستحق
ميراثه لهذا المعنى . وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أن المولى الأسفل يرث من الأعلى
; واحتج فيه بما روي أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق . قال الطحاوي : ولا معارض لهذا
الحديث , فوجب القول به ; ولأنه إذا أمكن إثبات الميراث للمعتق على تقدير أنه كان
كالموجد له , فهو شبيه بالأب ; والمولى الأسفل شبيه بالابن ; وذلك يقتضي التسوية
بينهما في الميراث , والأصل أن الاتصال يعم . وفي الخبر ( مولى القوم منهم ) . والذين
خالفوا هذا وهم الجمهور قالوا : الميراث . يستدعي القرابة ولا قرابة , غير أنا
أثبتنا للمعتق الميراث بحكم الإنعام على المعتق ; فيقتضي مقابلة الإنعام بالمجازاة
, وذلك لا ينعكس في المولى الأسفل . وأما الابن فهو أولى الناس بأن يكون خليفة أبيه
وقائما مقامه , وليس المعتق صالحا لأن يقوم مقام معتقه , وإنما المعتق قد أنعم عليه
فقابله الشرع بأن جعله أحق بمولاه المعتق , ولا يوجد هذا في المولى الأسفل ; فظهر
الفرق بينهما والله أعلم . وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ روى علي بن كبشة عن
حمزة { عقدت { بتشديد القاف على التكثير . والمشهور عن حمزة { عقدت أيمانكم { مخففة
القاف , وهي قراءة عاصم والكسائي , وهي قراءة بعيدة ; لأن المعاقدة لا تكون إلا من
اثنين فصاعدا , فبابها فاعل . قال أبو جعفر النحاس : وقراءة حمزة تجوز على غموض في
العربية , يكون التقدير فيها والذين عقدتهم أيمانكم الحلف , وتعدى إلى مفعولين ;
وتقديره : عقدت لهم أيمانكم الحلف , ثم حذفت اللام مثل قوله تعالى : { وإذا كالوهم
" [ المطففين : 3 ] أي كالوا لهم . وحذف المفعول الثاني , كما يقال : كلتك أي كلت لك
برا . وحذف المفعول الأول لأنه متصل في الصلة . فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ
اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا أي قد شهد معاقدتكم إياهم , وهو عز وجل
يحب الوفاء .
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ ابتداء وخبر , أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن ; وأيضا فإن فيهم الحكام
والأمراء ومن يغزو , وليس ذلك في النساء . يقال : قوام وقيم . والآية نزلت في سعد بن
الربيع نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبي زهير فلطمها ; فقال أبوها :
يا رسول الله , أفرشته كريمتي فلطمها ! فقال عليه السلام : ( لتقتص من زوجها )
. فانصرفت مع أبيها لتقتص منه , فقال عليه السلام : ( ارجعوا هذا جبريل أتاني )
فأنزل الله هذه الآية ; فقال عليه السلام : ( أردنا أمرا وأراد الله غيره ) . وفي
رواية أخرى : ( أردت شيئا وما أراد الله خير ) . ونقض الحكم الأول . وقد قيل : إن في
هذا الحكم المردود نزل { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } [ طه : 114 ]
. ذكر إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا حجاج بن المنهال وعارم بن الفضل - واللفظ لحجاج
- قال حدثنا جرير بن حازم قال : سمعت الحسن يقول : إن امرأة أتت النبي صلى الله
عليه وسلم فقالت : إن زوجي لطم وجهي . فقال : ( بينكما القصاص ) , فأنزل الله تعالى
: { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } . وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم
حتى نزل : { الرجال قوامون على النساء } . وقال أبو روق : نزلت في جميلة بنت أبي وفي
زوجها ثابت بن قيس بن شماس . وقال الكلبي : نزلت في عميرة بنت محمد بن مسلمة وفي
زوجها سعد بن الربيع . وقيل : سببها قول أم سلمة المتقدم . ووجه النظم أنهن تكلمن في
تفضيل الرجال على النساء في الإرث , فنزلت { ولا تتمنوا { الآية . ثم بين تعالى أن
تفضيلهم عليهن في الإرث لما على الرجال من المهر والإنفاق ; ثم فائدة تفضيلهم عائدة
إليهن . ويقال : إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير ; فجعل لهم حق القيام
عليهن لذلك . وقيل : للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء ; لأن طبع
الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة , فيكون فيه قوة وشدة , وطبع النساء غلب عليه
الرطوبة والبرودة , فيكون فيه معنى اللين والضعف ; فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك ,
وبقوله تعالى : { وبما أنفقوا من أموالهم } . ودلت هذه الآية على تأديب الرجال
نساءهم , فإذا حفظن حقوق الرجال فلا ينبغي أن يسيء الرجل عشرتها . و { قوام { فعال
للمبالغة ; من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد . فقيام
الرجال على النساء هو على هذا الحد ; وهو أن يقوم بتدبيرها وتأديبها وإمساكها في
بيتها ومنعها من البروز , وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية ; وتعليل ذلك
بالفضيلة والنفقة والعقل والقوة في أمر الجهاد والميراث والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر . وقد راعى بعضهم في التفضيل اللحية - وليس بشيء ; فإن اللحية قد تكون وليس
معها شيء مما ذكرنا . وقد مضى الرد على هذا في { البقرة } . وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ أنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قواما عليها , وإذا لم يكن قواما عليها
كان لها فسخ العقد ; لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح . وفيه دلالة واضحة من هذا
الوجه على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة ; وهو مذهب مالك والشافعي
. وقال أبو حنيفة : لا يفسخ ; لقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } [
البقرة : 280 ] وقد تقدم القول في هذا في هذه السورة . فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ
حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ هذا كله خبر , ومقصوده الأمر بطاعة
الزوج والقيام بحقه في ماله وفي نفسها في حال غيبة الزوج . وفي مسند أبي داود
الطيالسي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير النساء التي
إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك ) قال
: وتلا هذه الآية { الرجال قوامون على النساء { إلى آخر الآية . وقال صلى الله عليه
وسلم لعمر : ( ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته
وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته { أخرجه أبو داود . وفي مصحف ابن مسعود }
فالصوالح قوانت حوافظ } . وهذا بناء يختص بالمؤنث . قال ابن جني : والتكسير أشبه لفظا
بالمعنى ; إذ هو يعطي الكثرة وهي المقصود هاهنا . و { ما { في قوله : { بما حفظ الله
{ مصدرية , أي بحفظ الله لهن . ويصح أن تكون بمعنى الذي , ويكون العائد في { حفظ }
ضمير نصب . وفي قراءة أبي جعفر { بما حفظ الله { بالنصب . قال النحاس : الرفع أبين ;
أي حافظات لمغيب أزواجهن بحفظ الله ومعونته وتسديده . وقيل : بما حفظهن الله في
مهورهن وعشرتهن . وقيل : بما استحفظهن الله إياه من أداء الأمانات إلى أزواجهن
. ومعنى قراءة النصب : بحفظهن الله ; أي بحفظهن أمره أو دينه . وقيل في التقدير : بما
حفظن الله , ثم وحد الفعل ; كما قيل : فإن الحوادث أودى بها وقيل : المعنى بحفظ
الله ; مثل حفظت الله . وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ اللاتي جمع التي وقد
تقدم . قال ابن عباس : تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون . وقيل هو على بابه . والنشوز
العصيان ; مأخوذ من النشز , وهو ما ارتفع من الأرض . يقال : نشز الرجل ينشز وينشز
إذا كان قاعدا فنهض قائما ; ومنه قوله عز وجل : { وإذا قيل انشزوا فانشزوا } [
المجادلة : 11 ] أي ارتفعوا وانهضوا إلى حرب أو أمر من أمور الله تعالى . فالمعنى :
أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج . وقال أبو منصور
اللغوي : النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه ; يقال : نشزت تنشز فهي ناشز بغير
هاء . ونشصت تنشص , وهي السيئة للعشرة . وقال ابن فارس : ونشزت المرأة استصعبت على
بعلها , ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها . قال ابن دريد : نشزت المرأة ونشست
ونشصت بمعنى واحد . فَعِظُوهُنَّ أي بكتاب الله ; أي ذكروهن ما أوجب الله عليهن من
حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج , والاعتراف بالدرجة التي له عليها , ويقول : إن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد
لزوجها ) . وقال : ( لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب ) . وقال : ( أيما امرأة
باتت هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) في رواية ( حتى تراجع وتضع يدها
في يده ) . وما كان مثل هذا . وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وقرأ ابن مسعود
والنخعي وغيرهما { في المضجع { على الإفراد ; كأنه اسم جنس يؤدي عن الجمع . والهجر
في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها ; عن ابن عباس وغيره . وقال
مجاهد : جنبوا مضاجعهن ; فيتقدر على هذا الكلام حذف , ويعضده { اهجروهن { من
الهجران , وهو البعد ; يقال : هجره أي تباعد ونأى عنه . ولا يمكن بعدها إلا بترك
مضاجعتها . وقال معناه إبراهيم النخعي والشعبي وقتادة والحسن البصري , ورواه ابن وهب
وابن القاسم عن مالك , واختاره ابن العربي وقال : حملوا الأمر على الأكثر الموفي
. ويكون هذا القول كما تقول : اهجره في الله . وهذا أصل مالك . قلت : هذا قول حسن ;
فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح ,
وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها ; فيتبين أن النشوز من قبلها . وقيل : { اهجروهن }
من الهجر وهو القبيح من الكلام , أي غلظوا عليهن في القول وضاجعوهن للجماع وغيره ;
قال معناه سفيان , وروي عن ابن عباس . وقيل : أي شدوهن وثاقا في بيوتهن ; من قولهم :
هجر البعير أي ربطه بالهجار , وهو حبل يشد به البعير , وهو اختيار الطبري وقدح في
سائر الأقوال . وفي كلامه في هذا الموضع نظر . وقد رد عليه القاضي أبو بكر بن العربي
في أحكامه فقال : يا لها من هفوة من عالم بالقرآن والسنة ! والذي حمله على هذا
التأويل حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير
بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك . قال : وعتب عليها وعلى ضرتها , فعقد شعر
واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربا شديدا , وكانت الضرة أحسن اتقاء , وكانت أسماء لا
تتقي فكان الضرب بها أكثر ; فشكت إلى أبيها أبي بكر رضي الله عنه فقال لها : أي
بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح , ولعله أن يكون زوجك في الجنة ; ولقد بلغني أن
الرجل إذا ابتكر بامرأة تزوجها في الجنة . فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل
الزبير فأقدم على هذا التفسير . وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر ; كما فعل النبي
صلى الله عليه وسلم حين أسر إلى حفصة فأفشته إلى عائشة , وتظاهرتا عليه . ولا يبلغ
به الأربعة الأشهر التي ضرب الله أجلا عذرا للمولى . وَاضْرِبُوهُنَّ أمر الله أن
يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران , فإن لم ينجعا فالضرب ; فإنه هو الذي
يصلحها له ويحملها على توفية حقه . والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح ,
وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها ; فإن المقصود منه الصلاح لا
غير . فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان , وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامه
لتعليم القرآن والأدب . وفي صحيح مسلم : ( اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه
فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ) الحديث . أخرجه من حديث جابر الطويل في الحج , أي
لا يدخلن منازلكم أحدا ممن تكرهونه من الأقارب والنساء الأجانب . وعلى هذا يحمل ما
رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم , فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فقال : ( ألا واستوصوا بالنساء خيرا
فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن
فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ألا
إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من
تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن
وطعامهن ) . وقال : هذا حديث حسن صحيح . فقوله : { بفاحشة مبينة } [ النساء : 19 ]
يريد لا يدخلن من يكرهه أزواجهن ولا يغضبنهم . وليس المراد بذلك الزنى ; فإن ذلك
محرم ويلزم عليه الحد . وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( اضربوا النساء إذا عصينكم
في معروف ضربا غير مبرح ) . قال عطاء : قلت لابن عباس ما الضرب غير المبرح ؟ قال
بالسواك ونحوه . وروي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأته فعذل في ذلك فقال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يسأل الرجل فيم ضرب أهله ) . وإذا ثبت هذا
فاعلم . أن الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضرب صراحا7 إلا هنا وفي الحدود
العظام ; فساوى معصيتهن بأزواجهن بمعصية الكبائر , وولى الأزواج ذلك دون الأئمة ,
وجعله لهم دون القضاة بغير شهود ولا بينات ائتمانا من الله تعالى للأزواج على
النساء . قال المهلب : إنما جوز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن في المباضعة
. واختلف في وجوب ضربها في الخدمة , والقياس يوجب أنه إذا جاز ضربها في المباضعة جاز
ضربها في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف . وقال ابن خويز منداد . والنشوز يسقط
النفقة وجميع الحقوق الزوجية , ويجوز معه أن يضربها الزوج ضرب الأدب غير المبرح ,
والوعظ والهجر حتى ترجع عن نشوزها , فإذا رجعت عادت حقوقها ; وكذلك كل ما اقتضى
الأدب فجائز للزوج تأديبها . ويختلف الحال في أدب الرفيعة والدنيئة ; فأدب الرفيعة
العذل , وأدب الدنيئة السوط . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله امرأ
علق سوطه وأدب أهله ) . وقال : ( إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه ) . وقال بشار :
الحر يلحى والعصا للعبد يلحى أي يلام ; وقال ابن دريد : واللوم للحر مقيم رادع
والعبد لا يردعه إلا العصا قال ابن المنذر : اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات
على أزواجهن إذا كانوا جميعا بالغين إلا الناشز منهن الممتنعة . وقال أبو عمر : من
نشزت عنه امرأته بعد دخوله سقطت عنه نفقتها إلا أن تكون حاملا . وخالف ابن القاسم
جماعة الفقهاء في نفقة الناشز فأوجبها . وإذا عادت الناشز إلى زوجها وجب في المستقبل
نفقتها . ولا تسقط نفقة المرأة عن زوجها لشيء غير النشوز ; لا من مرض ولا حيض ولا
نفاس ولا صوم ولا حج ولا مغيب زوجها ولا حبسه عنها في حق أو جور غير ما ذكرنا
. والله أعلم . فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي تركوا النشوز . فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ
سَبِيلًا أي لا تجنوا عليهن بقول أو فعل . وهذا نهي عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن
والتمكين من أدبهن . وقيل : المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه ليس إليهن . إِنَّ
اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب ; أي
إن كنتم تقدرون عليهن فتذكروا قدرة الله ; فيده بالقدرة فوق كل يد . فلا يستعلي أحد
على امرأته فالله بالمرصاد فلذلك حسن الاتصاف , هنا بالعلو والكبر .
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا
مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ
اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا فيه خمس مسائل : الأولى : { وإن خفتم شقاق بينهما
{ قد تقدم معنى الشقاق في { البقرة } . فكأن كل واحد من الزوجين يأخذ شقا غير شق
صاحبه , أي ناحية غير ناحية صاحبه . والمراد إن خفتم شقاقا بينهما ; فأضيف المصدر
إلى الظرف كقولك : يعجبني سير الليلة المقمرة , وصوم يوم عرفة . وفي التنزيل : { بل
مكر الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] . وقيل : إن { بين { أجري مجرى الأسماء وأزيل عنه
الظرفية ; إذ هو بمعنى حالهما وعشرتهما , أي وإن خفتم تباعد عشرتهما وصحبتهما }
فابعثوا } . و { ختم { على الخلاف المتقدم . قال سعيد بن جبير : الحكم أن يعظها أولا
, فإن قبلت وإلا هجرها , فإن هي قبلت وإلا ضربها , فإن هي قبلت وإلا بعث الحاكم
حكما من أهله وحكما من أهلها , فينظران ممن الضرر , وعند ذلك يكون الخلع . وقد قيل :
له أن يضرب قبل الوعظ . والأول أصح لترتيب ذلك في الآية . الثانية : والجمهور من
العلماء على أن المخاطب بقوله : { وإن خفتم { الحكام والأمراء . وأن قول : { إن
يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما { يعني الحكمين ; في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما
. أي إن يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين . وقيل : المراد الزوجان ; أي إن
يرد الزوجان إصلاحا وصدقا فيما أخبرا به الحكمين { يوفق الله بينهما } . وقيل :
الخطاب للأولياء . يقول : { إن خفتم { أي علمتم خلافا بين الزوجين { فابعثوا حكما من
أهله وحكما من أهلها { والحكمان لا يكونان إلا من أهل الرجل والمرأة ; إذ هما أقعد
بأحوال الزوجين , ويكونان من أهل العدالة وحسن النظر والبصر بالفقه . فإن لم يوجد من
أهلهما من يصلح لذلك فيرسل من غيرهما عدلين عالمين ; وذلك إذا أشكل أمرهما ولم يدر
ممن الإساءة منهما . فأما إن عرف الظالم فإنه يؤخذ منه الحق لصاحبه ويجبر على إزالة
الضرر . ويقال : إن الحكم من أهل الزوج يخلو به ويقول له : أخبرني بما في نفسك
أتهواها أم لا حتى أعلم مرادك ؟ فإن قال : لا حاجة لي فيها خذ لي منها ما استطعت
وفرق بيني وبينها , فيعرف أن من قبله النشوز . وإن قال : إني أهواها فأرضها من مالي
بما شئت ولا تفرق بيني وبينها , فيعلم أنه ليس بناشز . ويخلو الحكم من جهتها بالمرأة
ويقول لها : أتهوين زوجك أم لا ; فإن قالت : فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد
; فيعلم أن النشوز من قبلها . وإن قالت : لا تفرق بيننا ولكن حثه على أن يزيد في
نفقتي ويحسن إلي , علم أن النشوز ليس من قبلها . فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من
قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهي ; فذلك قوله تعالى : { فابعثوا حكما من أهله
وحكما من أهلها } . الثالثة : قال العلماء : قسمت هذه الآية النساء تقسيما عقليا ;
لأنهن إما طائعة وإما ناشز ; والنشوز إما أن يرجع إلى الطواعية أو لا . فإن كان
الأول تركا ; لما رواه النسائي أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة
فكان إذا دخل عليها تقول : يا بني هاشم , والله لا يحبكم قلبي أبدا ! أين الذين
أعناقهم كأباريق الفضة ! ترد أنوفهم قبل شفاههم , أين عتبة بن ربيعة , أين شيبة بن
ربيعة ; فيسكت عنها , حتى دخل عليها يوما وهو برم فقالت له : أين عتبة بن ربيعة ؟
فقال : على يسارك في النار إذا دخلت ; فنشرت عليها ثيابها , فجاءت عثمان فذكرت له
ذلك ; فأرسل ابن عباس ومعاوية , فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما ; وقال معاوية : ما
كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف . فأتياهما فوجداهما قد سدا عليهما أبوابهما
وأصلحا أمرهما . فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلحا وتفاقم أمرهما سعيا في الألفة
جهدهما , وذكرا بالله وبالصحبة . فإن أنابا ورجعا تركاهما , وإن كانا غير ذلك ورأيا
الفرقة فرقا بينهما . وتفريقهما جائز على الزوجين ; وسواء وافق حكم قاضي البلد أو
خالفه , وكلهما الزوجان بذلك أو لم يوكلاهما . والفراق في ذلك طلاق بائن . وقال قوم :
ليس لهما الطلاق ما لم يوكلهما الزوج في ذلك , وليعرفا الإمام ; وهذا بناء على
أنهما رسولان شاهدان . ثم الإمام يفرق إن أراد ويأمر الحكم بالتفريق . وهذا أحد قولي
الشافعي ; وبه قال الكوفيون , وهو قول عطاء وابن زيد والحسن , وبه قال أبو ثور
. والصحيح الأول , لأن للحكمين التطليق دون توكيل ; وهو قول مالك والأوزاعي وإسحاق
وروي عن عثمان وعلي وابن عباس , وعن الشعبي والنخعي , وهو قول الشافعي ; لأن الله
تعالى قال : { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها { وهذا نص من الله سبحانه
بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان . وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى , وللحكم اسم في
الشريعة ومعنى ; فإذا بين الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذ - فكيف لعالم - أن
يركب معنى أحدهما على الآخر ! . وقد روى الدارقطني من حديث محمد بن سيرين عن عبيدة
في هذه الآية { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها { قال :
جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم فبعثوا حكما من أهله
وحكما من أهلها , وقال للحكمين : هل تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا
فرقتما . فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي . وقال الزوج : أما الفرقة
فلا . فقال علي : كذبت , والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به . وهذا إسناد صحيح
ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة ; قاله أبو عمر . فلو كانا
وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما : أتدريان ما عليكما ؟ إنما كان يقول : أتدريان بما
وكلتما ؟ وهذا بين . احتج أبو حنيفة بقول علي رضي الله عنه للزوج : لا تبرح حتى ترضى
بما رضيت به . فدل على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج , وبأن الأصل
المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه . وجعله مالك ومن تابعه من
باب طلاق السلطان على المولى والعنين . الرابعة : فإن اختلف الحكمان لم ينفذ قولهما
ولم يلزم من ذلك شيء إلا ما اجتمعا عليه . وكذلك كل حكمين حكما في أمر ; فإن حكم
أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر , أو حكم أحدهما بمال وأبى الآخر فليسا بشيء حتى
يتفقا . وقال مالك في الحكمين يطلقان ثلاثا قال : تلزم واحدة وليس لهما الفراق بأكثر
من واحدة بائنة ; وهو قول ابن القاسم . وقال ابن القاسم أيضا : تلزمه الثلاث إن
اجتمعا عليها ; وقاله المغيرة وأشهب وابن الماجشون وأصبغ . وقال ابن المواز : إن حكم
أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة . وحكى ابن حبيب عن أصبغ أن ذلك ليس بشيء .
الخامسة : ويجزئ إرسال الواحد ; لأن الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود , ثم قد
أرسل . النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أنيسا وحده وقال له : ( إن
اعترفت فارجمها ) وكذلك قال عبد الملك في المدونة . قلت : وإذا جاز إرسال الواحد
فلو حكم الزوجان واحدا لأجزأ , وهو بالجواز أولى إذا رضيا بذلك , وإنما خاطب الله
بالإرسال الحكام دون الزوجين . فإن أرسل الزوجان حكمين وحكما نفذ حكمهما ; لأن
التحكيم عندنا جائز , وينفذ فعل الحكم في كل مسألة . هذا إذا كان كل واحد منهما عدلا
, ولو كان غير عدل قال عبد الملك : حكمه منقوض ; لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من
الغرر . قال ابن العربي : والصحيح نفوذه ; لأنه إن كان توكيلا ففعل الوكيل نافذ ,
وإن كان تحكيما فقد قدماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثر فيه كما لم يؤثر في باب
التوكيل , وباب القضاء مبني على الغرر كله , وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما
يئول إليه الحكم . قال ابن العربي : مسألة الحكمين نص الله عليها وحكم بها عند ظهور
الشقاق بين الزوجين , واختلاف ما بينهما . وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأمة على أصلها
في البعث , وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه . وعجبا لأهل بلدنا حيث غفلوا عن
موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا : يجعلان على يدي أمين ; وفي هذا من معاندة النص
ما لا يخفى عليكم , فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقيسة اجتزءوا . وقد ندبت إلى ذلك
فما أجابني إلى بعث الحكمين عند الشقاق إلا قاض واحد , ولا بالقضاء باليمين مع
الشاهد إلا آخر , فلما ملكني الله الأمر أجريت السنة كما ينبغي . ولا تعجب لأهل
بلدنا لما غمرهم من الجهالة , ولكن اعجب لأبي حنيفة ليس للحكمين عنده خبر , بل اعجب
مرتين للشافعي فإنه قال : الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين معا حتى يشتبه
فيه حالاهما . قال : وذلك أني وجدت الله عز وجل أذن في نشوز الزوج بأن يصطلحا وأذن
في خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة . وحظر أن يأخذ
الزوج مما أعطى شيئا إذا أراد استبدال زوج مكان زوج ; فلما أمر فيمن خفنا الشقاق
بينهما بالحكمين دل على أن حكمهما غير حكم الأزواج , فإذا كان كذلك بعث حكما من
أهله وحكما من أهلها , ولا يبعث الحكمين إلا مأمونين برضا الزوجين وتوكيلهما بأن
يجمعا أو يفرقا إذا رأيا ذلك . وذلك يدل على أن الحكمين وكيلان للزوجين . قال ابن
العربي : هذا منتهى كلام الشافعي , وأصحابه يفرحون به وليس فيه ما يلتفت إليه ولا
يشبه نصابه في العلم , وقد تولى الرد عليه القاضي أبو إسحاق ولم ينصفه في الأكثر
. أما قوله : { الذي يشبه ظاهر الآية أنه فيما عم الزوجين { فليس بصحيح بل هو نصه ,
وهي من أبين آيات القرآن وأوضحها جلاء ; فإن الله تعالى قال : { الرجال قوامون على
النساء } [ النساء : 34 ] - ومن خاف من امرأته نشوزا وعظها , فإن أنابت وإلا هجرها
في المضجع , فإن ارعوت وإلا ضربها , فإن استمرت في غلوائها مشى الحكمان إليهما
. وهذا إن لم يكن نصا فليس في القرآن بيان . ودعه لا يكون نصا , يكون ظاهرا ; فأما أن
يقول الشافعي : يشبه الظاهر فلا ندري ما الذي أشبه الظاهر ؟ . ثم قال : { وأذن في
خوفهما ألا يقيما حدود الله بالخلع وذلك يشبه أن يكون برضا المرأة , بل يجب أن يكون
كذلك وهو نصه } . ثم قال : { فلما أمر بالحكمين علمنا أن حكمهما غير حكم الأزواج ,
ويجب أن يكون غيره بأن ينفذ عليهما من غير اختيارهما فتتحقق الغيرية . فأما إذا
أنفذا عليهما ما وكلاهما به فلم يحكما بخلاف أمرهما فلم تتحقق الغيرية } . وأما قوله
{ برضى الزوجين وتوكيلهما { فخطأ صراح ; فإن الله سبحانه خاطب غير الزوجين إذا خاف
الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين , وإذا كان المخاطب غيرهما كيف يكون ذلك
بتوكيلهما , ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه . هذا وجه الإنصاف والتحقيق في
الرد عليه . وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم , وليس كما تقول الخوارج إنه ليس
التحكيم لأحد سوى الله تعالى . وهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل .
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا
آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : { الذين
يبخلون }{ الذين { في موضع نصب على البدل من { من { في قوله : { من كان { ولا يكون
صفة ; لأن { من { و } ما { لا يوصفان ولا يوصف بهما . ويجوز أن يكون في موضع رفع
بدلا من المضمر الذي في فخور . ويجوز أن يكون في موضع رفع فيعطف عليه . ويجوز أن يكون
ابتداء والخبر محذوف , أي الذين يبخلون , لهم كذا , أو يكون الخبر { إن الله لا
يظلم مثقال ذرة } [ النساء : 40 ] . ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني , فتكون الآية
في المؤمنين ; فتجيء الآية على هذا التأويل أن الباخلين منفية عنهم محبة الله ,
فأحسنوا أيها المؤمنون إلى من سمي فإن الله لا يحب من فيه الخلال المانعة من
الإحسان . الثانية : قوله تعالى : { يبخلون ويأمرون الناس بالبخل { البخل المذموم
في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه . وهو مثل قوله تعالى : { ولا
يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله } [ آل عمران : 180 ] الآية . وقد مضى في
{ آل عمران { القول في البخل وحقيقته , والفرق بينه وبين الشح مستوفى . والمراد بهذه
الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود ; فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل
بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل :
المراد المنافقون الذي كان إنفاقهم وإيمانهم تقية , والمعنى إن الله لا يحب كل
مختال فخور , ولا الذين يبخلون ; على ما ذكرنا من إعرابه . وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا فصل تعالى توعد المؤمنين الباخلين من توعد
الكافرين بأن جعل الأول عدم المحبة والثاني عذابا مهينا .
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس { الآية
. عطف تعالى على { الذين يبخلون } : { الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } . وقيل : هو
عطف على الكافرين , فيكون في موضع خفض . ومن رأى زيادة الواو أجاز أن يكون الثاني
عنده خبرا للأول . قال الجمهور نزلت في المنافقين : لقوله تعالى : { رئاء الناس }
والرئاء من النفاق . مجاهد : في اليهود . وضعفه الطبري ; لأنه تعالى نفى عن هذه
الصنفة الإيمان بالله واليوم الآخر , واليهود ليس كذلك . قال ابن عطية : وقول مجاهد
متجه على المبالغة والإلزام ; إذ إيمانهم باليوم الآخر كالإيمان من حيث لا ينفعهم
. وقيل : نزلت في مطعمي يوم بدر , وهم رؤساء مكة , أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر
. قال ابن العربي : ونفقة الرئاء تدخل في الأحكام من حيث إنها لا تجزئ . قلت : ويدل
على ذلك من الكتاب قول تعالى : { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم } [ التوبة
: 53 ] وسيأتي . وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا في
الكلام إضمار تقديره { ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر { فقرينهم الشيطان { ومن
يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } . والقرين : المقارن , أي الصاحب والخليل وهو
فعيل من الإقران ; قال عدي بن زيد : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين
بالمقارن يقتدي والمعنى : من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه . ويجوز أن يكون
المعنى من قرن به الشيطان في النار { فساء قرينا { أي فبئس الشيطان قرينا , وهو نصب
على التمييز .
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا
مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ { ما { في موضع رفع بالابتداء و { ذا { خبره , وذا بمعنى
الذي . ويجوز أن يكون ما وذا اسما واحدا . فعلى الأول تقديره وما الذي عليهم , وعلى
الثاني تقديره وأي شيء عليهم { لو آمنوا بالله واليوم الآخر } , أي صدقوا بواجب
الوجود , وبما جاء به الرسول من تفاصيل الآخرة , { وأنفقوا مما رزقهم الله } .
وَكَانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيمًا أي بالأشياء قبل خلقها .
إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أي لا يبخسهم ولا ينقصهم من ثواب
عملهم وزن ذرة بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها . والمراد من الكلام أن الله تعالى لا
يظلم قليلا ولا كثيرا ; كما قال تعالى : { إن الله لا يظلم الناس شيئا } [ يونس :
44 ] . والذرة : النملة الحمراء ; عن ابن عباس وغيره , وهي أصغر النمل . وعنه أيضا
رأس النملة . وقال يزيد بن هارون : زعموا أن الذرة ليس لها وزن . ويحكى أن رجلا وضع
خبزا حتى علاه الذر مقدار ما يستره ثم وزنه فلم يزد على وزن الخبز شيئا . قلت :
والقرآن والسنة يدلان على أن للذرة وزنا ; كما أن للدينار ونصفه وزنا . والله أعلم
. وقيل : الذرة الخردلة ; كما قال تعالى : { فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من
خردل أتينا بها } [ الأنبياء : 47 ] . وقيل غير هذا , وهي في الجملة عبارة عن أقل
الأشياء وأصغرها . وفي صحيح مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر
فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة
يجزى بها ) . وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا
عَظِيمًا أي يكثر ثوابها . وقرأ أهل الحجاز { حسنة { بالرفع , والعامة بالنصب ; فعلى
الأول { تك { بمعنى تحدث , فهي تامة . وعلى الثاني هي الناقصة , أي إن تك فعلته حسنة
. وقرأ الحسن { نضاعفها { بنون العظمة . والباقون بالياء , وهي أصح ; لقوله { ويؤت }
. وقرأ أبو رجاء { يضعفها } , والباقون { يضاعفها { وهما لغتان معناهما التكثير
. وقال أبو عبيدة : { يضاعفها { معناه يجعله أضعافا كثيرة , { ويضعفها { بالتشديد
يجعلها ضعفين .{ من لدنه { من عنده . وفيه أربع لغات : لدن ولدن ولد ولدى ; فإذا
أضافوه إلى أنفسهم شددوا النون , ودخلت عليه { من { حيث كانت { من { الداخلة
لابتداء الغاية و { لدن { كذلك , فلما تشاكلا حسن دخول { من { عليها ; ولذلك قال
سيبويه في لدن : إنه الموضع الذي هو أول الغاية .{ أجرا عظيما { يعني الجنة . وفي
صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري الطويل - حديث الشفاعة - وفيه : ( حتى إذا خلص
المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء
الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا
يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار
فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي
فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير
فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول
ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم
يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال
ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا ) . وكان
أبو سعيد الخدري يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم { إن الله لا
يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما { وذكر الحديث . وروي
عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يؤتى بالعبد يوم القيامة
فيوقف وينادي مناد على رءوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى
حقه ثم يقول آت هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عني فيقول الله
تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة
قالت الملائكة يا رب - وهو أعلم بذلك منهم - قد أعطى لكل ذي حق حقه وبقي مثقال ذرة
من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداقه
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } - وإن كان عبدا شقيا قالت
الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى خذوا من
سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار ) . فالآية على هذا التأويل
في الخصوم , وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم يأخذ له منه , ولا يظلم
مثقال ذرة تبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له ; فذلك قوله تعالى : { وإن تك حسنة
يضاعفها } . وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن
الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ) وتلا { إن الله لا
يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } . قال عبيدة : قال
أبو هريرة : وإذا قال الله { أجرا عظيما { فمن الذي يقدر قدره ! وقد تقدم عن ابن
عباس وابن مسعود : أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي في خمس مسائل
الأولى : الآية في سبب نزولها ثلاثة أقوال : قيل نزلت في بني قريظة والنضير ; قتل
قرظي نضيريا وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يقيدوهم , وإنما يعطونهم
الدية على ما يأتي بيانه , فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم بالتسوية
بين القرظي والنضيري , فساءهم ذلك ولم يقبلوا . وقيل ; إنها نزلت في شأن أبي لبابة
حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فخانه حين أشار إليهم أنه الذبح
, وقيل : إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم ; وهذا أصح الأقوال ; رواه الأئمة
مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود . قال أبو داود عن جابر بن عبد الله أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ( ائتوني بأعلم رجلين منكم ) فجاءوا بابني صوريا
فنشدهما الله تعالى ( كيف تجدان أمر هذين في التوراة ) ؟ قالا : نجد في التوراة إذا
شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رجما . قال : ( فما يمنعكم أن
ترجموهما ) , قالا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم
بالشهود , فجاءوا فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة , فأمر
النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما , وفي غير الصحيحين عن الشعبي عن جابر بن عبد
الله قال : زنى رجل من أهل فدك , فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا
محمدا عن ذلك , فإن أمركم بالجلد فخذوه , وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه ; فسألوه
فدعا بابن صوريا وكان عالمهم وكان أعور ; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
أنشدك الله كيف تجدون حد الزاني في كتابكم ) , فقال ابن صوريا : فأما إذ ناشدتني
الله فإنا نجد في التوراة أن النظر زنية , والاعتناق زنية , والقبلة زنية , فإن شهد
أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم . فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : ( هو ذاك ) , وفي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال : مر على
النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمما مجلودا , فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد
الزاني في كتابكم ) قالوا : نعم . فدعا رجلا من علمائهم فقال : ( أنشدك بالله الذي
أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ) قال : لا - ولولا أنك
نشدتني بهذا لم أخبرك - نجده الرجم , ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف
تركناه , وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد , قلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه
على الشريف والوضيع , فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم ; فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) فأمر به فرجم ; فأنزل الله
تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر { إلى قوله : { إن
أوتيتم هذا فخذوه { يقول : ائتوا محمدا , فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن
أفتاكم بالرجم فاحذروا , فأنزل الله عز وجل : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الكافرون } [ المائدة 44 ] , { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون }
[ المائدة : 45 ] , { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } [ المائدة :
47 ] في الكفار كلها . هكذا في هذه الرواية ( مر على النبي صلى الله عليه وسلم ) ,
وفي حديث ابن عمر : أتي بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى جاء يهود , قال : ( ما تجدون في التوراة على من زنى ) الحديث , وفي رواية
; أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة قد زنيا , وفي
كتاب أبي داود من حديث ابن عمر قال : أتى نفر من اليهود , فدعوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا : يا أبا القاسم , إن رجلا منا
زنى بامرأة فاحكم بيننا , ولا تعارض في شيء من هذا كله , وهي كلها قصة واحدة , وقد
ساقها أبو داود من حديث أبي هريرة سياقة حسنة فقال : زنى رجل من اليهود وامرأة ,
فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي , فإنه نبي بعث بالتخفيفات , فإن أفتى
بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله , وقلنا فتيا نبي من أنبيائك ; قال
: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ; فقالوا : يا أبا
القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى
أتى بيت مدراسهم , فقام على الباب , فقال : ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على
موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ) , فقالوا : يحمم وجهه ويجبه ويجلد
, والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما ; قال : وسكت شاب
منهم , فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة ; فقال : اللهم إذ
نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم . وساق الحديث إلى أن قال : قال النبي صلى الله
عليه وسلم : ( فإني أحكم بما في التوراة ) فأمر به فرجما . الثانية : والحاصل من هذه
الروايات أن اليهود حكمت النبي صلى الله عليه وسلم , فحكم عليهم بمقتضى ما في
التوراة . واستند في ذلك إلى قول ابني صوريا , وأنه سمع شهادة اليهود وعمل بها , وأن
الإسلام ليس شرطا في الإحصان . فهذه مسائل أربع . فإذا ترافع أهل الذمة إلى الإمام ;
فإن كان ما رفعوه ظلما كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم , ومنعهم منه بلا خلاف ,
وأما إذا لم يكن كذلك فالإمام مخير في الحكم بينهم وتركه عند مالك والشافعي , غير
أن مالكا رأى الإعراض عنهم أولى , فإن حكم حكم بينهم بحكم الإسلام . وقال الشافعي :
لا يحكم بينهم في الحدود , وقال أبو حنيفة : يحكم بينهم على كل حال , وهو قول
الزهري وعمر بن عبد العزيز والحكم , وروي عن ابن عباس وهو أحد قولي الشافعي ; لقوله
تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] على ما يأتي بيانه بعد
, احتج مالك بقوله تعالى : { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42
] وهي نص في التخيير . قال ابن القاسم : إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخير ;
لأن إنفاذ الحكم حق للأساقفة والمخالف يقول : لا يلتفت إلى الأساقفة . قال ابن
العربي : وهو الأصح ; لأن مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ , ولم يعتبر رضا الحاكم
. فالكتابيون بذلك أولى , وقال عيسى عن ابن القاسم : لم يكونوا أهل ذمة إنما كانوا
أهل حرب . قال ابن العربي : وهذا الذي قاله عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري
وغيره : أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك , وكانوا حربا لرسول الله صلى الله
عليه وسلم , واسم المرأة الزانية بسرة , وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم
اسألوا محمدا عن هذا , فإن أفتاكم بغير الرجم فخذوه منه واقبلوه , وإن أفتاكم به
فاحذروه ; الحديث . قال ابن العربي : وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين
وسؤالهم عهدا وأمانا ; وإن لم يكن عهد وذمة ودار لما كان 127 له حكم الكف عنهم
والعدل فيهم ; فلا حجة لرواية عيسى في هذا ; وعنهم أخبر الله تعالى بقوله : "
سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك { ولما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم
نفذ الحكم عليهم ولم يكن لهم الرجوع ; فكل من حكم رجلا في الدين وهي : الثالثة :
فأصله هذه الآية . قال مالك : إذا حكم رجلا فحكمه ماض وإن رفع إلى قاض أمضاه , إلا
أن يكون جورا بينا , وقال سحنون : يمضيه إن رآه صوابا . قال ابن العربي : وذلك في
الأموال والحقوق التي تختص بالطالب , فأما الحدود فلا يحكم فيها إلا السلطان ;
والضابط أن كل حق اختص به الخصمان جاز التحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكم فيه , وتحقيقه
أن التحكيم بين الناس إنما هو حقهم لا حق الحاكم بيد أن الاسترسال على التحكيم خرم
لقاعدة الولاية , ومؤد إلى تهارج الناس كتهارج الحمر , فلا بد من فاصل ; فأمر الشرع
بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج ; وأذن في التحكيم تخفيفا عنه وعنهم في مشقة الترافع
لتتم المصلحتان وتحصل الفائدة , وقال الشافعي وغيره : التحكيم جائز وإنما هو فتوى
. وقال بعض العلماء : إنما كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود بالرجم
إقامة لحكم كتابهم , لما حرفوه وأخفوه وتركوا العمل به ; ألا ترى أنه قال : ( اللهم
إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) وأن ذلك كان حين قدم المدينة , ولذلك استثبت ابني
صوريا عن حكم التوراة واستحلفهما على ذلك , وأقوال الكفار في الحدود وفي شهادتهم
عليها غير مقبولة بالإجماع , لكن فعل ذلك على طريق إلزامهم ما التزموه وعملوا به ,
وقد يحتمل أن يكون حصول طريق العلم بذلك الوحي , أو ما ألقى الله في روعه من تصديق
ابني صوريا فيما قالاه من ذلك لا قولهما مجردا ; فبين له النبي صلى الله عليه وسلم
, وأخبر بمشروعية الرجم , ومبدؤه ذلك الوقت , فيكون أفاد بما فعله إقامة حكم
التوراة , وبين أن ذلك حكم شريعته , وأن التوراة حكم الله سبحانه ; لقوله تعالى : "
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } [ المائدة : 44
] وهو من الأنبياء , وقد قال عنه أبو هريرة : ( فإني أحكم بما في التوراة ) والله
أعلم . الرابعة : والجمهور على رد شهادة الذمي ; لأنه ليس من أهلها فلا تقبل على
مسلم ولا على كافر , وقد قبل شهادتهم جماعة من التابعين وغيرهم إذ لم يوجد مسلم على
ما يأتي بيانه آخر السورة فإن قيل : فقد حكم بشهادتهم ورجم الزانيين : فالجواب ;
أنه إنما نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة وألزمهم العمل به , على نحو ما عملت به
بنو إسرائيل إلزاما للحجة عليهم , وإظهارا لتحريفهم وتغييرهم , فكان منفذا لا حاكما
, وهذا على التأويل الأول , وعلى ما ذكر من الاحتمال فيكون ذلك خاصا بتلك الواقعة ,
إذ لم يسمع في الصدر الأول من قبل شهادتهم في مثل ذلك , والله أعلم . الخامسة :
قوله تعالى : { لا يحزنك { قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي , والباقون بفتح الياء
وضم الزاي , والحزن والحزن خلاف السرور , وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين , وأحزنه
غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه , ومحزون بني عليه . قال اليزيدي : حزنه لغة قريش ,
وأحزنه لغة تميم , وقد قرئ بهما , واحتزن وتحزن بمعنى , والمعنى في الآية تأنيس
للنبي صلى الله عليه وسلم : أي لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر , فإن الله قد وعدك
النصر عليهم . الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا وهم المنافقون
بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ أي لم يضمروا في قلوبهم الإيمان كما نطقت به
ألسنتهم قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ يعني يهود المدينة ويكون هذا تمام الكلام ,
ثم ابتدأ فقال { سماعون للكذب { هَادُوا سَمَّاعُونَ أي هم سماعون , ومثله { طوافون
عليكم } [ النور : 58 ] , وقيل الابتداء من قوله : { ومن الذين هادوا { ومن الذين
هادوا قوم سماعون للكذب , أي قابلون لكذب رؤسائهم من تحريف التوراة , وقيل : أي
يسمعون كلامك يا محمد ليكذبوا عليك , فكان فيهم من يحضر النبي صلى الله عليه وسلم
ثم يكذب عليه عند عامتهم , ويقبح صورته في أعينهم ; وهو معنى قوله لِلْكَذِبِ
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ وكان في المنافقين من يفعل هذا . قال الفراء
ويجوز سماعين وطوافين , كما قال : { ملعونين أينما ثقفوا { وكما قال : { إن المتقين
في جنات ونعيم } .[ الطور : 17 ] ثم قال : { فاكهين }{ آخذين } , وقال سفيان بن
عيينة : إن الله سبحانه ذكر الجاسوس في القرآن بقوله : { سماعون لقوم آخرين لم
يأتوك { ولم يعرض النبي صلى الله عليه وسلم لهم مع علمه بهم ; لأنه لم يكن حينئذ
تقررت الأحكام ولا تمكن الإسلام , وسيأتي حكم الجاسوس في { الممتحنة { إن شاء الله
تعالى . يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ أي يتأولونه على غير تأويله
بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل ; وبين أحكامه ; فقالوا :
شرعه ترك الرجم ; وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرا لحكم الله عز وجل . و }
يحرفون { في موضع الصفة لقوله { سماعون { وليس بحال من الضمير الذي في { يأتوك }
لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا , والتحريف إنما هو ممن يشهد ويسمع فيحرف , والمحرفون
من اليهود بعضهم لا كلهم , ولذلك كان حمل المعنى على { من الذين هادوا { فريق
سماعون أشبه مَوَاضِعِهِ في موضع الحال من المضمر في { يحرفون { يَقُولُونَ إِنْ
أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أي إن أتاكم محمد صلى الله عليه
وسلم بالجلد فاقبلوا وإلا فلا . فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ أي ضلالته في
الدنيا وعقوبته في الآخرة فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ أي فلن
تنفعه شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ بيان منه عز
وجل أنه قضى عليهم بالكفر , ودلت الآية على أن الضلال بمشيئة الله تعالى ردا على من
قال خلاف ذلك على ما تقدم ; أي لم يرد الله أن يطهر قلوبهم من الطبع عليها والختم
كما طهر قلوب المؤمنين ثوابا لهم قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ قيل : هو فضيحتهم حين أنكروا الرجم , ثم أحضرت
التوراة فوجد فيها الرجم وقيل : خزيهم في الدنيا أخذ الجزية والذل , والله أعلم .
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ
الْأَرْضُ ضمت الواو في { عصوا } . لالتقاء الساكنين , ويجوز كسرها . وقرأ نافع وابن
عامر { تسوى { بفتح التاء والتشديد في السين . وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما خففا
السين . والباقون ضموا التاء وخففوا السين , مبنيا للمفعول والفاعل غير مسمى
. والمعنى لو يسوي الله بهم الأرض . أي يجعلهم والأرض سواء . ومعنى آخر : تمنوا لو لم
يبعثهم الله وكانت الأرض مستوية عليهم ; لأنهم من التراب نقلوا . وعلى القراءة
الأولى والثانية فالأرض فاعلة , والمعنى تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها ;
قاله قتادة . وقيل : الباء بمعنى على , أي لو تسوى عليهم أي تنشق فتسوى عليهم ; عن
الحسن . فقراءة التشديد على الإدغام , والتخفيف على حذف التاء . وقيل : إنما تمنوا
هذا حين رأوا البهائم تصير ترابا وعلموا أنهم مخلدون في النار ; وهذا معنى قوله
تعالى : { ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } [ النبأ : 40 ] . وقيل : إنما تمنوا
هذا حين شهدت هذه الأمة للأنبياء على ما تقدم في { البقرة { عند قوله تعالى : "
وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] الآية . فتقول الأمم الخالية : إن فيهم
الزناة والسراق فلا تقبل شهادتهم فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم , فيقول
المشركون : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] فيختم على أفواههم وتشهد
أرجلهم وأيديهم بما كانوا يكسبون ; فذلك قوله تعالى : { يومئذ يود الذين كفروا
وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض { يعني تخسف بهم . والله أعلم . وَلَا يَكْتُمُونَ
اللهَ حَدِيثًا قال الزجاج : قال بعضهم : { ولا يكتمون الله حديثا { مستأنف ; لأن
ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه . وقال بعضهم : هو معطوف , والمعنى يود
لو أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا ; لأنه ظهر كذبهم . وسئل ابن عباس
عن هذه الآية , وعن قوله تعالى : { والله ربنا ما كنا مشركين { فقال : لما رأوا أنه
لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا : { والله ربنا ما كنا مشركين { فختم الله على
أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم فلا يكتمون الله حديثا . وقال الحسن وقتادة : الآخرة
مواطن يكون هذا في بعضها وهذا في بعضها . ومعناه أنهم لما تبين لهم وحوسبوا لم
يكتموا . وسيأتي لهذا مزيد بيان في { الأنعام { إن شاء الله تعالى .
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم اللهقال الحسن : هو الرجم , وقال قتادة : هو
القود , ويقال : هل يدل قوله تعالى : فيها حكم الله { على أنه لم ينسخ ؟ الجواب :
وقال أبو علي : نعم ; لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله , كما لا
يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبتثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك
بالمؤمنينأي بحكمك أنه من عند الله , وقال أبو علي : إن من طلب غير حكم الله من حيث
لم يرض به فهو كافر ; وهذه حالة اليهود .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ
الضَّلَالَةَ قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب { إلى قوله
تعالى : { فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه { الآية . نزلت في يهود المدينة وما
والاها . قال ابن إسحاق : وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود , إذا كلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك ; ثم
طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب
{ إلى قوله { قليلا } . ومعنى { يشترون { يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال , وفي
الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى ; كما قال تعالى : { أولئك الذين اشتروا
الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] قاله القتبي وغيره . وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا
السَّبِيلَ عطف عليه , والمعنى تضلوا طريق الحق . وقرأ الحسن : { تضلوا { بفتح الضاد
أي عن السبيل .
وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ يريد منكم ; فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم
. ويجوز أن يكون { أعلم { بمعنى عليم ; كقوله تعالى : { وهو أهون عليه } [ الروم :
27 ] أي هين . وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا الباء زائدة
; زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم . و { وليا { و } نصيرا { نصب
على البيان , وإن شئت على الحال .
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي جعلنا عيسى يقفو آثارهم
, أي آثار النبيين الذين أسلموا مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ يعني التوراة ; فإنه رأى التوراة حقا , ورأى وجوب العمل بها إلى أن
يأتي ناسخ .{ مصدقا { نصب على الحال من عيسى . وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ
هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ في موضع رفع
بالابتداء .{ ونور { عطف عليه .{ ومصدقا { فيه وجهان ; يجوز أن يكون لعيسى وتعطفه
على مصدقا الأول , ويجوز أن يكون حالا من الإنجيل , ويكون التقدير : وآتيناه
الإنجيل مستقرا فيه هدى ونور ومصدقا وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ عطف على }
مصدقا { أي هاديا وواعظا { للمتقين { وخصهم لأنهم المنتفعون بهما , ويجوز رفعهما
على العطف على قوله : { فيه هدى ونور } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا قال ابن إسحاق : كلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا الأعور وكعب
بن أسد فقال لهم : ( يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي
جئتكم به الحق ) قالوا : ما نعرف ذلك يا محمد . وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر ;
فأنزل الله عز وجل فيهم { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما
معكم من قبل أن نطمس وجوها { إلى آخر الآية . نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا نصب على
الحال . مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى الطمس
استئصال أثر الشيء ; ومنه قوله تعالى : { فإذا النجوم طمست } [ المرسلات : 8 ]
. ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان . ويقال في الكلام : طسم يطسم
ويطسم بمعنى طمس ; يقال : طمس الأثر وطسم أي امحى , كله لغات ; ومنه قوله تعالى : "
ربنا اطمس على أموالهم } [ يونس : 88 ] أي أهلكها ; عن ابن عرفة . ويقال : طمسته
فطمس لازم ومتعد . وطمس الله بصره , وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين ; ومنه قوله
تعالى : { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } [ يس : 66 ] يقول أعميناهم . واختلف
العلماء في المعنى المراد بهذه الآية ; هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب
بالأنف والفم والحاجب والعين . أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ؟
قولان . روي عن أبي بن كعب أنه قال : { من قبل أن نطمس { من قبل أن نضلكم إضلالا لا
تهتدون بعده . يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة . وقال قتادة
: معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء . أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب ;
هذا معناه عند أهل اللغة . وروي عن ابن عباس وعطية العوفي : أن الطمس أن تزال
العينان خاصة وترد في القفا ; فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى . وقال مالك
رحمه الله : كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية :
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا { فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته
فأسلم مكانه وقال : والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي . وكذلك فعل عبد الله
بن سلام , لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي
أهله وأسلم وقال : يا رسول الله , ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي
. فإن قيل : كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك
بهم ; فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين . وقال المبرد :
الوعيد باق منتظر . وقال : لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة .
أَدْبَارِهَا أَوْ أي أصحاب الوجوه نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ أي
نمسخهم قردة وخنازير ; عن الحسن وقتادة . وقيل : هو خروج من الخطاب إلى الغيبة
السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ أي كائنا موجودا . ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر
وقع موقع المفعول ; فالمعنى أنه متى أراده أوجده . وقيل : معناه أن كل أمر أخبر
بكونه فهو كائن على ما أخبر به .
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا : { إن الله يغفر الذنوب جميعا } [ الزمر : 53
] فقال له رجل : يا رسول الله والشرك ! فنزل { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء } . وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة ."
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء { من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه . فقال محمد بن
جرير الطبري : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء
عفا عنه ذنبه , وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى . وقال بعضهم
: قد بين الله تعالى ذلك بقوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم
سيئاتكم } [ النساء : 31 ] فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا
يغفرها لمن أتى الكبائر . وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر
{ الفرقان } . قال زيد بن ثابت : نزلت سورة { النساء { بعد { الفرقان { بستة أشهر ,
والصحيح أن لا نسخ ; لأن النسخ في الأخبار يستحيل . وسيأتي بيان الجمع بين الآي في
هذه السورة وفي { الفرقان { إن شاء الله تعالى . وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال
: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء { قال : هذا حديث حسن غريب .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ
يَشَاءُ فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم }
هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود . واختلفوا
في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ; فقال قتادة والحسن : ذلك قولهم : { نحن أبناء الله
وأحباؤه } , وقولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى { وقال الضحاك
والسدي : قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا
نهارا , ونحن كالأطفال في عدم الذنوب . وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة : تقديمهم
الصغار للصلاة ; لأنهم لا ذنوب عليهم . وهذا يبعد من مقصد الآية . وقال ابن عباس :
ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا . وقال عبد الله بن مسعود : ذلك
ثناء بعضهم على بعض . وهذا أحسن ما قيل ; فإنه الظاهر من معنى الآية , والتزكية :
التطهير والتبرية من الذنوب . الثانية : هذه الآية وقوله تعالى : { فلا تزكوا
أنفسكم } [ النجم : 32 ] يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه , والإعلام بأن الزاكي
المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه , وإنما
العبرة بتزكية الله له . وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي
برة ; فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا
الاسم , وسميت برة ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزكوا أنفسكم الله
أعلم بأهل البر منكم ) فقالوا : بم نسميها ؟ فقال : ( سموها زينب ) . فقد دل الكتاب
والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه , ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه
الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية ; كزكي الدين ومحيي
الدين وما أشبه ذلك , لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت
عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا . الثالثة : فأما تزكية الغير ومدحه له ; ففي البخاري
من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا ,
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان
أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا
يزكي على الله أحدا ) فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه
فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر , ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على
تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( ويحك قطعت
عنق صاحبك ) . وفي الحديث الآخر ( قطعتم ظهر الرجل ) حين وصفوه بما ليس فيه . وعلى
هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : ( احثوا التراب في وجوه المداحين ) إن
المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم , حتى يجعلوا ذلك بضاعة
يستأكلون به الممدوح ويفتنونه ; فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر
المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه
فليس بمداح , وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه . وهذا راجع إلى
النيات { والله يعلم المفسد من المصلح } . وقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر
والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب , ولا أمر بذلك . كقول أبي طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وكمدح العباس وحسان له في
شعرهما , ومدحه كعب بن زهير , ومدح هو أيضا أصحابه فقال : ( إنكم لتقلون عند الطمع
وتكثرون عند الفزع ) . وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث : ( لا تطروني
كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا : عبد الله ورسوله ) فمعناه لا تصفوني بما
ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي , كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه ,
فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا . وهذا يقتضي أن من رفع امرأ فوق حده
وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم ; لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم . وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا الضمير في { يظلمون }
عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل . وغير هذين الصنفين علم أن
الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية . والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة ;
قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد . وقيل : القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة
. وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي : هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ
إذا فتلتهما ; فهو فعيل بمعنى مفعول . وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء
وتصغيره , وأن الله لا يظلمه شيئا . ومثل هذا في التحقير قوله تعالى : { ولا يظلمون
نقيرا } [ النساء : 124 ] وهو النكتة التي في ظهر النواة , ومنه تنبت النخلة ,
وسيأتي . قال الشاعر يذم بعض الملوك : تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ثم لا ترزأ العدو
فتيلا .
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ثم عجب النبي صلى الله عليه
وسلم من ذلك فقال : { انظر كيف يفترون على الله الكذب { في قولهم : نحن أبناء الله
وأحباؤه . وقيل : تزكيتهم لأنفسهم ; عن ابن جريج . وروي أنهم قالوا : ليس لنا ذنوب
إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد . والافتراء الاختلاق ; ومنه افترى فلان على فلان أي
رماه بما ليس فيه . وفريت الشيء قطعته . وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا نصب على
البيان . والمعنى تعظيم الذنب وذمه . العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قوله
تعالى : { اليهود والنصارى أولياء { مفعولان لتتخذوا ; وهذا يدل على قطع الموالاة
شرعا , وقد مضى في { آل عمران { بيان ذلك . ثم قيل : المراد به المنافقون ; المعنى
يا أيها الذين آمنوا بظاهرهم , وكانوا يوالون المشركين ويخبرونهم بأسرار المسلمين ,
وقيل : نزلت في أبي لبابة , عن عكرمة . قال السدي : نزلت في قصة يوم أحد حين خاف
المسلمون حتى هم قوم منهم أن يوالوا اليهود والنصارى , وقيل : نزلت في عبادة بن
الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول ; فتبرأ عبادة رضي الله عنه من موالاة اليهود ,
وتمسك بها ابن أبي وقال : إني أخاف أن تدور الدوائر . أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ مبتدأ وخبره ; وهو يدل على إثبات الشرع الموالاة فيما بينهم حتى يتوارث
اليهود والنصاري بعضهم من بعض . بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي يعضدهم على
المسلمين مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ قوله }
فإنه منهم { بين تعالى أن حكمه كحكمهم ; وهو يمنع إثبات الميراث للمسلم من المرتد ,
وكان الذي تولاهم ابن أبي ثم هذا الحكم باق إلى يوم القيامة في قطع الموالاة ; وقد
قال تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } [ هود : 113 ] وقال تعالى
في { آل عمران } : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } [ آل
عمران : 28 ] وقال تعالى : { لا تتخذوا بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] وقد
مضى القول فيه , وقيل : إن معنى { بعضهم أولياء بعض { أي في النصر { ومن يتولهم
منكم فإنه منهم { شرط وجوابه ; أي لأنه قد خالف الله تعالى ورسوله كما خالفوا ,
ووجبت معاداته كما وجبت معاداتهم , ووجبت له النار كما وجبت لهم ; فصار منهم أي من
أصحابهم .
بين أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم
; وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه . وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد
. ويقال للذئب : لعين . وللرجل الطريد : لعين ; وقال الشماخ : ذعرت به القطا ونفيت
عنه مقام الذئب كالرجل اللعين ووجه الكلام : مقام الذئب اللعين كالرجل ; فالمعنى
أبعدهم الله من رحمته . وقيل : من توفيقه وهدايته . وقيل : من كل خير ; .
{ أم لهم نصيب من الملك { أي ألهم ؟ والميم صلة .{ نصيب { حظ { من الملك { وهذا على
وجه الإنكار ; يعني ليس لهم من الملك شيء , ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه
شيئا لبخلهم وحسدهم . وقيل : المعنى بل ألهم نصيب ; فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب
عن الأول والاستئناف للثاني . وقيل : هي عاطفة على محذوف ; لأنهم أنفوا من اتباع
محمد صلى الله عليه وسلم . والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من
الملك ؟ .{ فإذا لا يؤتون الناس نقيرا { أي يمنعون الحقوق . خبر الله عز وجل عنهم
بما يعلمه منهم . والنقير : النكتة في ظهر النواة , عن ابن عباس وقتادة وغيرهما . وعن
ابن عباس أيضا : النقير : ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض . وقال أبو العالية :
سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال : هذا
النقير . والنقير : أصل خشبة ينقر وينبذ فيه ; وفيه جاء النهي ثم نسخ . وفلان كريم
النقير أي الأصل . و { إذا { هنا ملغاه غير عاملة لدخول فاء العطف عليها , ولو نصب
لجاز . قال سيبويه : { إذا { في عوامل الأفعال بمنزلة { أظن { في عوامل الأسماء , أي
تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها , فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها
مستقبلا نصبت ; كقولك : أنا أزورك فيقول مجيبا لك : إذا أكرمك . قال عبد الله بن
عنمة الضبي : ش اردد حمارك لا يرتع بروضتنا و إذن يرد وقيد العير مكروب ش نصب لأن
الذي قبل { إذن { تام فوقعت ابتداء كلام . فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك . زيد إذا
يزورك ألغيت ; فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجور فيها الإعمال والإلغاء ;
أما الأعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة , فيجوز في
غير القرآن فإذا لا يؤتوا . وفي التنزيل { وإذا لا يلبثون } [ الإسراء : 76 ] وفي
مصحف أبي { وإذا لا يلبثوا } . وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعد كلام
يعطف عليه , والناصب للفعل عند سيبويه { إذا { لمضارعتها { أن } , وعند الخليل أن
مضمرة بعد إذا . وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة . قال النحاس : وسمعت
علي بن سليمان يقول : سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول : أشتهي أن أكوي يد من
يكتب إذا بالألف ; إنها مثل لن وإن , ولا يدخل التنوين في الحروف .
أَمْ يَحْسُدُونَ يعني اليهود . النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
{ الناس { يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ; عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . حسدوه
على النبوة وأصحابه على الإيمان به . وقال قتادة : { الناس { العرب , حسدتهم اليهود
على النبوة . الضحاك : حسدت اليهود قريشا ; لأن النبوة فيهم . والحسد مذموم وصاحبه
مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ; رواه أنس عن النبي صلى الله عليه
وسلم . وقال الحسن : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد ; نفس دائم , وحزن لازم ,
وعبرة لا تنفد . وقال عبد الله بن مسعود : لا تعادوا نعم الله . قيل له : ومن يعادي
نعم الله ؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله , يقول الله تعالى
في بعض الكتب : الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي . ولمنصور الفقيه :
ألا قل لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في حكمه إذا أنت لم
ترض لي ما وهب ويقال : الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء , وأول ذنب عصي به في
الأرض ; فأما في السماء فحسد إبليس لآدم , وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل . ولأبي
العتاهية في الناس : فيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني وإن كان
لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن
أنا لم أبذل لهم شتموني وإن طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني سأمنع
قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني وقيل : إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم
عليه أمرك . ولرجل من قريش : حسدوا النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم وإذا ما
الله أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم ولقد أحسن من قال : اصبر على حسد الحسو د
فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله وقال بعض أهل التفسير في قول
الله تعالى : { ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا
من الأسفلين } [ فصلت : 29 ] . إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس
قابيل ; وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر , وقابيل كان أول من سن القتل , وإنما
كان أصل ذلك كله الحسد . وقال الشاعر : إن الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف
الأحوال حسد القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضرب من التعقال فَقَدْ آتَيْنَا آلَ
إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ثم أخبر
تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما . قال همام بن الحارث :
أيدوا بالملائكة . وقيل : يعني ملك سليمان ; عن ابن عباس . وعنه أيضا : المعنى أم
يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل
لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك . واختار الطبري أن يكون المراد ما
أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء . والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم :
لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك ; فأخبر الله تعالى بما
كان لداود وسليمان يوبخهم , فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة , فقال
لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألف امرأة ) ؟ ! قالوا : نعم ثلاثمائة مهرية ,
وسبعمائة سرية , وعند داود مائة امرأة . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألف
عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة ) ؟ فسكتوا . وكان له يومئذ تسع نسوة . يقال
: إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء . والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان
له قوة أربعين نبيا , وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا . ويقال : إنه أراد بالنكاح
كثرة العشيرة ; لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم ;
فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه . ويقال :
إن كل من كان أتقى فشهوته أشد ; لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس ,
ألا ترى ما روي في الخبر : ( العينان تزنيان واليدان تزنيان ) . فإذا كان في النظر
والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع , والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة
في نفسه فيكون أكثر جماعا . وقال أبو بكر الوراق : كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع
فإنه يصفي القلب ; ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك .
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره وهو
المحسود . وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا { ومنهم من
صد عنه { أعرض فلم يؤمن به . وقيل : الضمير في { به { راجع إلى إبراهيم . والمعنى :
فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه . وقيل : يرجع إلى الكتاب . والله أعلم .
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي من فوض أمره إلى الله
, وامتثل أمر رسوله , ووالى المسلمين , فهو من حزب الله , وقيل : أي ومن يتول
القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين . فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ
الْغَالِبُونَ قال الحسن : حزب الله جند الله , وقال غيره : أنصار الله قال الشاعر
: وكيف أضوى وبلال حزبي أي ناصري , والمؤمنون حزب الله ; فلا جرم غلبوا اليهود
بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية , والحزب الصنف من الناس , وأصله من النائبة من
قولهم : حزبه كذا أي نابه ; فكأن المحتزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة عليها
. وحزب الرجل أصحابه , والحزب الورد ; ومنه الحديث ( فمن فاته حزبه من الليل ) , وقد
حزبت القرآن , والحزب الطائفة , وتحزبوا اجتمعوا , والأحزاب : الطوائف التي تجتمع
على محاربة الأنبياء , وحزبه أمر أي أصابه .
يعني كثيفا لا شمس فيه . الحسن : وصف بأنه ظليل ; لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا
من الحر والسموم ونحو ذلك . وقال الضحاك : يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها الكلبي :
{ ظلا ظليلا { يعني دائما .
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا هذه
الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع . وقد اختلف من المخاطب بها ; فقال
علي بن أبي طالب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب وابن زيد : هذا خطاب لولاة المسلمين
خاصة , فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه , ثم تتناول من بعدهم . وقال ابن جريج
وغيره : ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من
عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من بني عبد الدار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن
أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة , فطلبه العباس بن عبد المطلب لتنضاف له السدانة
إلى السقاية ; فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من
الأوثان , وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية . قال عمر بن الخطاب :
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية , وما كنت سمعتها قبل منه ,
فدعا عثمان وشيبة فقال : ( خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ) . وحكى مكي
: أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح , ثم دفعه , وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : خذه
بأمانة الله . وقال ابن عباس : الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز
ونحوه ويردوهن إلى الأزواج . والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول
الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات
. وهذا اختيار الطبري . وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في
الشهادات وغير ذلك , كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه ; والصلاة والزكاة وسائر
العبادات أمانة الله تعالى . وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : ( القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ) أو قال : ( كل شيء
إلا الأمانة - والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك
الودائع ) . ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية . وممن قال إن الآية عامة في الجميع
البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب قالوا : الأمانة في كل شيء في
الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع , وقال ابن عباس :
لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة . قلت : وهذا إجماع . وأجمعوا على أن
الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار ; قاله ابن المنذر . والأمانة
مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع . ووجه النظم بما تقدم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل
الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم , وقولهم : إن المشركين أهدى سبيلا , فكان ذلك
خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات ; فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة
وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا . وأمهاتها في الأحكام : الوديعة واللقطة والرهن والعارية
. وروى أبي بن كعب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أد الأمانة إلى
من ائتمنك ولا تخن من خانك ) . أخرجه الدارقطني . ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم وقد تقدم في { البقرة { معناه . وروى أبو أمامة قال : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع : ( العارية مؤداة والمنحة مردودة
والدين مقضي والزعيم غارم ) . صحيح أخرجه الترمذي وغيره . وزاد الدارقطني : فقال رجل
: فعهد الله ؟ قال : ( عهد الله أحق ما أدي ) . وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد
الوديعة وأنها مضمونة على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدى فيها أو لم
يتعد - عطاء والشافعي وأحمد وأشهب . وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما
ضمنا الوديعة . وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب
عليه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي . وهذا قول الحسن البصري
والنخعي , وهو قول الكوفيين والأوزاعي قالوا : ومعنى قول عليه السلام : ( العارية
مؤداة ) هو كمعنى قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }
. فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق فكذلك العارية إذا تلفت من غير
تعد ; لأنه لم يأخذها على الضمان , فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته
عليها . وروي عن علي وعمر وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية . وروى الدارقطني عن
عمرو بن شعيب , عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ضمان
على مؤتمن ) . واحتج الشافعي فيما استدل به بقول صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما
استعار منه الأدراع : أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ؟ فقال : ( بل عارية مؤداة ) .
وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قال الضحاك :
بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر . وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام ,
ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء الأمانات . قال صلى الله عليه
وسلم : ( إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين
الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) . وقال : ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته
فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم والمرأة راعية
على بيت زوجها وهي مسئولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع
وكلكم مسئول عن رعيته ) . فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة : وحكاما على
مراتبهم , وكذلك العالم الحاكم ; لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام ,
والفرض والندب , والصحة والفساد , فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يقضى . إِنَّ اللهَ
نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ القراء في قول { فنعما هي { فقرأ أبو عمرو ونافع في رواية
ورش وعاصم في رواية حفص وابن كثير { فنعما هي { بكسر النون والعين . وقرأ أبو عمرو
أيضا ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل { فنعما { بكسر النون
وسكون العين . وقرأ الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائي { فنعما { بفتح النون وكسر
العين , وكلهم سكن الميم . ويجوز في غير القرآن فنعم ما هي . قال النحاس : ولكنه في
السواد متصل فلزم الإدغام . وحكى النحويون في { نعم { أربع لغات : نعم الرجل زيد ,
هذا الأصل . ونعم الرجل , بكسر النون لكسر العين . ونعم الرجل , بفتح النون وسكون
العين , والأصل نعم حذفت الكسرة لأنها ثقيلة . ونعم الرجل , وهذا أفضل اللغات ,
والأصل فيها نعم . وهي تقع في كل مدح , فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت
العين , فمن قرأ { فنعما هي { فله تقديران : أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول
نعم . والتقدير الآخر أن يكون على , اللغة الجيدة , فيكون الأصل نعم , ثم كسرت العين
لالتقاء الساكنين . قال النحاس : فأما الذي حكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين
فمحال . حكي عن محمد بن يزيد أنه قال : أما إسكان العين والميم مشددة فلا يقدر أحد
أن ينطق به , وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأبه . وقال أبو علي : من قرأ
بسكون العين لم يستقم قوله ; لأنه جمع بين ساكنين الأول منهما ليس بحرف مد ولين
وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأول حرف مد , إذ المد يصير عوضا من الحركة ,
وهذا نحو دابة وضوال ونحوه . ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في
{ بارئكم - و - يأمركم { فظن السامع الإخفاء إسكانا للطف ذلك في السمع وخفائه . قال
أبو علي : وأما من قرأ { نعما { بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها
ومنه قول الشاعر : ما أقلت قدماي إنهم نعم الساعون في الأمر المبر إِنَّ اللهَ
كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا وصف الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى ; كما قال
تعالى : { إنني معكما أسمع وأرى } [ طه : 46 ] فهذا طريق السمع . والعقل يدل على ذلك
; فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضيهما من العمى والصمم , إذ المحل القابل
للضدين لا يخلو من أحدهما , وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال
الكاملة من المتصف , بالنقائص ; كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر . وأجمعت
الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في
مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام . جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه
المفترون الكاذبون { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافات : 180 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات
وأن يحكموا بين الناس بالعدل , تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعز
أولا , وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه , ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى
عنه , ثم بطاعة الأمراء ثالثا ; على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم . قال
سهل بن عبد الله التستري : أطيعوا السلطان في سبعة : ضرب الدراهم والدنانير ,
والمكاييل والأوزان , والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد . قال سهل : وإذا نهى
السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي , فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا
. وقال ابن خويز منداد : وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان له فيه طاعة , ولا تجب
فيما كان لله فيه معصية ; ولذلك قلنا : إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم
ولا تعظيمهم , ويجب الغزو معهم متى غزوا , والحكم من قولهم , وتولية الإمامة
والحسبة ; وإقامة ذلك على وجه الشريعة . وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي
جازت الصلاة معهم , وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلى معهم
تقية وتعاد الصلاة . قلت : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : حق على
الإمام أن يحكم بالعدل , ويؤدي الأمانة ; فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه
; لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل , ثم أمر بطاعته . وقال جابر بن عبد
الله ومجاهد : { أولو الأمر { أهل القرآن والعلم ; وهو اختيار مالك رحمه الله ,
ونحوه قول الضحاك قال : يعني الفقهاء والعلماء في الدين . وحكي عن مجاهد أنهم أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم خاصة . وحكى عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله
عنهما خاصة . وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد
فقال : هن حرائر . فقلت بأي شيء ؟ قال بالقرآن . قلت : بأي شيء في القرآن ؟ قال : قال
الله تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم { وكان عمر من أولي
الأمر ; قال : عتقت ولو بسقط . وسيأتي هذا المعنى مبينا في سورة { الحشر { عند قوله
تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] . وقال ابن
كيسان : هم أولو العقل , الرأي الذين يدبرون أمر الناس . قلت : وأصح هذه الأقوال
الأول والثاني ; أما الأول فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم . وروى الصحيحان عن ابن
عباس قال : نزل { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
{ في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في
سرية . قال أبو عمر : وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة ; ومن دعابته أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا ; فلما
أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها , فقال لهم : ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بطاعتي ؟ ! وقال : ( من أطاع أميري فقد أطاعني ) . فقالوا : ما آمنا بالله واتبعنا
رسوله إلا لننجو من النار ! فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال : ( لا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29
] ) . وهو حديث صحيح الإسناد مشهور . وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم بن
ثوبان أن أبا سعيد الخدري قال : كان عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي من أصحاب بدر
وكانت فيه دعابة . وذكر الزبير قال : حدثني عبد الجبار بن سعيد عن عبد الله بن وهب
عن الليث بن سعد قال : بلغني أنه حل حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بعض أسفاره , حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع . قال ابن وهب : فقلت لليث
ليضحكه ؟ قال : نعم كانت فيه دعابة . قال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي : { أولوا
الأمر { أصحاب السرايا . وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى { فإن تنازعتم
في شيء فردوه إلى الله والرسول } . فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة
نبيه صلى الله عليه وسلم , وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة ;
ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا , وامتثال فتواهم لازما . قال سهل بن عبد
الله رحمه الله : لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء ; فإذا عظموا هذين
أصلح الله دنياهم وأخراهم , وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم . وأما القول
الثالث فخاص , وأخص منه القول الرابع . وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان
المعنى صحيحا , فإن العقل لكل فضيلة أس , ولكل أدب ينبوع , وهو الذي جعله الله
للدين أصلا وللدنيا عمادا , فأوجب الله التكليف بكماله , وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه
; والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل وروى هذا المعنى عن ابن
عباس . وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر علي والأئمة المعصومون . ولو كان كذلك ما كان
لقوله : { فردوه إلى الله والرسول { معنى , بل كان يقول فردوه إلى الإمام وأولي
الأمر , فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة . وهذا قول مهجور مخالف لما
عليه الجمهور . وحقيقة الطاعة امتثال الأمر , كما أن المعصية ضدها وهي مخالفة الأمر
. والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد , والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتد . و { أولو }
واحدهم { ذو { على غير قياس كالنساء والإبل والخيل , كل واحد اسم الجمع ولا واحد له
من لفظه . وقد قيل في واحد الخيل : خائل وقد تقدم . مِنْكُمْ فَإِنْ أي تجادلتم
واختلفتم ; فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها . والنزع الجذب . والمنازعة مجاذبة
الحجج ; ومنه الحديث ( وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن ) . وقال الأعشى : نازعتهم
قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل الخضل النبات الناعم والخضيلة الروضة
تَنَازَعْتُمْ فِي أي من أمر دينكم . شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله
أو إلى رسوله بالسؤال في حياته , أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ;
هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة , وهو الصحيح . ومن لم ير هذا اختل إيمانه ; لقوله
تعالى : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } . وقيل : المعنى قولوا الله ورسوله
أعلم ; فهذا هو الرد . وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الرجوع إلى الحق
خير من التمادي في الباطل . والقول الأول أصح ; لقول علي رضي الله عنه : ما عندنا
إلا ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة , أو فهم أعطيه رجل مسلم . ولو كان كما قال
هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خص به هذه الأمة والاستنباط الذي أعطيها , ولكن تضرب
الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب . قال أبو العالية : وذلك قوله تعالى : { ولو
ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83
] . نعم , ما كان مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقال
فيه : الله أعلم . وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر - من
قوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } [ الأحقاف : 15 ] وقوله تعالى : "
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [ البقرة : 233 ] فإذا فصلنا الحولين من
ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر ; ومثله كثير . وفي قوله تعالى : { وإلى الرسول { دليل
على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها . قال صلى الله عليه وسلم :
( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان
قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ) أخرجه مسلم . وروى أبو داود عن أبي
رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه
الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله
اتبعناه ) . وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس
وهو يقول : ( أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في
هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر
) . وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معدي كرب بمعناه وقال : حديث حسن غريب
. والقاطع قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة } [ النور :
63 ] الآية . وسيأتي . الْآخِرِ ذَلِكَ أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة
خير من التنازع . خَيْرٌ وَأَحْسَنُ أي مرجعا ; من آل يئول إلى كذا أي صار . وقيل :
من ألت الشيء إذا جمعته وأصلحته . فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه
; يقال : أول الله عليك أمرك أي جمعه . ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم .
روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال : كان بين رجل من المنافقين
ورجل من اليهود خصومة , فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه
علم أنه لا يقبل الرشوة . ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم ; لأنه علم أنهم يأخذون
الرشوة في أحكامهم ; فلما اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة ; فأنزل الله تعالى
في ذلك : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك { يعني المنافق ."
وما أنزل من قبلك { يعني اليهودي .{ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت { إلى قوله : "
ويسلموا تسليما { وقال الضحاك : دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم
, ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو { الطاغوت { ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال
: كان بين رجل من المنافقين يقال له بشر وبين يهودي خصومة ; فقال اليهودي : انطلق
بنا إلى محمد , وقال المنافق : بل إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله { الطاغوت
{ أي ذو الطغيان فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ;
فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي . فلما
خرجا قال المنافق : لا أرضى , انطلق بنا إلى أبي بكر ; فحكم لليهودي فلم يرض ذكره
الزجاج وقال : انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي : إنا صرنا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض ; فقال عمر للمنافق : أكذلك هو ؟
قال : نعم . قال : رويدكما حتى أخرج إليكما . فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى
برد , وقال : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله ; وهرب اليهودي ,
ونزلت الآية , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنت الفاروق ) . ونزل جبريل
وقال : إن عمر فرق بين الحق والباطل ; فسمي الفاروق . وفي ذلك نزلت الآيات كلها إلى
قوله : { ويسلموا تسليما } [ النساء : 65 ] وانتصب : { ضلالا { على المعنى , أي
فيضلون ضلالا ; ومثله قوله تعالى : { والله أنبتكم من الأرض نباتا } [ نوح : 17 ]
. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى .
هذه صفة المنافقين , والمعنى أنهم لم ينتفعوا بشيء مما سمعوه , بل دخلوا كافرين
وخرجوا كافرين .{ والله أعلم بما كانوا يكتمون { أي من نفاقهم , وقيل : المراد
اليهود الذين قالوا : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار إذا دخلتم
المدينة , واكفروا آخره إذا رجعتم إلى بيوتكم , يدل عليه ما قبله من ذكرهم وما يأتي
.
أي { فكيف { يكون حالهم , أو { فكيف { يصنعون { إذا أصابتهم مصيبة { أي من ترك
الاستعانة بهم , وما يلحقهم من الذل في قوله : { فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن
تقاتلوا معي عدوا } [ التوبة : 83 ] . وقيل : يريد قتل صاحبهم { بما قدمت أيديهم }
وتم الكلام . ثم ابتدأ يخبر عن فعلهم ; وذلك أن عمر لما قتل صاحبهم جاء قومه يطلبون
ديته ويحلفون ما نريد بطلب ديته إلا الإحسان وموافقة الحق . وقيل : المعنى ما أردنا
بالعدول عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم , والإحسان بالتقريب في الحكم . ابن
كيسان : عدلا وحقا ; نظيرها { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } [ التوبة : 107 ] .
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فقال الله تعالى مكذبا
لهم : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم { قال الزجاج : معناه قد علم الله أنهم
منافقون . والفائدة لنا : اعلموا أنهم منافقون . فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قيل : عن
عقابهم . وقيل : عن قبول اعتذارهم وَعِظْهُمْ أي خوفهم . قيل في الملا . وَقُلْ
لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا أي ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء
. الحسن : قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم . وقد بلغ القول بلاغة ; ورجل بليغ
يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه . والعرب تقول : أحمق بلغ وبلغ , أي نهاية في الحماقة
. وقيل : معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق . ويقال : إن قوله تعالى : { فكيف إذا
أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم { نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضرار ; فلما أظهر
الله نفاقهم , وأمرهم بهدم المسجد حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن
أنفسهم : ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ { من { زائدة للتوكيد . إِلَّا لِيُطَاعَ فيما أمر
به ونهى عنه . بِإِذْنِ اللهِ { بعلم الله . وقيل : بتوفيق الله . وَلَوْ
أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ روى أبو صادق عن علي قال : قدم علينا أعرابي بعدما
دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام , فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه ; فقال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ,
ووعيت عن الله فوعينا عنك , وكان فيما أنزل الله عليك { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم }
الآية , وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي . فنودي من القبر إنه قد غفر لك . لَوَجَدُوا
اللهَ تَوَّابًا رَحِيمًا أي قابلا لتوبتهم , وهما مفعولان لا غير .
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فيه
أربع مسائل : الأولى : قال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد
التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت . وقال الطبري : قوله { فلا { رد على ما تقدم ذكره ;
تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك , ثم استأنف القسم بقوله :
{ وربك لا يؤمنون } . وقال غيره : إنما قدم { لا { على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا
لقوته , ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي , وكان يصح إسقاط { لا { الثانية
ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى , وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب
معنى الاهتمام . و { شجر { معناه اختلف واختلط ; ومنه الشجر لاختلاف أغصانه . ويقال
لعصي الهودج : شجار ; لتداخل بعضها في بعض . قال الشاعر : نفسي فداؤك والرماح شواجر
والقوم ضنك للقاء قيام وقال طرفة : وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر
الشجر وقالت طائفة : نزلت في الزبير مع الأنصاري , وكانت الخصومة في سقي بستان ;
فقال عليه السلام للزبير : ( اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك ) . فقال الخصم :
أراك تحابي ابن عمتك ; فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير : ( اسق
ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ) ونزل : { فلا وربك لا يؤمنون } . الحديث ثابت صحيح
رواه البخاري عن علي بن عبد الله عن محمد بن جعفر عن معمر , ورواه مسلم عن قتيبة
كلاهما عن الزهري . واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري ; فقال بعضهم : هو رجل
من الأنصار من أهل بدر . وقال مكي والنحاس : هو حاطب بن أبي بلتعة . وقال الثعلبي
والواحدي والمهدوي : هو حاطب . وقيل : ثعلبة بن حاطب . وقيل غيره : والصحيح القول
الأول ; لأنه غير معين ولا مسمى ; وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار
. واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي . كما قال مجاهد ; ثم تتناول
بعمومها قصة الزبير . قال ابن العربي : وهو الصحيح ; فكل من اتهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الحكم فهو كافر , لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه
وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه , وأنها كانت فلتة وليست لأحد بعد النبي صلى
الله عليه وسلم . وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب . أما إن
طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر
سورة { الأعراف { إن شاء الله تعالى . الثانية : وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما
ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال : (
اسق يا زبير ) لقربه من الماء ( ثم أرسل الماء إلى جارك ) . أي تساهل في حقك ولا
تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك . فحضه على المسامحة والتيسير , فلما سمع
الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب ; لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا , وعند ذلك نطق
بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال : آن كان ابن عمتك ؟ بمد همزة { أن }
المفتوحة على جهة الإنكار ; أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك ؟ . فعند ذلك تلون وجه
النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه , وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له
. وعليه لا يقال : كيف حكم في حال غضبه وقد قال : ( لا يقضي القاضي وهو غضبان ) ؟
فإنا نقول : لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام , بدليل العقل الدال على صدقه
فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام . وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم
إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق . ومنعه مالك , واختلف فيه قول الشافعي . وهذا
الحديث حجة واضحة على الجواز ; فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم .
الثالثة : واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل ; فقال ابن حبيب
: يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به , حتى إذا بلغ الماء من قاعة
الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء , وصرف ما زاد من الماء على
مقدار الكعبين إلى من يليه , فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط
. وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون . وقاله ابن وهب . وقال ابن القاسم : إذا انتهى
الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في
حائطه . قال ابن حبيب : وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك ; لأن
المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل . الرابعة : روى مالك عن عبد الله
بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب : (
يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل ) . قال أبو عمر : { لا أعلم هذا الحديث
يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه , وأرفع أسانيده ما ذكره محمد
بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور
فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى . وذكر عبد الرزاق عن أبي حازم
القرطبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس
على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل . وغيره من السيول كذلك . وسئل أبو بكر البزار
عن حديث هذا الباب فقال : لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت
. قال أبو عمر : في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ حديث ثابت مجتمع على صحته
. رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير
حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل ;
فقال الأنصاري : سرح الماء ; فأبى عليه , فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم }
وذكر الحديث . قال أبو عمر : وقوله في الحديث : ( يرسل ) وفي الحديث الآخر ( إذا بلغ
الماء الكعبين لم يحبس الأعلى ) يشهد لقول ابن القاسم . ومن جهة النظر أن الأعلى لو
لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة , ولم ينته حيث ينتهي
إذا أرسل الجميع , وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة
وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء ; فقول ابن القاسم أولى على كل حال . هذا
إذا لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به , فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق
قديم وثبوت ملك فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته . وبالله
التوفيق . ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ أي ضيقا
وشكا ; ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجة , وجمعها حراج . وقال الضحاك : أي إثما
بإنكارهم ما قضيت . وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أي ينقادوا لأمرك في القضاء . وقال
الزجاج : { تسليما { مصدر مؤكد ; فإذا قلت : ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه ;
وكذلك { ويسلموا تسليما { أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا .
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ( أن ) في موضع رفع ,
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ أي القرآن , وقيل : كتب أنبيائهم .
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قال ابن عباس وغيره : يعني
المطر والنبات ; وهذا يدل على أنهم كانوا في جدب . وقيل : المعنى لوسعنا عليهم في
أرزاقهم وأكلوا أكلا متواصلا ; وذكر فوق وتحت للمبالغة فيما يفتح عليهم من الدنيا ;
ونظير هذه الآية { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق :
2 ] , { وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا } [ الجن : 16 ] { ولو أن
أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [ الأعراف : 96 ]
فجعل تعالى التقى من أسباب الرزق كما في هذه الآيات , ووعد بالمزيد لمن شكر فقال :
{ لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] , مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ثم أخبر
تعالى أن منهم مقتصدا . المؤمنون منهم كالنجاشي وسلمان بن عبد الله بن سلام اقتصدوا
فلم يقولوا في عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام إلا ما يليق بهما , وقيل : أراد
بالاقتصاد قوما لم يؤمنوا , ولكنهم لم يكونوا من المؤذين المستهزئين , والله أعلم ,
والاقتصاد الاعتدال في العمل ; وهو من القصد , والقصد إتيان الشيء ; تقول : قصدته
وقصدت له وقصدت إليه بمعنى . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ أي بئس شيء
عملوه ; كذبوا الرسل , وحرفوا الكتب وأكلوا السحت .
أصل الصراط في كلام العرب الطريق ; قال عامر بن الطفيل : شحنا أرضهم بالخيل حتى
تركناهم أذل من الصراط وقال جرير : أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
وقال آخر : فصد عن نهج الصراط الواضح حكى النقاش : الصراط الطريق بلغة الروم ; فقال
ابن عطية : وهذا ضعيف جدا . وقرئ : السراط ( بالسين ) من الاستراط بمعنى الابتلاع ;
كأن الطريق يسترط من يسلكه . وقرئ بين الزاي والصاد . وقرئ بزاي خالصة والسين الأصل
. وحكى سلمة عن الفراء قال : الزراط بإخلاص الزاي لغة لعذرة وكلب وبني القين , قال :
وهؤلاء يقولون [ في أصدق ] : أزدق . وقد قالوا الأزد والأسد ولسق به ولصق به . و }
الصراط { نصب على المفعول الثاني ; لأن الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثاني
بحرف جر ; قال الله تعالى : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } .[ الصافات : 23 ] . وبغير
حرف كما في هذه الآية .{ المستقيم { صفة ل { الصراط { وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا
انحراف ; ومنه قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ]
وأصله مستقوم , نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها .
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ لما ذكر تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون
حين وعظوا به وأنابوا إليه لأنعم عليهم , ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله . وهذه الآية
تفسير قوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } [ الفاتحة :
6 - 7 ] وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته ( اللهم الرفيق الأعلى ) . وفي
البخاري عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من نبي
يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة ) كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة
فسمعته يقول : ( مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
) فعلمت أنه خير . وقالت طائفة : إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد بن
عبد ربه الأنصاري - الذي أري الأذان - : يا رسول الله , إذا مت ومتنا كنت في عليين
لا نراك ولا نجتمع بك ; وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية . وذكر مكي عن عبد الله
هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده
; فعمي مكانه . وحكاه القشيري فقال : اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى
حبيبي ; فعمي مكانه . وحكى الثعلبي : أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله
عليه وسلم , وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه , فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل
جسمه , يعرف في وجهه الحزن ; فقال له : ( يا ثوبان ما غير لونك ) فقال : يا رسول
الله ما بي ضر ولا وجع , غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى
ألقاك , ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك ; لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني
إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك , وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا
; فأنزل الله تعالى هذه الآية . ذكره الواحدي عن الكلبي . وأسند عن مسروق قال : قال
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا , فإنك إذا
فارقتنا رفعت فوقنا ; فأنزل الله تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين
أنعم الله عليهم من النبيين } . وفي طاعة الله طاعة رسوله ولكنه ذكره تشريفا لقدره
وتنويها باسمه صلى الله عليه وسلم وعلى آله . فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ أي هم معهم في دار واحدة
ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم , لا أنهم يساوونهم في الدرجة ; فإنهم
يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء . وكل من فيها قد رزق الرضا
بحاله , وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول . قال الله تعالى : { ونزعنا ما في صدورهم من
غل } [ الأعراف : 43 ] . والصديق فعيل , المبالغ في الصدق أو في التصديق , والصديق
هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه . وقيل : هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم
إلى التصديق كأبي بكر الصديق . وقد تقدم في البقرة اشتقاق الصديق ومعنى الشهيد
. والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي , والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم
أجمعين . وَالشُّهَدَاءِ القتلى في سبيل الله . وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ
رَفِيقًا صالحي أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : واللفظ يعم كل صالح
وشهيد , والله أعلم . والرفق لين الجانب . وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته ; ومنه
الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض . ويجوز { وحسن أولئك رفقاء } . قال الأخفش : { رفيقا }
منصوب على الحال وهو بمعنى رفقاء ; وقال : انتصب على التمييز فوحد لذلك ; فكأن
المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا . كما قال تعالى : { ثم نخرجكم طفلا } [ الحج : 5 ]
أي نخرج كل واحد منكم طفلا . وقال تعالى : { ينظرون من طرف خفي } [ الشورى : 45 ]
وينظر معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم : ( خير الرفقاء أربعة ) ولم يذكر
الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله . في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله
عنه ; وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم
النبيون , ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة . وأجمع المسلمون على تسمية أبي
بكر الصديق رضي الله عنه صديقا , كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا ,
وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن
يتقدم بعده أحد . والله أعلم .
أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة . بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه . خلافا
لما قالت المعتزلة : إنما ينال العبد ذلك بفعله . فلما امتن الله سبحانه على أوليائه
بما آتاهم من فضله , وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على
بطلان قولهم . والله أعلم .
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ المعنى ; ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه
لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد , اغترارا بقولهم : نحن أبناء الله
وأحباؤه , وإنما اغتروا بطول الإمهال , وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { تكون }
بالرفع ; ونصب الباقون ; فالرفع على أن حسب بمعنى علم وتيقن . و { أن { مخففة من
الثقيلة ودخول { لا { عوض من التخفيف , وحذف الضمير لأنهم كرهوا أن يليها الفعل
وليس من حكمها أن تدخل عليه ; ففصلوا بينهما ( بلا ) , ومن نصب جعل { أن { ناصبة
للفعل , وبقي حسب على بابه من الشك وغيره . قال سيبويه : حسبت ألا يقول ذلك ; أي
حسبت أنه قال ذلك , وإن شئت نصبت ; قال النحاس : والرفع عند النحويين في حسب
وأخواتها أجود كما قال : ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يشهد اللهو أمثالي
وإنما صار الرفع أجود ; لأن حسب وأخواتها بمنزلة العلم لأنه شيء ثابت . فَعَمُوا أي
عن الهدى . وَصَمُّوا أي عن سماع الحق ; لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه .
ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ في الكلام إضمار , أي أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب
الله عليهم بكشف القحط , أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله يتوب
عليهم إن آمنوا , فهذا بيان { تاب الله عليهم { أي يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا
أنهم تابوا على الحقيقة . ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ أي عمي كثير
منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام ; فارتفع { كثير { على البدل
من الواو , وقال الأخفش سعيد : كما تقول رأيت قومك ثلثيهم , وإن شئت كان على إضمار
مبتدإ أي العمي والصم كثير منهم . وإن شئت كان التقدير العمي والصم منهم كثير ,
وجواب رابع أن يكون على لغة من قال : ( أكلوني البراغيث ) وعليه قول الشاعر : ولكن
ديافي أبوه وأمه بحوران يعصرن السليط أقاربه ومن هذا المعنى قوله : { وأسروا النجوى
الذين ظلموا } [ الأنبياء : 3 ] , ويجوز في غير القرآن ( كثيرا ) بالنصب يكون نعتا
لمصدر محذوف . وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ قال العلماء : وصف الله عز وجل
نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور , والبصير في كلام العرب : العالم
بالشيء الخبير به ; ومنه قولهم : فلان بصير بالطب , وبصير بالفقه , وبصير بملاقاة
الرجال ; قال : فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب قال الخطابي :
البصير العالم , والبصير المبصر , وقيل : وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى جاعل
الأشياء المبصرة ذوات إبصار , أي مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة
والقوة ; فالله بصير بعباده , أي جاعل عباده مبصرين .
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ يعني المنافقين . والتبطئة والإبطاء التأخر
, تقول : ما أبطأك عنا ; فهو لازم . ويجوز بطأت فلانا عن كذا أي أخرته ; فهو متعد
. والمعنيان مراد في الآية ; فكانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم . والمعنى أن من
دخلائكم وجنسكم وممن أظهر إيمانه لكم . فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين
بإجراء أحكام المسلمين عليهم . واللام في قوله { لمن { لام توكيد , والثانية لام قسم
, و { من { في موضع نصب , وصلتها { ليبطئن { لأن فيه معنى اليمين , والخبر { منكم }
. وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي { وإن منكم لمن ليبطئن { بالتخفيف , والمعنى واحد
. وقيل : المراد بقوله { وإن منكم لمن ليبطئن { بعض المؤمنين ; لأن الله خاطبهم
بقوله : { وإن منكم { وقد فرق الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين بقوله { وما هم
منكم } [ التوبة : 56 ] وهذا يأباه مساق الكلام وظاهره . وإنما جمع بينهم في الخطاب
من جهة الجنس والنسب كما بينا لا من جهه الإيمان . هذا قول الجمهور وهو الصحيح إن
شاء الله تعالى , والله أعلم . فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة قَالَ
قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا يعني بالقعود ,
وهذا لا يصدر إلا من منافق ; لا سيما في ذلك الزمان الكريم , بعيد أن يقوله مؤمن
. وينظر إلى هذه الآية ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
إخبارا عن المنافقين ( إن أثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما
فيهما لأتوهما ولو حبوا ) الحديث . في رواية ( ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا
لشهدها ) يعني صلاة العشاء . يقول : لو لاح شيء من الدنيا يأخذونه وكانوا على يقين
منه لبادروا إليه .
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ أي غنيمة وفتح لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ
تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ { ليقولن { هذا المنافق قول نادم حاسد { يا
ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما }{ كأن لم يكن بينكم وبينه مودة { فالكلام فيه
تقديم وتأخير . وقيل : المعنى { ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة { أي كأن لم
يعاقدكم على الجهاد . وقيل : هو في موضع نصب على الحال . وقرأ الحسن { ليقولن { بضم
اللام على معنى { من } ; لأن معنى قوله { لمن ليبطئن { ليس يعني رجلا بعينه . ومن
فتح اللام أعاد فوحد الضمير على لفظ { من } . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { كأن لم
تكن { بالتاء على لفظ المودة . ومن قرأ بالياء جعل مودة بمعنى الود . يَا لَيْتَنِي
كُنْتُ وقول المنافق { يا ليتني كنت معهم { على وجه الحسد أو الأسف على فوت الغنيمة
مع الشك في الجزاء من الله . مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا جواب التمني ولذلك نصب
. وقرأ الحسن { فأفوز { بالرفع على أنه تمنى الفوز , فكأنه قال : يا ليتني أفوز فوزا
عظيما . والنصب على الجواب ; والمعنى إن أكن معهم أفز . والنصب فيه بإضمار { أن }
لأنه محمول على تأويل المصدر ; التقدير يا ليتني كان لي حضور ففوز .
فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { فليقاتل في سبيل الله { الخطاب للمؤمنين
; أي فليقاتل في سبيل الله الكفار { الذين يشرون { أي يبيعون , أي يبذلون أنفسهم
وأموالهم لله عز وجل { بالآخرة { أي بثواب الآخرة . الثانية : قوله تعالى : { ومن
يقاتل في سبيل الله { شرط .{ فيقتل أو يغلب { عطف عليه , والمجازاة { فسوف نؤتيه
أجرا عظيما } . ومعنى { فيقتل { فيستشهد .{ أو يغلب { يظفر فيغنم . وقرأت طائفة { ومن
يقاتل }{ فليقاتل { بسكون لام الأمر . وقرأت فرقة { فليقاتل { بكسر لام الأمر . فذكر
تعالى غايتي حالة المقاتل واكتفى بالغايتين عما بينهما ; ذكره ابن عطية . الثالثة :
ظاهر الآية يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما . وفي صحيح مسلم عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تضمن الله لمن خرج في سبيله لا
يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو
أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة ) وذكر الحديث . وفيه عن
عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من غازية تغزو في
سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم
يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم ) . فقوله : ( نائلا ما نال من أجر أو غنيمة ) يقتضي أن
لمن يستشهد من المجاهدين أحد الأمرين ; إما الأجر إن لم يغنم , وإما الغنيمة ولا
أجر , بخلاف حديث عبد الله بن عمرو , ولما كان هذا قال قوم : حديث عبد الله بن عمرو
ليس بشيء ; لأن في إسناده حميد بن هانئ وليس بمشهور , ورجحوا الحديث الأول عليه
لشهرته . وقال آخرون : ليس بينهما تعارض ولا اختلاف . و { أو { في حديث أبي هريرة
بمعنى الواو , كما يقول الكوفيون وقد دلت عليه رواية أبي داود فإنه قال فيه : ( من
أجر وغنيمة ) بالواو الجامعة . وقد رواه بعض رواة مسلم بالواو الجامعة أيضا . وحميد
بن هانئ مصري سمع أبا عبد الرحمن الحبلي وعمرو بن مالك , وروى عنه حيوة بن شريح
وابن وهب ; فالحديث الأول محمول على مجرد النية والإخلاص في الجهاد ; فذلك الذي ضمن
الله له إما الشهادة , وإما رده إلى أهله مأجورا غانما , ويحمل الثاني على ما إذا
نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم , فلما انقسمت نيته انحط أجره ; فقد دلت السنة على
أن للغانم أجرا كما دل عليه الكتاب فلا تعارض . ثم قيل : إن نقص أجر الغانم على من
يغنم إنما هو بما فتح الله عليه من الدنيا فتمتع به وأزال عن نفسه شظف عيشه ; ومن
أخفق فلم يصب شيئا بقي على شظف عيشه والصبر على حالته , فبقي أجره موفرا بخلاف
الأول . ومثله قوله في الحديث الآخر : ( فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا - منهم
مصعب بن عمير - ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها ) .
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ حض على الجهاد , وهو يتضمن
تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب , ويفتنونهم
عن الدين ; فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء
من عباده , وإن كان في ذلك تلف النفوس . وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما
بالقتال وإما بالأموال ; وذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها . قال مالك :
واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجميع أموالهم . وهذا لا خلاف فيه ; لقوله عليه
السلام ( فكوا العاني ) وقد مضى في { البقرة } . وكذلك قالوا : عليهم أن يواسوهم فإن
المواساة دون المفاداة . فإن كان الأسير غنيا فهل يرجع عليه الفادي أم لا ; قولان
للعلماء , أصحهما الرجوع . وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ عطف على اسم الله عز وجل , أي وفي سبيل المستضعفين , فإن خلاص
المستضعفين من سبيل الله . وهذا اختيار الزجاج وقال الزهري . وقال محمد بن يزيد :
أختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفا على السبيل ; أي وفي المستضعفين
لاستنقاذهم ; فالسبيلان مختلفان . ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت
إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون بقوله عليه السلام : ( اللهم أنج الوليد بن
الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعه والمستضعفين من المؤمنين ) . وقال ابن عباس
: كنت أنا وأمي من المستضعفين . في البخاري عنه { إلا المستضعفين من الرجال والنساء
والولدان { فقال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله , أنا من الولدان وأمي من النساء .
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ
أَهْلُهَا القرية هنا مكة بإجماع من المتأولين . ووصفها بالظلم وإن كان الفعل للأهل
لعلقة الضمير . وهذا كما تقول : مررت بالرجل الواسعة داره , والكريم أبوه , والحسنة
جاريته . وأنما وصف الرجل بها للعلقة اللفظية بينهما وهو الضمير , فلو قلت : مررت
بالرجل الكريم عمرو لم تجز المسألة ; لأن الكرم لعمرو فلا يجوز أن يجعل صفة لرجل
إلا بعلقة وهي الهاء . ولا تثنى هذه الصفة ولا تجمع , لأنها تقوم مقام الفعل ,
فالمعنى أي التي ظلم أهلها ولهذا لم يقل الظالمين . وتقول : مررت برجلين كريم
أبواهما حسنة جاريتاهما , وبرجال كريم آباؤهم حسنة جواريهم . وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ
لَدُنْكَ أي من عندك . وَلِيًّا أي من يستنقذنا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ
نَصِيرًا أي ينصرنا عليهم .
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا
نَفْعًا زيادة في البيان وإقامة حجة عليهم ; أي أنتم مقرون أن عيسى كان جنينا في
بطن أمه , لا يملك لأحد ضرا ولا نفعا , وإذ أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال
لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا ينفع ولا يضر , فكيف اتخذتموه إلها ؟ . وَاللهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي لم يزل سميعا عليما يملك الضر والنفع , ومن كانت هذه
صفته فهو الإله على الحقيقة , والله أعلم .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا
فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف
وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا : يا نبي الله , كنا في عز
ونحن مشركون , فلما آمنا صرنا أذلة ؟ فقال : ( إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم )
. فلما حول الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا , فنزلت الآية . أخرجه النسائي
في سننه , وقاله الكلبي . وقال مجاهد : هم يهود . قال الحسن : هي في المؤمنين ; لقوله
: { يخشون الناس { أي مشركي مكة { كخشية الله { فهي على ما طبع عليه البشر من
المخافة لا على المخالفة . قال السدي : هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه
. وقيل : هو وصف للمنافقين ; والمعنى يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من
الله .{ أو أشد خشية { أي عندهم وفي اعتقادهم . قلت : وهذا أشبه بسياق الآية ,
لقوله : { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب { أي هلا ,
ولا يليها إلا الفعل . ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال
محدودة والأرزاق مقسومة , بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين , يرون
الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة , على ما هو معروف من
سيرتهم رضي الله عنهم . اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه , ولا
انشرح بالإسلام جنانه , فإن أهل الإيمان متفاضلون فمنهم الكامل ومنهم الناقص , وهو
الذي تنفر نفسه عما يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقة وتدركه فيه الشدة . والله أعلم .
قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا
تُظْلَمُونَ فَتِيلًا قوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل { ابتداء وخبر . وكذا }
والآخرة خير لمن اتقى { أي المعاصي ; وقد مضى القول في هذا في { البقرة { ومتاع
الدنيا منفعتها والاستمتاع بلذاتها وسماه قليلا لأنه لا بقاء له . وقال النبي صلى
الله عليه وسلم ( مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها ) وقد
تقدم هذا المعنى في { البقرة { مستوفى .
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ قوله تعالى : { أينما تكونوا يدركم الموت { شرط ومجازاة , و { ما }
زائدة وهذا الخطاب عام وإن كان المراد المنافقين أو ضعفة المؤمنين الذين قالوا : "
لولا أخرتنا إلى أجل قريب { أي إلى أن نموت بآجالنا , وهو أشبه المنافقين كما ذكرنا
, لقولهم لما أصيب أهل أحد , قالوا : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } [ آل
عمران : 156 ] فرد الله عليهم { أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }
قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه . وواحد البروج برج , وهو البناء المرتفع والقصر
العظيم . قال طرفة يصف ناقة : كأنها برج رومي تكففها بان بشيد وآجر وأحجار وقرأ طلحة
بن سليمان { يدرككم { برفع الكاف على إضمار الفاء , وهو قليل لم يأت إلا في الشعر
نحو قوله : من يفعل الحسنات الله يشكرها أراد فالله يشكرها . واختلف العلماء وأهل
التأويل في المراد بهذه البروج , فقال الأكثر وهو الأصح . إنه أراد البروج في الحصون
التي في الأرض المبنية , لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة , فمثل الله لهم بها
. وقال قتادة : في قصور محصنة . وقاله ابن جريج والجمهور , ومنه قول عامر بن الطفيل
للنبي صلى الله عليه وسلم : هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ وقال مجاهد : البروج القصور
. ابن عباس : البروج الحصون والآطام والقلاع . ومعنى { مشيدة { مطولة , قاله الزجاج
والقتبي . عكرمة : المزينة بالشيد وهو الجص . قال قتادة : محصنة . والمشيد والمشيد
سواء , ومنه { وقصر مشيد } [ الحج : 45 ] والتشديد للتكثير . وقيل المشيد المطول ,
والمشيد المطلي بالشيد . يقال : شاد البنيان وأشاد بذكره . وقال السدي : المراد
بالبروج بروج في السماء الدنيا مبنية . وحكى هذا القول مكي عن مالك وأنه قال ألا ترى
إلى قوله تعالى : { والسماء ذات البروج } [ البروج : 1 ] و { جعل في السماء بروجا }
[ الفرقان : 61 ] { ولقد جعلنا في السماء بروجا } [ الحجر : 16 ] . وحكاه ابن العربي
أيضا عن ابن القاسم عن مالك . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : { في بروج مشيدة }
معناه في قصور من حديد . قال ابن عطية : وهذا لا يعطيه ظاهر اللفظ . هذه الآية ترد
على القدرية في الآجال , لقوله تعالى : { أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في
بروج مشيدة { فعرفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من مفارقة الروح الجسد , كان
ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به . وقالت المعتزلة : إن
المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش . وقد تقدم الرد عليهم في { آل عمران { ويأتي
فوافقوا بقولهم هذا الكفار والمنافقين . اتخاذ البلاد وبنائها ليمتنع بها في حفظ
الأموال والنفوس , وهي سنة الله في عباده . وفي ذلك أدل دليل على رد قول من يقول :
التوكل ترك الأسباب , فإن اتخاذ البلاد من أكبر الأسباب وأعظمها وقد أمرنا بها ,
واتخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدة وزيادة في التمنع . وقد قيل للأحنف : ما
حكمة السور ؟ فقال : ليردع السفيه حتى يأتي الحكيم فيحميه . الرابعة : وإذا تنزلنا
على قول مالك والسدي في أنها بروج السماء , فبروج الفلك اثنا عشر برجا مشيدة من
الرفع , وهي الكواكب العظام . وقيل للكواكب بروج لظهورها , من برج يبرج إذا ظهر
وارتفع ; ومنه قوله : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } [ الأحزاب : 33 ] وخلقها
الله تعالى منازل للشمس والقمر وقدره فيها , ورتب الأزمنة عليها , وجعلها جنوبية
وشمالية دليلا على المصالح وعلما على القبلة , وطريقا إلى تحصيل آناء الليل وآناء
النهار لمعرفة أوقات التهجد غير ذلك من أحوال المعاش . وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ
يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا
هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله { أي إن يصب
المنافقين خصب قالوا : هذا من عند الله .{ وإن تصبهم سيئة { أي جدب ومحل قالوا :
هذا من عندك , أي أصابنا ذلك بشؤمك وشؤم أصحابك . وقيل : الحسنة السلامة والأمن ,
والسيئة الأمراض والخوف . وقيل : الحسنة الغنى , والسيئة الفقر . وقيل : الحسنة
النعمة والفتح والغنيمة يوم بدر , والسيئة البلية والشدة والقتل يوم أحد . وقيل :
الحسنة السراء , والسيئة الضراء . هذه أقوال المفسرين وعلماء التأويل - ابن عباس
وغيره - في الآية . وأنها نزلت في اليهود والمنافقين , وذلك أنها لما قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا
مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال ابن عباس : ومعنى { من عندك { أي بسوء تدبيرك
. وقيل : { من عندك { بشؤمك , كما ذكرنا , أي بشؤمك الذي لحقنا , قالوه على جهة
التطير . قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ أي الشدة والرخاء والظفر والهزيمة من عند
الله , أي بقضاء الله وقدره . فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ يعني المنافقين لَا
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا أي ما شأنهم لا يفقهون أن كلا من عند الله .
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ أي ما أصابك يا محمد من خصب ورخاء وصحة وسلامة فبفضل الله عليك وإحسانه
إليك , وما أصابك من جدب وشدة فبذنب أتيته عوقبت عليه . والخطاب للنبي صلى الله عليه
وسلم والمراد أمته . أي ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتساع رزق فمن تفضل الله
عليكم , وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم ; أي من أجل ذنوبكم وقع ذلك بكم
. قاله الحسن والسدي وغيرهما ; كما قال تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء }
[ الطلاق : 1 ] . وقد قيل : الخطاب للإنسان والمراد به الجنس ; كما قال تعالى : "
والعصر إن الإنسان لفي خسر } [ العصر : 1 - 2 ] أي إن الناس لفي خسر , ألا تراه
استثنى منهم فقال { إلا الذين آمنوا { ولا يستثنى إلا من جملة أو جماعة . وعلى هذا
التأويل يكون قوله { ما أصابك { استئنافا . وقيل : في الكلام حذف تقديره يقولون ;
وعليه يكون الكلام متصلا ; والمعنى فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا حتى
يقولوا ما أصابك من حسنة فمن الله . وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة ; والمعنى أفمن
نفسك ؟ ومثله قوله تعالى : { وتلك نعمة تمنها علي } [ الشعراء : 22 ] والمعنى أوتلك
نعمة ؟ وكذا قوله تعالى : { فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي } [ الأنعام : 77 ]
أي أهذا ربي ؟ قال أبو خراش الهذلي : رموني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت
الوجوه هم هم أراد { أهم { فأضمر ألف الاستفهام وهو كثير وسيأتي . قال الأخفش { ما }
بمعنى الذي . وقيل : هو شرط . قال النحاس : والصواب قول الأخفش ; لأنه نزل في شيء
بعينه من الجدب , وليس هذا من المعاصي في شيء ولو كان منها لكان وما أصبت من سيئة
. وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي وابن مسعود { ما أصابك من حسنة
فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك { فهذه قراءة على التفسير ,
وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن , والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع ; لأن
مجاهدا لم ير عبد الله ولا أبيا . وعلى قول من قال : الحسنة الفتح والغنيمة يوم بدر
, والسيئة ما أصابهم يوم أحد ; أنهم عوقبوا عند خلاف الرماة الذين أمرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يحموا ظهره ولا يبرحوا من مكانهم , فرأوا الهزيمة على قريش
والمسلمون يغنمون أموالهم فتركوا مصافهم , فنظر خالد بن الوليد ـ وكان مع الكفار
يومئذ ـ ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انكشف من الرماة فأخذ سرية من الخيل
ودار حتى صار خلف المسلمين وحمل عليهم , ولم يكن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الرماة إلا صاحب الراية , حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف حتى
استشهد مكانه ; على ما تقدم في { آل عمران { بيانه . فأنزل الله تعالى نظير هذه
الآية وهو قوله تعالى : { أولما أصابتكم مصيبة } [ آل عمران : 165 ] يعني يوم أحد }
قد أصبتم مثليها { يعني يوم بدر { قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } . ولا يجوز أن
تكون الحسنة هاهنا الطاعة والسيئة المعصية كما قالت القدرية ; إذ لو كان كذلك لكان
ما أصبت كما قدمنا , إذ هو بمعنى الفعل عندهم والكسب عندنا , وإنما تكون الحسنة
الطاعة والسيئة المعصية في نحو قوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء
بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } [ الأنعام : 160 ] وأما في هذه الآية فهي كما تقدم
شرحنا له من الخصب والجدب والرخاء والشدة على نحو ما جاء في آية { الأعراف { وهي
قوله تعالى : { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون } [
الأعراف : 130 ] .{ بالسنين { بالجدب سنة بعد سنة ; حبس المطر عنهم فنقصت ثمارهم
وغلت أسعارهم .{ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن
معه { أي يتشاءمون بهم ويقولون هذا من أجل اتباعنا لك وطاعتنا إياك ; فرد الله
عليهم بقوله : { ألا إنما طائرهم عند الله } [ الأعراف : 131 ] يعني أن طائر البركة
وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضر من الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق ; فكذلك
قوله تعالى فيما أخبر عنهم أنهم يضيفونه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : { وإن
تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله { كما قال : { ألا إنما طائرهم
عند الله { وكما قال تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } [ آل
عمران : 166 ] أي بقضاء الله وقدره وعلمه , وآيات الكتاب يشهد بعضها لبعض . قال
علماؤنا : ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره
وإرادته ومشيئته ; كما قال تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35
] وقال تعالى : { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال } [
الرعد : 11 ] . مسألة : وقد تجاذب بعض جهال أهل السنة هذه الآية واحتج بها ; كما
تجاذبها القدرية واحتجوا بها , ووجه احتجاجهم بها أن القدرية يقولون : إن الحسنة ها
هنا الطاعة , والسيئة المعصية ; قالوا : وقد نسب المعصية في قوله تعالى : { وما
أصابك من سيئة فمن نفسك { إلى الإنسان دون الله تعالى ; فهذا وجه تعلقهم بها . ووجه
تعلق الآخرين منها قوله تعالى : { قل كل من عند الله { قالوا : فقد أضاف الحسنة
والسيئة إلى نفسه دون خلقه . وهذه الآية إنما يتعلق بها الجهال من الفريقين جميعا ;
لأنهم بنوا ذلك على أن السيئة هي المعصية , وليست كذلك لما بيناه . والله أعلم
. والقدرية إن قالوا { ما أصابك من حسنة { أي من طاعة { فمن الله { فليس هذا
اعتقادهم ; لأن اعتقادهم الذي بنوا عليه مذهبهم أن الحسنة فعل المحسن والسيئة فعل
المسيء . وأيضا فلو كان لهم فيها حجة لكان يقول : ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة
; لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا , فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما لا بفعل غيره
. نص على هذه المقالة الإمام أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة في كتابه
المسمى بحز الغلاصم في إفحام المخاصم . وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا مصدر
مؤكد , ويجوز أن يكون المعنى ذا رسالة وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا نصب على البيان
والباء زائدة , أي كفى الله شهيدا على صدق رسالة نبيه وأنه صادق .
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ أعلم الله تعالى أن طاعة رسوله صلى
الله عليه وسلم طاعة له . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال : ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد
أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ) في رواية . ( ومن أطاع أميري , ومن عصى أميري ) .
وَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا أي حافظا ورقيبا
لأعمالهم , إنما عليك البلاغ . وقال القتبي : محاسبا ; فنسخ الله هذا بآية السيف
وأمره بقتال من خالف الله ورسوله .
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا
اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ يدل بهذا على أن من اتخذ كافرا وليا فليس بمؤمن إذا
اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله . وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ أي خارجون عن
الإيمان بنبيهم لتحريفهم , أو عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لنفاقهم .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ثم عاب المنافقين بالإعراض عن التدبر في القرآن
والتفكر فيه وفي معانيه . تدبرت الشيء فكرت في عاقبته . وفي الحديث ( لا تدابروا ) أي
لا يولي بعضكم بعضا دبره . وأدبر القوم مضى أمرهم إلى آخره . والتدبير أن يدبر
الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته . ودلت هذه الآية وقوله تعالى : "
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } [ محمد : 24 ] على وجوب التدبر في
القرآن ليعرف معناه . فكان في هذا رد على فساد قول من قال : لا يؤخذ من تفسيره إلا
ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم , ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب . وفيه
دليل على الأمر بالنظر والاستدلال وإبطال التقليد , وفيه دليل على إثبات القياس .
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا أي
تفاوتا وتناقضا ; عن ابن عباس وقتادة وابن زيد . ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ
القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات ومقادير السور والآيات . وإنما أراد اختلاف
التناقض والتفاوت . وقيل : المعنى لو كان ما تخبرون به من عند غير الله لاختلف . وقيل
: إنه ليس من متكلم يتكلم كلاما كثيرا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير , إما في الوصف
واللفظ ; وإما في جودة المعنى , وإما في التناقض , وإما في الكذب . فأنزل الله عز
وجل القرآن وأمرهم بتدبره ; لأنهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف ولا ردا له في معنى
, ولا تناقضا ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب وما يسرون .
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ في { إذا { معنى الشرط ولا
يجازى بها وإن زيدت عليها { ما { وهي قليلة الاستعمال . قال سيبويه . والجيد ما قال
كعب بن زهير : وإذا ما تشاء تبعث منها مغرب الشمس ناشطا مذعورا يعني أن الجيد لا
يجزم بإذا ما كما لم يجزم في هذا البيت , وقد تقدم في أول { البقرة } . والمعنى أنهم
إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم { أو الخوف { وهو ضد
هذا أَذَاعُوا بِهِ أي أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته . فقيل :
كان هذا من ضعفة المسلمين ; عن الحسن ; لأنهم كانوا يفشون أمر النبي صلى الله عليه
وسلم ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك . وقال الضحاك وابن زيد : هو في المنافقين
فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف . وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى
الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه . أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه ; عن
الحسن وقتادة وغيرهما . السدي وابن زيد : الولاة . وقيل : أمراء السرايا . لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجونه , أي لعلموا ما ينبغي أن يفشى
منه وما ينبغي أن يكتم . والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته . والنبط :
الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر . وسمي النبط نبطا لأنهم
يستخرجون ما في الأرض . والاستنباط في اللغة الاستخراج , وهو يدل على الاجتهاد إذا
عدم النص والإجماع كما تقدم . وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
رفع بالابتداء عند سيبويه , ولا يجوز أن يظهر الخبر عنده . والكوفيون يقولون : رفع
بلولا . لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا في هذه الآية ثلاثة أقوال ;
قال ابن عباس وغيره : المعنى أذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش . وقاله جماعة
من النحويين : الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري . وقيل : المعنى لعلمه
الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم ; عن الحسن وغيره , واختاره الزجاج قال : لأن
هذا الاستنباط الأكثر يعرفه ; لأنه استعلام خبر . واختار الأول الفراء قال : لأن علم
السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره , والإذاعة تكون في بعض دون بعض . قال الكلبي
عنه : فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة . قال النحاس : فهذان قولان على المجاز ,
يريد أن في الكلام تقديما وتأخيرا . وقول ثالث بغير مجاز : يكون المعنى ولولا فضل
الله عليكم ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا
منكم فإنه كان يوحد . وفيه قول رابع - قال الضحاك : المعنى لاتبعتم الشيطان إلا
قليلا , أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا
قليلا , يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . وعلى هذا القول يكون قوله { إلا
قليلا { مستثنى من قوله { لاتبعتم الشيطان } . قال المهدوي : وأنكر هذا القول أكثر
العلماء , إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان .
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ هذه الفاء متعلقة بقوله { ومن يقاتل في سبيل الله
فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما } [ النساء : 74 ] { فقاتل في سبيل الله { أي
من أجل هذا فقاتل . وقيل : هي متعلقة بقوله : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله
. فقاتل } . كأن هذا المعنى : لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من
المؤمنين ولو وحدك ; لأنه وعده بالنصر . قال الزجاج : أمر الله تعالى رسوله صلى الله
عليه وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده ; لأنه قد ضمن له النصرة . قال ابن عطية : { هذا
ظاهر اللفظ , إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة مدة ما ;
فالمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ , وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه
; أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له ; { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا
نفسك } . ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ; ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه
وسلم : ( والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي ) . وقول أبي بكر وقت الردة : ولو
خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي . وقيل : إن هذه الآية نزلت في موسم بدر الصغرى ; فإن
أبا سفيان لما انصرف من أحد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر الصغرى ;
فلما جاء الميعاد خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا فلم يحضر
أبو سفيان ولم يتفق قتال . وهذا على معنى ما قاله مجاهد كما تقدم في { آل عمران }
. ووجه النظم على هذا والاتصال بما قبل أنه وصف المنافقين بالتخليط وإيقاع الأراجيف
, ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وبالجد في القتال في سبيل الله
وإن لم يساعده أحد على ذلك . لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ { تكلف { مرفوع لأنه
مستقبل , ولم يجزم لأنه ليس علة للأول . وزعم الأخفش أنه يجوز جزمه .{ إلا نفسك }
خبر ما لم يسم فاعله ; والمعنى لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به . وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ أي حضهم على الجهاد والقتال . يقال : حرضت فلانا على كذا إذا أمرته
به . وحارض فلان على الأمر وأكب وواظب بمعنى واحد . عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ
بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا إطماع , والإطماع من الله عز وجل واجب . على أن الطمع قد
جاء في كلام العرب على الوجوب ; ومنه قوله تعالى : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي
يوم الدين } [ الشعراء : 82 ] . وقال ابن مقبل : ظني بهم كعسى وهم بتنوفة يتنازعون
جوائز الأمثال إن قال قائل : نحن نرى الكفار في بأس وشدة , وقلتم : إن عسى بمعنى
اليقين فأين ذلك الوعد ؟ قيل له : قد وجد هذا الوعد ولا يلزم وجوده على الاستمرار
والدوام فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد ; فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى
, وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال { وكفى الله المؤمنين القتال } [
الأحزاب : 25 ] وبالحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة , ففطن بهم
المسلمون فخرجوا فأخذوهم أسرة , وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح , وهو
المراد بقوله تعالى : { وهو الذي كف أيديهم عنكم } [ الفتح : 24 ] على ما يأتي . وقد
ألقى الله في قلوب الأحزاب الرعب وانصرفوا من غير قتل ولا قتال ; كما قال تعالى }
وكفى الله المؤمنين القتال } . وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين
لهم , فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين , مع أنه قد دخل من اليهود والنصارى
العدد الكثير والجم الغفير تحت الجزية صاغرين وتركوا المحاربة داخرين , فكف الله
بأسهم عن المؤمنين . والحمد لله رب العالمين . وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا أي صولة
وأعظم سلطانا وأقدر بأسا على ما يريده . وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي عقوبة ; عن الحسن
وغيره . قال ابن دريد : رماه الله بنكلة , أي رماه بما ينكله . قال : ونكلت بالرجل
تنكيلا من النكال . والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان . قال : وارم على أقفائهم بمنكل .
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ
شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى
: { من يشفع { أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع وهو الزوج في العدد ; ومنه
الشفيع ; لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا . ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في
حلبة واحدة . وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها . والشفع ضم واحد إلى واحد
. والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك ; فالشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك , فهي
على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال المنفعة إلى المشفوع له .
الثانية : واختلف المتأولون في هذه الآية ; فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي
في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم ; فمن يشفع لينفع فله نصيب , ومن يشفع ليضر فله
كفل . وقيل : الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة , والسيئة في المعاصي . فمن شفع
شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر , ومن سعى بالنميمة والغيبة أثم , وهذا
قريب من الأول . وقيل : يعني بالشفاعة الحسنة الدعاء للمسلمين , والسيئة الدعاء
عليهم . وفي صحيح الخبر : ( من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل )
. هذا هو النصيب , وكذلك في الشر ; بل يرجع شؤم دعائه عليه . وكانت اليهود تدعو على
المسلمين . وقيل : المعنى من يكن شفعا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر , ومن
يكن شفعا لآخر في باطل يكن له نصيبه من الوزر . وعن الحسن أيضا : الحسنة ما يجوز في
الدين , والسيئة ما لا يجوز فيه . وكأن هذا القول جامع . والكفل الوزر والإثم ; عن
الحسن وقتادة . السدي وابن زيد هو النصيب . واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب
البعير على سنامه لئلا يسقط . يقال : اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت
عليه . ويقال له : اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيبا من الظهر
. ويستعمل في النصيب من الخير والشر , وفي كتاب الله تعالى { يؤتكم كفلين من رحمته }
[ الحديد : 28 ] . والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يشفع ; لأنه تعالى قال { من يشفع }
ولم يقل يشفع . وفي صحيح مسلم ( اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب ) .
وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا { مقيتا { معناه مقتدرا ; ومنه قول
الزبير بن عبد المطلب : وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتا أي قديرا
. فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قوته ; ومنه قوله عليه السلام : ( كفى بالمرء
إثما أن يضيع من يقيت ) . على من رواه هكذا , أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال
وغيره ; ذكره ابن عطية . يقول منه : قته أقوته قوتا , وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت
ومقيت . وحكى الكسائي : أقات يقيت . وأما قول الشاعر : .. . إني على الحساب مقيت فقال
فيه الطبري : إنه من غير هذا المعنى المتقدم , وإنه بمعنى الموقوف . وقال أبو عبيدة
: المقيت الحافظ . وقال الكسائي : المقيت المقتدر . وقال النحاس : وقول أبي عبيدة
أولى لأنه مشتق من القوت , والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان . وقال الفراء :
المقيت الذي يعطي كل رجل قوته . وجاء في الحديث : ( كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت
) و { يقيت { ذكره الثعلبي : وحكى ابن فارس في المجمل : المقيت المقتدر , والمقيت
الحافظ والشاهد , وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة . والله أعلم .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا من اليهود والنصارى ومن المشركين
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ والجحيم النار الشديدة الاتقاد . يقال : جحم فلان
النار إذا شدد إيقادها , ويقال أيضا لعين الأسد : جحمة ; لشدة اتقادها , ويقال ذلك
للحرب قال الشاعر : والحرب لا يبقى لجا حمها التخيل والمراح إلا الفتى الصبار في
النجدات والفرس الوقاح .
اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ابتداء وخبر . واللام في قول }
ليجمعنكم { لام القسم ; نزلت في الذين شكوا في البعث فأقسم الله تعالى بنفسه . وكل
لام بعدها نون مشددة فهو لام القسم . ومعناه في الموت وتحت الأرض إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وقال بعضهم : { إلى { صلة في الكلام , معناه
ليجمعنكم يوم القيامة . وسميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون فيه لرب العالمين جل
وعز ; قال الله تعالى : { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم . يوم يقوم الناس
لرب العالمين } [ المطففين : 4 - 6 ] . وقيل : سمي يوم القيامة لأن الناس يقومون من
قبورهم إليها ; قال الله تعالى : { يوم يخرجون من الأجداث سراعا } [ المعارج : 43 ]
وأصل القيامة الواو . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا نصب على البيان ,
والمعنى لا أحد أصدق من الله . وقرأ حمزة والكسائي { ومن أزدق { بالزاي . الباقون :
بالصاد , وأصله الصاد إلا أن لقرب مخرجها جعل مكانها زاي .
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا
كَسَبُوا { فئتين { أي فرقتين مختلفتين . روى مسلم عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله
عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كان معه , فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
فيهم فرقتين ; فقال بعضهم : نقتلهم . وقال بعضهم : لا ; فنزلت { فما لكم في
المنافقين فئتين } . وأخرجه الترمذي فزاد : وقال : ( إنها طيبة ) وقال : ( إنها تنفي
الخبيث كما تنفي النار خبث الحديد ) قال : حديث حسن صحيح . وقال البخاري : ( إنها
طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة ) . والمعنى بالمنافقين هنا عبد الله بن
أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد
أن خرجوا ; كما تقدم في { آل عمران } . وقال ابن عباس : هم قوم بمكة آمنوا وتركوا
الهجرة , قال الضحاك : وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفنا , وإن
ظهر قومنا فهو أحب إلينا . فصار المسلمون فيهم فئتين قوم يتولونهم وقوم يتبرءون منهم
; فقال الله عز وجل : { فما لكم في المنافقين فئتين } . وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن
عن أبيه أنها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة وأظهروا الإسلام ; فأصابهم وباء
المدينة وحماها ; فأركسوا فخرجوا من المدينة , فاستقبلهم نفر من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم فقالوا : ما لكم رجعتم ؟ فقالوا : أصابنا وباء المدينة فاجتويناها ;
فقالوا : ما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ؟ فقال بعضهم : نافقوا . وقال
بعضهم : لم ينافقوا , هم مسلمون ; فأنزل الله عز وجل : { فما لكم في المنافقين
فئتين والله أركسهم بما كسبوا { الآية . حتى جاءوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون , ثم
ارتدوا بعد ذلك , فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع
لهم يتجرون فيها , فاختلف فيهم المؤمنون فقائل يقول : هم منافقون , وقائل يقول : هم
مؤمنون ; فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم . قلت : وهذان القولان
يعضدهما سياق آخر الآية من قوله تعالى : { حتى يهاجروا } [ النساء : 89 ] , والأول
أصح نقلا , وهو اختيار البخاري ومسلم والترمذي . و { فئتين { نصب على الحال ; كما
يقال : ما لك قائما ؟ عن الأخفش . وقال الكوفيون : هو خبر { ما لكم { كخبر كان وظننت
, وأجازوا إدخال الألف واللام فيه وحكى الفراء : { أركسهم , وركسهم { أي ردهم إلى
الكفر ونكسهم ; وقاله النضر بن شميل والكسائي : والركس والنكس قلب الشيء على رأسه ,
أو رد أوله على آخره , والمركوس المنكوس . وفي قراءة عبد الله وأبي رضي الله عنهما }
والله ركسهم } . وقال ابن رواحة : أركسوا في فتنة مظلمة كسواد الليل يتلوها فتن أي
نكسوا . وارتكس فلان في أمر كان نجا منه . والركوسية قوم بين النصارى والصابئين
. والراكس الثور وسط البدر والثيران حواليه حين الدياس . أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا
مَنْ أَضَلَّ اللهُ أي ترشدوه إلى الثواب بأن يحكم لهم بحكم المؤمنين . وَمَنْ
يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي طريقا إلى الهدى والرشد وطلب
الحجة . وفي هذا رد على القدرية وغيرهم القائلين بخلق هداهم وقد تقدم .
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً أي تمنوا أن تكونوا
كهم في الكفر والنفاق شرع سواء ; فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى
يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فأمر الله تعالى بالبراءة منهم فقال : { فلا
تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا } ; كما قال تعالى : { ما لكم من ولايتهم من شيء
حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] والهجرة أنواع : منها الهجرة إلى المدينة لنصرة
النبي صلى الله عليه وسلم , وكانت هذه واجبة أول الإسلام حتى قال : ( لا هجرة بعد
الفتح ) . وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات , وهجرة من
أسلم في دار الحرب فإنها واجبة . وهجرة المسلم ما حرم الله عليه ; كما قال صلى الله
عليه وسلم : ( والمهاجر من هجر ما حرم الله عليه ) . وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن
. وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم فلا يكلمون ولا يخالطون حتى يتوبوا ; كما
فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كعب وصاحبيه . فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ يقول : إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم . حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا عام في
الأماكن من حل وحرم . والله أعلم .
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ استثناء
أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف ; المعنى : فلا تقتلوا قوما
بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا . هذا
قول مجاهد وابن زيد وغيرهم , وهو أصح ما قيل في معنى الآية . قال أبو عبيد : يصلون
ينتسبون ; ومنه قول الأعشى : إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل وبكر سبتها والأنوف رواغم
يريد إذا انتسبت . قال المهدوي : وأنكره العلماء ; لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار
وقتلهم . وقال النحاس : وهذا غلط عظيم ; لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل
أحد بينه وبين المسلمين نسب , والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب
, وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ ; لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له }
براءة { وإنما نزلت { براءة { بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب . وقال معناه الطبري
. قلت : حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان ; أي إن المنتسب إلى أهل الأمان
آمن إذا أمن الكل منهم , لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة . واختلف في هؤلاء
الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ; فقيل : بنو مدلج . عن الحسن
: كان بينهم وبين قريش عقد , وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد
. وقال عكرمة : نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف
كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد . وقيل : خزاعة . وقال الضحاك عن ابن
عباس : أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة , كانوا
في الصلح والهدنة . في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل
الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين , على ما يأتي بيانه في { الأنفال
وبراءة { إن شاء الله تعالى . أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ
يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي ضاقت . وقال لبيد : أسهلت وانتصبت
كجذع منيفة جرداء يحصر دونها جرامها أي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة ; ومنه الحصر
في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم . والحصر الكتوم للسر ; قال جرير : ولقد تسقطني
الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنينا ومعنى { حصرت { قد حصرت فأضمرت قد ; قال
الفراء : وهو حال من المضمر المرفوع في { جاءوكم { كما تقول : جاء فلان ذهب عقله ,
أي قد ذهب عقله . وقيل : هو خبر بعد خبر قاله الزجاج . أي جاءوكم ثم أخبر فقال : "
حصرت صدورهم { فعلى هذا يكون { حصرت { بدلا من { جاءوكم { كما قيل : { حصرت { في
موضع خفض على النعت لقوم . وفي حرف أبي { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم
ميثاق حصرت صدورهم { ليس فيه { أو جاءوكم } . وقيل : تقديره أو جاءوكم رجالا أو قوما
حصرت صدورهم ; فهي صفة موصوف منصوب على الحال . وقرأ الحسن { أو جاءوكم حصرة صدورهم
{ نص على الحال , ويجوز رفعه على الابتداء والخبر . وحكى { أو جاءوكم حصرات صدورهم }
, ويجوز الرفع . وقال محمد بن يزيد : { حصرت صدورهم { هو دعاء عليهم ; كما تقول :
لعن الله الكافر ; وقاله المبرد . وضعفه بعض المفسرين وقال : هذا يقتضي ألا يقاتلوا
قومهم ; وذلك فاسد ; لأنهم كفار وقومهم كفار . وأجيب بأن معناه صحيح , فيكون عدم
القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم , وفي حق قومهم تحقيرا لهم . وقيل : { أو { بمعنى
الواو ; كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم
والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين . ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من
العهد , أو قالوا نسلم ولا نقاتل ; فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى
يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام . والأول أظهر . والله أعلم .{ أو يقاتلوا }
في موضع نصب ; أي عن أن يقاتلوكم . وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا تسليط الله
تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند
إذاعة المنكر وظهور المعاصي , وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى : { ولنبلونكم
حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } [ محمد : 31 ] , وإما تمحيصا
للذنوب كما قال تعالى : { وليمحص الله الذين آمنوا } [ آل عمران : 141 ] ولله أن
يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء . ووجه النظم والاتصال بما قبل أي
اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا , وإلا أن يتصلوا بمن بينكم
وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم , وإلا الذين جاءوكم قد حصرت
صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم .
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أعلم الله تعالى عباده أن الشيطان إنما
يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بيننا بسبب الخمر وغيره , فحذرنا منها , ونهانا عنها
. روي أن قبيلتين من الأنصار شربوا الخمر وانتشوا , فعبث بعضهم ببعض , فلما صحوا رأى
بعضهم في وجه بعض آثار ما فعلوا , وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن , فجعل بعضهم
يقول : لو كان أخي بي رحيما ما فعل بي هذا , فحدثت بينهم الضغائن ; فأنزل الله : "
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء { الآية . وَيَصُدَّكُمْ عَنْ
ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ يقول : إذا سكرتم لم تذكروا الله ولم تصلوا , وإن
صليتم خلط عليكم كما فعل بعلي , وروي : بعبد الرحمن كما تقدم في { النساء } , وقال
عبيد الله بن عمر : سئل القاسم بن محمد عن الشطرنج أهي ميسر ؟ وعن النرد أهو ميسر ؟
فقال : كل ما صد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر . قال أبو عبيد : تأول قوله تعالى
: { ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } . فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لما علم عمر
رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى انتهوا قال : انتهينا , وأمر النبي
صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة , ألا إن الخمر قد حرمت ; فكسرت
الدنان , وأريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً هذه آية من أمهات
الأحكام . والمعنى ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ; فقوله : { وما كان { ليس
على النفي وإنما هو على التحريم والنهي , كقوله : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله
" [ الأحزاب : 53 ] ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا قط ; لأن ما نفاه
الله فلا يجوز وجوده , كقوله تعالى : { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } [ النمل : 60
] . فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها أبدا . وقال قتادة : المعنى ما كان له ذلك في
عهد الله . وقيل : ما كان له ذلك فيما سلف , كما ليس له الآن ذلك بوجه , ثم استثنى
استثناء منقطعا ليس من الأول وهو الذي يكون فيه { إلا { بمعنى { لكن { والتقدير ما
كان له أن يقتله ألبتة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا ; هذا قول سيبويه والزجاج رحمهما
الله . ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى : { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } [
النساء : 157 ] : وقال النابغة : وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع
من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد فلما لم تكن }
الأواري { من جنس أحد حقيقة لم تدخل في لفظه . ومثله قول الآخر : أمسى سقام خلاء لا
أنيس به إلا السباع ومر الريح بالغرف وقال آخر : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير
وإلا العيس وقال آخر : وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ولا ظل إلا أن تعد من النخل
أنشده سيبويه ; ومثله كثير , ومن أبدعه قول جرير : من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ
على الأرض إلا ذيل مرط مرحل كأنه قال : لم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد
. ونزلت الآية بسبب قتل عياش بن أبي ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة
كانت بينهما , فلما هاجر الحارث مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه , فلما
أخبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله , إنه قد كان من أمري وأمر
الحارث ما قد علمت , ولم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية . وقيل : هو استثناء
متصل , أي وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ولا يقتص منه إلا أن يكون خطأ ; فلا يقتص
منه ; ولكن فيه كذا وكذا . ووجه آخر وهو أن يقدر كان بمعنى استقر ووجد ; كأنه قال :
وما وجد وما تقرر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانا ;
فيجيء الاستثناء على هذين التأويلين غير منقطع . وتتضمن الآية على هذا إعظام العمد
وبشاعة شأنه ; كما تقول : ما كان لك يا فلان أن تتكلم بهذا إلا ناسيا ؟ إعظاما
للعمد والقصد مع حظر الكلام به ألبتة . وقيل : المعنى ولا خطأ . قال النحاس : ولا
يجوز أن تكون { إلا { بمعنى الواو , ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في المعنى
; لأن الخطأ لا يحظر . ولا يفهم من دليل خطابه جواز قتل الكافر المسلم فإن المسلم
محترم الدم , وإنما خص المؤمن بالذكر تأكيدا لحنانه وأخوته وشفقته وعقيدته . وقرأ
الأعمش { خطاء { ممدودا في المواضع الثلاثة . ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى يربطها عدم
القصد ; مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلما . أو يسعى بين يديه من يستحق القتل
من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ . أو يرمي
إلى غرض فيصيب إنسانا أو ما جرى مجراه ; وهذا مما لا خلاف فيه . والخطأ اسم من أخطأ
خطأ وإخطاء إذا لم يصنع عن تعمد ; فالخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء . ويقال لمن أراد
شيئا ففعل غيره : أخطأ , ولمن فعل غير الصواب : أخطأ . قال ابن المنذر : قال الله
تبارك وتعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ { إلى قوله تعالى : { ودية
مسلمة إلى أهله { فحكم الله جل ثناؤه في المؤمن يقتل خطأ بالدية , وثبتت السنة
الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأجمع أهل العلم على القول به .
ذهب داود إلى القصاص بين الحر والعبد في النفس , وفي كل ما يستطاع القصاص فيه من
الأعضاء ; تمسكا بقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [ المائدة :
45 ] إلى قوله تعالى : { والجروح قصاص } [ المائدة : 45 ] , وقوله عليه السلام : (
المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم يفرق بين حر وعبد ; وهو قول ابن أبي ليلى . وقال أبو
حنيفة وأصحابه : لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في النفس فيقتل الحر بالعبد , كما
يقتل العبد بالحر , ولا قصاص بينهما في شيء من الجراح والأعضاء . وأجمع العلماء على
أن قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ { أنه لم يدخل فيه العبيد ,
وإنما أريد به الأحرار دون العبيد ; فكذلك قوله عليه السلام : ( المسلمون تتكافأ
دماؤهم ) أريد به الأحرار خاصة . والجمهور على ذلك وإذا لم يكن قصاص بين العبيد
والأحرار فيما دون النفس فالنفس أحرى بذلك ; وقد مضى هذا في { البقرة } . وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعليه تحرير رقبة ;
هذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار أيضا على ما يأتي
. واختلف العلماء فيما يجزئ منها , فقال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة
وغيرهم : الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الإيمان , لا تجزئ في ذلك الصغيرة , وهو
الصحيح في هذا الباب قال عطاء بن أبي رباح : يجزئ الصغير المولود بين مسلمين . وقال
جماعة منهم مالك والشافعي : يجزئ كل من حكم له بحكم في الصلاة عليه إن مات ودفنه
. وقال مالك : من صلى وصام أحب إلي . ولا يجزئ في قول كافة العلماء أعمى ولا مقعد ولا
مقطوع اليدين أو الرجلين ولا أشلهما , ويجزئ عند أكثرهم الأعرج والأعور . قال مالك :
إلا أن يكون عرجا شديدا . ولا يجزئ عند مالك والشافعي وأكثر العلماء أقطع إحدى
اليدين أو إحدى الرجلين , ويجزئ عند أبي حنيفة وأصحابه . ولا يجزئ عند أكثرهم
المجنون المطبق ولا يجزئ عند مالك الذي يجن ويفيق , ويجزئ عند الشافعي . ولا يجزئ
عند مالك المعتق إلى سنين , ويجزئ عند الشافعي . ولا يجزئ المدبر عند مالك والأوزاعي
وأصحاب الرأي , ويجزئ في قول الشافعي وأبي ثور , واختاره ابن المنذر . وقال مالك :
لا يصح من أعتق بعضه ; لقوله تعالى : { فتحرير رقبة } . ومن أعتق البعض لا يقال حرر
رقبة وإنما حرر بعضها . واختلفوا أيضا في معناها فقيل : أوجبت تمحيصا وطهورا لذنب
القاتل , وذنبه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم . وقيل :
أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل , فإنه كان له في نفسه حق وهو
التنعم بالحياة والتصرف فيما أحل له تصرف الأحياء . وكان لله سبحانه فيه حق , وهو
أنه كان عبدا من عباده يجب له من أمر العبودية صغيرا كان أو كبيرا حرا كان أو عبدا
مسلما كان أو ذميا ما يتميز به عن البهائم والدواب , ويرتجى مع ذلك أن يكون من نسله
من يعبد الله ويطيعه , فلم يخل قاتله من أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا ,
والمعنى الذي وصفنا , فلذلك ضمن الكفارة . وأي واحد من هذين المعنيين كان , ففيه
بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ فالقاتل عمدا مثله , بل أولى بوجوب الكفارة
عليه منه , على ما يأتي بيانه , والله أعلم . وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
فيها سبع مسائل الأولى : الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه .{ مسلمة }
مدفوعة مؤداة , ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدية , وإنما في الآية إيجاب
الدية مطلقا , وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل , وإنما أخذ ذلك من
السنة , ولا شك أن إيجاب المواساة على العاقلة خلاف قياس الأصول في الغرامات وضمان
المتلفات , والذي وجب على العاقلة لم يجب تغليظا , ولا أن وزر القاتل عليهم ولكنه
مواساة محضة . واعتقد أبو حنيفة أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل ديوانه . وثبتت
الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل , ووداها صلى
الله عليه وسلم في عبد الله بن سهل المقتول بخيبر لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن , فكان
ذلك بيانا على لسان نبيه عليه السلام لمجمل كتابه . وأجمع أهل العلم على أن على أهل
الإبل مائة من الإبل واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل ; فقالت طائفة : على أهل
الذهب ألف دينار , وهم أهل الشام ومصر والمغرب ; هذا قول مالك وأحمد وإسحاق وأصحاب
الرأي والشافعي في أحد قوليه , في القديم . وروي هذا عن عمر وعروة بن الزبير وقتادة
. وأما أهل الورق فاثنا عشر ألف درهم , وهم أهل العراق وفارس وخراسان ; هذا مذهب
مالك على ما بلغه عن عمر أنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف
دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم . وقال المزني : قال الشافعي الدية الإبل ;
فإن أعوزت فقيمتها بالدراهم والدنانير على ما قومها عمر ألف دينار على أهل الذهب
واثنا عشر ألف درهم على أهل الورق . وقال أبو حنيفة أصحابه والثوري : الدية من الورق
عشرة آلاف درهم . رواه الشعبي عن عبيدة عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف
دينار , وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم , وعلى أهل البقر مائتي بقرة , وعلى أهل
الشاء ألف شاة , وعلى أهل الإبل مائة من الإبل , وعلى أهل الحلل مائتي حلة . قال أبو
عمر : في هذا الحديث ما يدل على أن الدنانير والدراهم صنف من أصناف الدية لا على
وجه البدل والقيمة ; وهو الظاهر من الحديث عن عثمان وعلي وابن عباس . وخالف أبو
حنيفة ما رواه عن عمر في البقر والشاء والحلل . وبه قال عطاء وطاوس وطائفة من
التابعين , وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين . قال ابن المنذر : وقالت طائفة : دية
الحر المسلم مائة من الإبل لا دية غيرها كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذا
قول الشافعي وبه قال طاوس . قال ابن المنذر : دية الحر المسلم مائة من الإبل في كل
زمان , كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلفت الروايات عن عمر رضي الله
عنه في أعداد الدراهم وما منها شيء يصح عنه لأنها مراسيل , وقد عرفتك مذهب الشافعي
وبه نقول . الثانية : واختلف الفقهاء في أسنان دية الإبل ; فروى أبو داود من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ
فديته مائة من الإبل : ثلاثون بنت مخاض , وثلاثون بنت لبون , وثلاثون حقة , وعشر
بني لبون . قال الخطابي : هذا الحديث لا أعرف أحدا قال به من الفقهاء , وإنما قال
أكثر العلماء : دية الخطأ أخماس . كذا قال أصحاب الرأي والثوري , وكذلك مالك وابن
سيرين وأحمد بن حنبل إلا أنهم اختلفوا في الأصناف ; قال أصحاب الرأي وأحمد : خمس
بنو مخاض , وخمس بنات مخاض , وخمس بنات لبون , وخمس حقاق , وخمس جذاع . وروي هذا
القول عن ابن مسعود . وقال مالك والشافعي : خمس حقاق , وخمس جذاع , وخمس بنات لبون ,
وخمس بنات مخاض , وخمس بنو لبون . وحكي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن
يسار والزهري وربيعة والليث بن سعد . قال الخطابي : ولأصحاب الرأي فيه أثر , إلا أن
راويه عبد الله بن خشف بن مالك وهو مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث . وعدل الشافعي عن
القول به . لما ذكرنا من العلة في راويه , ولأن فيه بني مخاض ولا مدخل لبني مخاض في
شيء من أسنان الصدقات . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة القسامة أنه ودى
قتيل خيبر مائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض . قال أبو عمر : وقد
روى زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا , إلا أن هذا لم يرفعه إلا خشف بن مالك الكوفي
الطائي وهو مجهول ; لأنه لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الطائي الجشمي من بني
جشم بن معاوية أحد ثقات الكوفيين . قلت : قد ذكر الدارقطني في سننه حديث خشف بن
مالك من رواية حجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود
قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ مائة من الإبل ; منها عشرون
حقة , وعشرون جذعة , وعشرون بنات لبون , وعشرون بنات مخاض , وعشرون بني مخاض . قال
الدارقطني : { هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث من وجوه عدة ; أحدها
أنه مخالف لما رواه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه بالسند الصحيح عنه ,
الذي لا مطعن فيه ولا تأويل عليه , وأبو عبيدة أعلم بحديث أبيه وبمذهبه وفتياه من
خشف بن مالك ونظرائه , وعبد الله بن مسعود أتقى لربه وأشح على دينه من أن يروي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقضي بقضاء ويفتي هو بخلافه ; هذا لا يتوهم مثله
على عبد الله بن مسعود وهو القائل في مسألة وردت عليه لم يسمع فيها من رسول الله
صلى الله عليه وسلم شيئا ولم يبلغه عنه فيها قول : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا
فمن الله ورسوله , وإن يكن خطأ فمني ; ثم بلغه بعد ذلك أن فتياه فيها وافق قضاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثلها , فرآه أصحابه عند ذلك فرح فرحا شديدا لم
يروه فرح مثله , لموافقة فتياه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . فمن كانت هذه
صفته وهذا حاله فكيف يصح عنه أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ويخالفه
. ووجه آخر : وهو أن الخبر المرفوع الذي فيه ذكر بني المخاض لا نعلمه رواه إلا خشف
بن مالك عن ابن مسعود وهو رجل مجهول لم يروه عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي
وأهل العلم بالحديث لا يحتجون بخبر ينفرد بروايته رجل غير معروف , وإنما يثبت العلم
عندهم بالخبر إذا كان راويه عدلا مشهورا , أو رجلا قد ارتفع عنه اسم الجهالة ,
وارتفاع اسم الجهالة عنه أن يروي عنه رجلان فصاعدا ; فإذا كانت هذه صفته ارتفع عنه
حينئذ اسم الجهالة , وصار حينئذ معروفا . فأما من لم يرو عنه إلا رجل واحد وانفرد
بخبر وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه عليه غيره . والله أعلم . ووجه آخر : وهو أن
حديث خشف بن مالك لا نعلم أحدا رواه عن زيد بن جبير عنه إلا الحجاج بن أرطأة ,
والحجاج رجل مشهور بالتدليس وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه ; وترك الرواية
عنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعيسى بن يونس بعد أن جالسوه وخبروه ,
وكفاك بهم علما بالرجل ونبلا . وقال يحيى بن معين : حجاج بن أرطأة لا يحتج بحديثه
. وقال عبد الله بن إدريس : سمعت الحجاج يقول لا ينبل الرجل حتى يدع الصلاة في
الجماعة . وقال عيسى بن يونس : سمعت الحجاج يقول : أخرج إلى الصلاة يزاحمني الحمالون
والبقالون . وقال جرير : سمعت الحجاج يقول : أهلكني حب المال والشرف . وذكر أوجها أخر
; منها أن جماعة من الثقات رووا هذا الحديث عن الحجاج بن أرطأة فاختلفوا عليه فيه
. إلى غير ذلك مما يطول ذكره ; وفيما ذكرناه مما ذكروه كفاية ودلالة على ضعف ما ذهب
إليه الكوفيون في الدية , وإن كان ابن المنذر مع جلالته قد اختاره على ما يأتي
. وروى حماد بن سلمة حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة أن ابن مسعود قال
: دية الخطأ خمسة أخماس عشرون حقة , وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض , وعشرون بنات
لبون وعشرون بني لبون ذكور . قال الدارقطني : هذا إسناد حسن ورواته ثقات , وقد روي
عن علقمة عن عبد الله نحو هذا . قلت : وهذا هو مذهب مالك والشافعي أن الدية تكون
مخمسة . قال الخطابي : وقد روي عن نفر من العلماء أنهم قالوا دية الخطأ أرباع ; وهم
الشعبي والنخعي والحسن البصري , وإليه ذهب إسحاق بن راهويه ; إلا أنهم قالوا : خمس
وعشرون جذعة وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض . وقد روي
ذلك عن علي بن أبي طالب . قال أبو عمر : أما قول مالك والشافعي فروي عن سليمان بن
يسار وليس فيه عن صحابي شيء ; ولكن عليه عمل أهل المدينة . وكذلك حكى ابن جريج عن
ابن شهاب . قلت : قد ذكرنا عن ابن مسعود ما يوافق ما صار إليه مالك والشافعي . قال
أبو عمر : وأسنان الإبل في الديات لم تؤخذ قياسا ولا نظرا , وإنما أخذت اتباعا
وتسليما , وما أخذ من جهة الأثر فلا مدخل فيه للنظر ; فكل يقول بما قد صح عنده من
سلفه ; رضي الله عنهم أجمعين . قلت : وأما ما حكاه الخطابي من أنه لا يعلم من قال
بحديث عمرو بن شعيب فقد حكاه ابن المنذر عن طاوس ومجاهد , إلا أن مجاهدا جعل مكان
بنت مخاض ثلاثين جذعة . قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول . يريد قول عبد الله
وأصحاب الرأي الذي ضعفه الدارقطني والخطابي , وابن عبد البر قال : لأنه الأقل مما
قيل ; وبحديث مرفوع رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم يوافق هذا القول . قلت :
وعجبا لابن المنذر ؟ مع نقده واجتهاده كيف قال بحديث لم يوافقه أهل النقد على صحته
! لكن الذهول والنسيان قد يعتري الإنسان , وإنما الكمال لعزة ذي الجلال . الثالثة :
ثبتت الأخبار عن النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على
العاقلة , وأجمع أهل العلم على القول به . وفي إجماع أهل العلم أن الدية في الخطأ
على العاقلة دليل على أن المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة حيث دخل
عليه ومعه ابنه : ( إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ) العمد دون الخطأ . وأجمعوا على
أن ما زاد على ثلث الدية على العاقلة . واختلفوا في الثلث ; والذي عليه جمهور
العلماء أن العاقلة لا تحمل عمدا ولا اعترافا ولا صلحا , ولا تحمل من دية الخطأ إلا
ما جاوز الثلث وما دون الثلث في مال الجاني . وقالت طائفة : عقل الخطأ على عاقلة
الجاني , قلت الجناية أو كثرت ; لأن من غرم الأكثر غرم الأقل . كما عقل العمد في مال
الجاني قل أو كثر ; هذا قول الشافعي . الرابعة : وحكمها أن تكون منجمة على العاقلة
, والعاقلة العصبة . وليس ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها من العاقلة . ولا الإخوة
من الأم بعصبة لإخوتهم من الأب والأم , فلا يعقلون عنهم شيئا . وكذلك الديوان لا
يكون عاقلة في قول جمهور أهل الحجاز . وقال الكوفيون : يكون عاقلة إن كان من أهل
الديوان ; فتنجم الدية على العاقلة في ثلاثه أعوام على ما قضاه عمر وعلي ; لأن
الإبل قد تكون حوامل فتضر به . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة
لأغراض ; منها أنه كان يعطيها صلحا وتسديدا . ومنها أنه كان يعجلها تأليفا . فلما
تمهد الإسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام ; قاله ابن العربي . وقال أبو عمر :
أجمع العلماء قديما وحديثا أن الدية على العاقلة لا تكون إلا في ثلاث سنين ولا تكون
في أقل منها . وأجمعوا على أنها على البالغين من الرجال . وأجمع أهل السير والعلم أن
الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الإسلام , وكانوا يتعاقلون بالنصرة ; ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك حتى جعل
الديوان . واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به . وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أبي بكر ديوان , وأن عمر جعل الديوان وجمع بين
الناس , وجعل أهل كل ناحية يدا , وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو . الخامسة :
قلت : ومما ينخرط في سلك هذا الباب ويدخل في نظامه قتل الجنين في بطن أمه ; وهو أن
يضرب بطن أمه فتلقيه حيا ثم يموت ; فقال كافة العلماء : فيه الدية كاملة في الخطأ
وفي العمد بعد القسامة . وقيل : بغير قسامة . واختلفوا فيما به تعلم حياته بعد
اتفاقهم على أنه إذا استهل صارخا أو ارتضع أو تنفس نفسا محققة حي , فيه الدية كاملة
; فإن تحرك فقال الشافعي وأبو حنيفة : الحركة تدل على حياته . وقال مالك : لا , إلا
أن يقارنها طول إقامة . والذكر والأنثى عند كافة العلماء في الحكم سواء . فإن ألقته
ميتا ففيه غرة : عبد أو وليدة . فإن لم تلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شيء فيه
. وهذا كله إجماع لا خلاف فيه . وروي عن الليث بن سعد وداود أنهما قالا في المرأة إذا
ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتا بعد موتها : ففيه الغرة , وسواء رمته قبل
موتها أو بعد موتها ; المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لا غير . وقال سائر الفقهاء :
لا شيء فيه إذا خرج ميتا من بطنها بعد موتها . قال الطحاوي محتجا لجماعة الفقهاء بأن
قال : قد أجمعوا والليث معهم على أنه لو ضرب بطنها وهي حية فماتت والجنين في بطنها
ولم يسقط أنه لا شيء فيه ; فكذلك إذا سقط بعد موتها . السادسة : ولا تكون الغرة إلا
بيضاء . قال أبو عمرو بن العلاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( في الجنين
غرة عبد أو أمة ) - لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى لقال :
في الجنين عبد أو أمة , ولكنه عنى البياض ; فلا يقبل في الدية إلا غلام أبيض أو
جارية بيضاء , لا يقبل فيها أسود ولا سوداء . واختلف العلماء في قيمتها ; فقال مالك
: تقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم ; نصف عشر دية الحر المسلم , وعشر دية أمه
الحرة ; وهو قول ابن شهاب وربيعة وسائر أهل المدينة . وقال أصحاب الرأي : قيمتها
خمسمائة درهم . وقال الشافعي : سن الغرة سبع سنين أو ثمان سنين ; وليس عليه أن
يقبلها معيبة . ومقتضى مذهب مالك أنه مخير بين إعطاء غرة أو عشر دية الأم , من الذهب
عشرون دينارا إن كانوا أهل ذهب , ومن الورق - إن كانوا أهل ورق - ستمائة درهم , أو
خمس فرائض من الإبل . قال مالك وأصحابه : هي في مال الجاني ; وهو قول الحسن بن حي
. وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما , هي على العاقلة . وهو أصح ; لحديث المغيرة بن
شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجلين من الأنصار - في رواية فتغايرتا - فضربت إحداهما
الأخرى بعمود فقتلتها , فاختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلان فقالا : ندي
من لا صاح ولا أكل , ولا شرب ولا استهل . فمثل ذلك يطل ! , فقال : ( أسجع كسجع
الأعراب ) ؟ فقضى فيه غرة وجعلها على عاقلة المرأة . وهو حديث ثابت صحيح , نص في
موضع الخلاف يوجب الحكم . ولما كانت دية المرأة المضروبة على العاقلة كان الجنين
كذلك في القياس والنظر . واحتج علماؤنا بقول الذي قضي عليه : كيف أغرم ؟ قالوا :
وهذا يدل على أن الذي قضي عليه معين وهو الجاني . ولو أن دية الجنين قضى بها على
العاقلة لقال : فقال الذي قضى عليهم . وفي القياس أن كل جان جنايته عليه , إلا ما
قام بخلافه الدليل الذي لا معارض له ; مثل إجماع لا يجوز خلافه , أو نص سنة من جهة
نقل الآحاد العدول لا معارض لها , فيجب الحكم بها , وقد قال الله تعالى : { ولا
تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] . السابعة : ولا
خلاف بين العلماء أن الجنين إذا خرج حيا فيه الكفارة مع الدية . واختلفوا في الكفارة
إذا خرج ميتا ; فقال مالك : فيه الغرة والكفارة . وقال أبو حنيفة والشافعي : فيه
الغرة ولا كفارة . واختلفوا في ميراث الغرة عن الجنين ; فقال مالك والشافعي
وأصحابهما : الغرة في الجنين موروثة عن الجنين على كتاب الله تعالى ; لأنها دية
. وقال أبو حنيفة وأصحابه : الغرة للأم وحدها ; لأنها جناية جني عليها بقطع عضو من
أعضائها وليست بدية . ومن الدليل على ذلك أنه لم يعتبر فيه الذكر والأنثى كما يلزم
في الديات , فدل على أن ذلك كالعضو . وكان ابن هرمز يقول : ديته لأبويه خاصة ; لأبيه
ثلثاها ولأمه ثلثها , من كان منهما حيا كان ذلك له , فإن كان أحدهما قد مات كانت
للباقي منهما أبا كان أو أما , ولا يرث الإخوة شيئا . إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا
أصله { أن يتصدقوا { فأدغمت التاء في الصاد . والتصدق الإعطاء ; يعني إلا أن يبرئ
الأولياء ورثة المقتول القاتلين مما أوجب لهم من الدية عليهم . فهو استثناء ليس من
الأول . وقرأ أبو عبد الرحمن ونبيح { إلا أن تصدقوا { بتخفيف الصاد والتاء . وكذلك
قرأ أبو عمرو , إلا أنه شدد الصاد . ويجوز على هذه القراءة حذف التاء الثانية , ولا
يجوز حذفها على قراءة الياء . وفي حرف أبي وابن مسعود { إلا أن يتصدقوا { وأما
الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم ; لأنه أتلف شخصا في عبادة الله
سبحانه , فعليه أن يخلص آخر لعبادة ربه وإنما تسقط الدية التي هي حق لهم . وتجب
الكفارة في مال الجاني ولا تتحمل . فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ هذه مسألة المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو
في حروبهم على أنه من الكفار . والمعنى عند ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة ومجاهد
والنخعي : فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد أمن وبقي في قومه وهم كفرة { عدو لكم
{ فلا دية فيه ; وإنما كفارته تحرير الرقبة . وهو المشهور من قول مالك , وبه قال أبو
حنيفة . وسقطت الدية لوجهين : أحدهما : أن أولياء القتيل كفار فلا يصح أن تدفع إليهم
فيتقووا بها . والثاني : أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة , فلا دية ; لقوله
تعالى : { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [
الأنفال : 72 ] . وقالت طائفة : بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط ;
فسواء كان القتل خطأ بين أظهر المسلمين أو بين قومه ولم يهاجر أو هاجر ثم رجع إلى
قومه كفارته التحرير ولا دية فيه , إذ لا يصح دفعها إلى الكفار , ولو وجبت الدية
لوجبت لبيت المال على بيت المال ; فلا تجب الدية في هذا الموضع وإن جرى القتل في
بلاد الإسلام . هذا قول الشافعي وبه قال الأوزاعي والثوري وأبو ثور . وعلى القول
الأول إن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب ففيه الدية لبيت المال والكفارة
. قلت : ومن هذا الباب ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال : بعثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال : لا إله إلا الله ;
فطعنته فوقع في نفسي من ذلك , فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( أقال لا إله إلا الله وقتلته ) ! قال : قلت يا رسول الله , إنما
قالها خوفا من السلاح ; قال : ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟ ) . فلم
يحكم عليه صلى الله عليه وسلم بقصاص ولا دية . وروي عن أسامة أنه قال : إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ثلاث مرات , وقال : ( أعتق رقبة ) ولم يحكم بقصاص
ولا دية . فقال علماؤنا : أما سقوط القصاص فواضح إذ لم يكن القتل عدوانا ; وأما سقوط
الدية فلأوجه ثلاثة : الأول : لأنه كان أذن له في أصل القتال فكان عنه إتلاف نفس
محترمة غلطا كالخاتن والطبيب . الثاني : لكونه من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين
تكون له ديته ; لقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم { كما ذكرنا . الثالث : أن
أسامة اعترف بالقتل ولم تقم بذلك بينة ولا تعقل العاقلة اعترافا , ولعل أسامة لم
يكن له مال تكون فيه الدية . والله أعلم . وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة ; قاله ابن عباس
والشعبي والنخعي والشافعي . واختاره الطبري قال : إلا أن الله سبحانه وتعالى أبهمه
ولم يقل وهو مؤمن , كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب . وإطلاقه ما قيد
قبل يدل على أنه خلافه . وقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا : المعنى وإن كان
المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم , فكفارته
التحرير وأداء الدية . وقرأها الحسن : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن
" . قال الحسن : إذا قتل المسلم الذمي فلا كفارة عليه . قال أبو عمر : وأما الآية
فمعناها عند أهل الحجاز مردود على قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ }
ثم قال تعالى : { وإن كان من قوم { يريد ذلك المؤمن . والله أعلم . قال ابن العربي :
والذي عندي أن الجملة محمولة حمل المطلق على المقيد . قلت : وهذا معنى ما قال الحسن
وحكاه أبو عمر عن أهل الحجاز . وقوله { فدية مسلمة { على لفظ النكرة ليس يقتضي دية
بعينها . وقيل : هذا في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد على
أن يسلموا أو يؤذنوا بحرب إلى أجل معلوم : فمن قتل منهم وجبت فيه الدية والكفارة ثم
نسخ بقوله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } [ التوبة
: 1 ] . الرابعة عشرة : وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ;
قال أبو عمر : إنما صارت ديتها - والله أعلم - على النصف من دية الرجل من أجل أن
لها نصف ميراث الرجل , وشهادة امرأتين بشهادة رجل . وهذا إنما هو في دية الخطأ ,
وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل : { النفس بالنفس } [
المائدة : 45 ] . و { الحر بالحر { كما تقدم في { البقرة } . روى الدارقطني من حديث
موسى بن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت أبي يقول إن أعمى كان ينشد في الموسم في
خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول : يا أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل
الأعمى الصحيح المبصرا خرا معا كلاهما تكسرا وذلك أن الأعمى كان يقوده بصير فوقعا
في بئر , فوقع الأعمى على البصير فمات البصير ; فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى
. وقد اختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما ; فروي عن ابن الزبير : يضمن
الأعلى الأسفل , ولا يضمن الأسفل الأعلى . وهذا قول شريح والنخعي وأحمد وإسحاق . وقال
مالك في رجلين جر أحدهما صاحبه حتى سقطا وماتا : على عاقلة الذي جبذه الدية . قال
أبو عمر : ما أظن في هذا خلافا - والله أعلم - إلا ما قال بعض المتأخرين من أصحابنا
وأصحاب الشافعي : يضمن نصف الدية ; لأنه مات من فعله , ومن سقوط الساقط عليه . وقال
الحكم وابن شبرمة : إن سقط رجل على رجل من فوق بيت فمات أحدهما , قالا : يضمن الحي
منهما . وقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا , قال : دية المصدوم على
عاقلة الصادم , ودية الصادم هدر . وقال في الفارسين إذا اصطدما فماتا : على كل واحد
منهما نصف دية صاحبه ; لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه ; وقال عثمان
البتي وزفر . وقال مالك والأوزاعي والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه في الفارسين
يصطدمان فيموتان : على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته . قال ابن خويز منداد :
وكذلك عندنا السفينتان تصطدمان إذا لم يكن النوتي صرف السفينة ولا الفارس صرف الفرس
. وروي عن مالك في السفينتين والفارسين . على كل واحد منهما الضمان لقيمة ما أتلف
لصاحبه كاملا . واختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب ; فقال مالك
وأصحابه : هي على النصف من دية المسلم , ودية المجوسي ثمانمائة درهم , ودية نسائهم
على النصف من ذلك . روي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وعمرو بن
شعيب وقال به أحمد بن حنبل . وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال , عن عبد الرحمن
بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة , عن عمرو بن شعيب , عن أبيه , عن جده أن النبي صلى
الله عليه وسلم جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم . وعبد الرحمن
هذا قد روى عنه الثوري أيضا . وقال ابن عباس والشعبي والنخعي : المقتول من أهل العهد
خطأ لا تبالي مؤمنا كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم ; وهو قول أبي
حنيفة والثوري وعثمان البتي والحسن بن حي ; جعلوا الديات كلها سواء , المسلم
واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي , وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن
المسيب . وحجتهم قوله تعالى : { فدية { وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم . وعضدوا
هذا بما رواه محمد بن إسحاق , عن داود بن الحصين , عن عكرمة , عن ابن عباس في قصة
بني قريظة والنضير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء دية كاملة . قال
أبو عمر : هذا حديث فيه لين وليس في مثله حجة . وقال الشافعي : دية اليهودي
والنصراني ثلث دية المسلم , ودية المجوسي ثمانمائة درهم ; وحجته أن ذلك أقل ما قيل
في ذلك , والذمة بريئة إلا بيقين أو حجة . وروي هذا القول عن عمر وعثمان , وبه قال
ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وأبو ثور وإسحاق . فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها . فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام
شهرين . مُتَتَابِعَيْنِ حتى لو أفطر يوما استأنف ; هذا قول الجمهور . وقال مكي عن
الشعبي : إن صيام الشهرين يجزئ عن الدية والعتق لمن لم يجد . قال ابن عطية : وهذا
القول وهم ; لأن الدية إنما هي على العاقلة وليست على القاتل . والطبري حكى هذا
القول عن مسروق . والحيض لا يمنع التتابع من غير خلاف , وإنها إذا طهرت ولم تؤخر
وصلت باقي صيامها بما سلف منه , لا شيء عليها غير ذلك إلا أن تكون طاهرا قبل الفجر
فتترك صيام ذلك اليوم عالمة بطهرها , فإن فعلت استأنفت عند جماعة من العلماء ; قاله
أبو عمر . واختلفوا في المريض الذي قد صام من شهري التتابع بعضها على قولين ; فقال
مالك : وليس لأحد وجب عليه صيام شهرين متتابعين في كتاب الله تعالى أن يفطر إلا من
عذر أو مرض أو حيض , وليس له أن يسافر فيفطر . وممن قال يبني في المرض سعيد بن
المسيب وسليمان بن يسار والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة وطاوس . وقال سعيد بن
جبير والنخعي والحكم بن عيينة وعطاء الخراساني : يستأنف في المرض ; وهو قول أبي
حنيفة وأصحابه والحسن بن حي ; وأحد قولي الشافعي ; وله قول آخر : أنه يبني كما قال
مالك . وقال ابن شبرمة : يقضي ذلك اليوم وحده إن كان عذر غالب , كصوم رمضان . قال أبو
عمر : حجة من قال يبني لأنه معذور في قطع التتابع لمرضه ولم يتعمد , وقد تجاوز الله
عن غير المتعمد . وحجة من قال يستأنف لأن التتابع فرض لا يسقط لعذر , وإنما يسقط
المأثم ; قياسا على الصلاة ; لأنها ركعات متتابعات فإذا قطعها عذرا استأنف ولم يبن
. تَوْبَةً مِنَ اللهِ نصب على المصدر , ومعناه رجوعا . وإنما مست حاجة المخطئ إلى
التوبة لأنه لم يتحرز وكان من حقه أن يتحفظ . وقيل : أي فليأت بالصيام تخفيفا من
الله تعالى عليه بقبول الصوم بدلا عن الرقبة ; ومنه قوله تعالى : { علم الله أنكم
كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم } [ البقرة : 187 ] أي خفف , وقوله تعالى : { علم
أن لن تحصوه فتاب عليكم } [ المزمل : 20 ] . وَكَانَ اللهُ أي في أزله وأبده .
عَلِيمًا بجميع المعلومات حَكِيمًا فيما حكم وأبرم .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا فيه سبع
مسائل : الأولى : قوله تعالى : { ومن يقتل }{ من { شرط , وجوابه { فجزاؤه { وسيأتي
. واختلف العلماء في صفة المتعمد في القتل ; فقال عطاء والنخعي وغيرهما : هو من قتل
بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المشحوذ المعد للقطع أو بما يعلم أن
فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها . وقالت فرقة : المتعمد كل من قتل بحديدة كان
القتل أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك , وهذا قول الجمهور . الثانية : ذكر الله عز وجل
في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد وقد اختلف العلماء في القول به , فقال
ابن المنذر : أنكر ذلك مالك , وقال : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ . وذكره
الخطابي أيضا عن مالك وزاد : وأما شبه العمد فلا نعرفه . قال أبو عمر : أنكر مالك
والليث بن سعد شبه العمد ; فمن قتل عندهما بما لا يقتل مثله غالبا كالعضة واللطمة
وضربة السوط والقضيب وشبه ذلك فإنه عمد وفيه القود . قال أبو عمر : وقال بقولهما
جماعة من الصحابة والتابعين . وذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن هذا كله شبه العمد
. وقد ذكر عن مالك وقاله ابن وهب وجماعة من الصحابة والتابعين . قال ابن المنذر :
وشبه العمد يعمل به عندنا . وممن أثبت شبه العمد الشعبي والحكم وحماد والنخعي وقتادة
وسفيان الثوري وأهل العراق والشافعي , وروينا ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي
طالب رضي الله عنهما . قلت : وهو الصحيح ; فإن الدماء أحق ما احتيط لها إذ الأصل
صيانتها في أهبها , فلا تستباح إلا بأمرين لا إشكال فيه , وهذا فيه إشكال ; لأنه
لما كان مترددا بين العمد والخطأ حكم له بشبه العمد ; فالضرب مقصود والقتل غير
مقصود , وإنما وقع بغير القصد فيسقط القود وتغلظ الدية . وبمثل هذا جاءت السنة ; روى
أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا إن
دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها
أولادها ) . وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
العمد قود اليد والخطأ عقل لا قود فيه ومن قتل في عمية بحجر أو عصا أو سوط فهو دية
مغلظة في أسنان الإبل ) . وروي أيضا من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عقل شبه العمد مغلظ مثل قتل
العمد ولا يقتل صاحبه ) . وهذا نص . وقال طاوس في الرجل يصاب في ماء الرميا في القتال
بالعصا أو السوط أو الترامي بالحجارة يودى ولا يقتل به من أجل أنه لا يدرى , من
قاتله . وقال أحمد بن حنبل : العميا هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه
. وقال إسحاق : هذا في تحارج القوم وقتل بعضهم بعضا . فكأن أصله من التعمية وهو
التلبيس ; ذكره الدارقطني . مسألة : واختلف القائلون بشبه العمد في الدية المغلظة ,
فقال عطاء والشافعي : هي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة . وقد روي هذا القول
عن عمر وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري ; وهو مذهب مالك حيث يقول
بشبه العمد , ومشهور مذهبه أنه لم يقل به إلا في مثل قصة المدلجي بابنه حيث ضربه
بالسيف . وقيل : هي مربعة ربع بنات لبون , وربع حقاق , وربع جذاع , وربع بنات مخاض
. هذا قول النعمان ويعقوب ; وذكره أبو داود عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة
عن علي . وقيل : هي مخمسة : عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون
حقة وعشرون جذعة ; هذا قول أبي ثور . وقيل : أربعون جذعة إلى بازل عامها وثلاثون حقة
, وثلاثون بنات لبون . وروي عن عثمان بن عفان وبه قال الحسن البصري وطاوس والزهري
. وقيل : أربع وثلاثون خلفة إلى بازل عامها , وثلاث وثلاثون حقة , وثلاث وثلاثون
جذعة ; وبه قال الشعبي والنخعي , وذكره أبو داود عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن
عاصم بن ضمرة عن علي . الثالثة : واختلفوا فيمن تلزمه دية شبه العمد ; فقال الحارث
العكلي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وقتادة وأبو ثور : هو عليه في ماله . وقال الشعبي
والنخعي والحكم والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : هو على العاقلة . قال
ابن المنذر : قول الشعبي أصح ; لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل
دية الجنين على عاقلة الضاربة . الرابعة : أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل دية
العمد وأنها في مال الجاني ; وقد تقدم ذكرها في { البقرة } . وقد أجمعوا على أن على
القاتل خطأ الكفارة ; واختلفوا فيها في قتل العمد ; فكان مالك والشافعي يريان على
قاتل العمد الكفارة كما في الخطأ . قال الشافعي : إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن
تجب في العمد أولى . وقال : إذا شرع السجود في السهو فلأن يشرع في العمد أولى , وليس
ما ذكره الله تعالى في كفارة العمد بمسقط ما قد وجب في الخطأ . وقد قيل : إن القاتل
عمدا إنما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل , فأما إذا قتل قودا فلا كفارة
عليه تؤخذ من ماله . وقيل تجب . ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله . وقال الثوري
وأبو ثور وأصحاب الرأي : لا تجب الكفارة إلا حيث أوجبها الله تعالى . قال ابن المنذر
: وكذلك نقول ; لأن الكفارات عبادات ولا يجوز التمثيل . وليس يجوز لأحد أن يفرض فرضا
يلزمه عباد الله إلا بكتاب أو سنة أو إجماع , وليس مع من فرض على القاتل عمدا كفارة
حجة من حيث ذكرت . الخامسة : واختلفوا في الجماعة يقتلون الرجل خطأ ; فقالت طائفة :
على كل واحد منهم الكفارة ; كذلك قال الحسن وعكرمة والنخعي والحارث العكلي ومالك
والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : عليهم كلهم
كفارة واحدة ; هكذا قال أبو ثور , وحكي ذلك عن الأوزاعي . وفرق الزهري بين العتق
والصوم ; فقال في الجماعة يرمون بالمنجنيق فيقتلون رجلا : عليهم كلهم عتق رقبة ,
وإن كانوا لا يجدون فعلى كل واحد منهم صوم شهرين متتابعين . السادسة : روى النسائي
: أخبرنا الحسن بن إسحاق المروزي - ثقة قال : حدثنا خالد بن خداش قال : حدثنا حاتم
بن إسماعيل عن بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ( قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) . وروي عن عبد
الله قال : قال رسول الله : ( أول ما يحاسب به العبد الصلاة وأول ما يقضى بين الناس
في الدماء ) . وروى إسماعيل بن إسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس
أنه سأل سائل فقال : يا أبا العباس , هل للقاتل توبة ؟ فقال له ابن عباس كالمتعجب
من مسألته : ماذا تقول ! مرتين أو ثلاثا . ثم قال ابن عباس : ويحك ! أنى له توبة !
سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : ( يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا
قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى رب
هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به إلى النار ) . وعن الحسن قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما نازلت ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم
يجبني ) . السابعة : واختلف العلماء في قاتل العمد هل له من توبة ؟ فروى البخاري عن
سعد بن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة , فرحلت فيها إلى ابن عباس , فسألته عنها
فقال : نزلت هذه الآية { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم { هي آخر ما نزل وما
نسخها شيء . وروى النسائي عنه قال : سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة
؟ قال : لا . وقرأت عليه الآية التي في الفرقان : { والذين لا يدعون مع الله إلها
آخر } [ الفرقان : 68 ] قال : هذه آية مكية نسختها آية مدنية { ومن يقتل مؤمنا
متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه } . وروي عن زيد بن ثابت نحوه , وإن
آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بستة أشهر , وفي رواية بثمانية أشهر ; ذكرهما
النسائي عن زيد بن ثابت . وإلى عموم هذه الآية مع هذه الأخبار عن زيد وابن عباس ذهبت
المعتزلة وقالوا : هذا مخصص عموم قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [
النساء : 48 ] ورأوا أن الوعيد نافذ حتما على كل قاتل ; فجمعوا بين الآيتين بأن
قالوا : التقدير ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إلا من قتل عمدا . وذهب جماعة من العلماء
منهم . عبد الله بن عمر - وهو أيضا مروي عن زيد وابن عباس - إلى أن له توبة . روى
يزيد بن هارون قال : أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال : جاء رجل إلى
ابن عباس فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة ؟ قال : لا , إلا النار ; قال : فلما ذهب
قال له جلساؤه : أهكذا كنت تفتينا ؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة ; قال : إني
لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا . قال : فبعثوا في إثره فوجدوه كذلك . وهذا
مذهب أهل السنة وهو الصحيح , وإن هذه الآية مخصوصة , ودليل التخصيص آيات وأخبار
. وقد أجمعوا على أن الآية نزلت في مقيس بن صبابة ; وذلك أنه كان قد أسلم هو وأخوه
هشام بن صبابة ; فوجد هشاما قتيلا في بني النجار فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه
وسلم , فكتب له إليهم أن يدفعوا إليه قاتل أخيه وأرسل معه رجلا من بني فهر ; فقال
بنو النجار : والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية ; فأعطوه مائة من الإبل ; ثم
انصرفا راجعين إلى المدينة فعدا مقيس على الفهري فقتله بأخيه وأخذ الإبل وانصرف إلى
مكة كافرا مرتدا , وجعل ينشد : قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به وتري وأدركت ثورتي وكنت إلى الأوثان أول راجع فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : ( لا أؤمنه في حل ولا حرم ) . وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة
. وإذا ثبت هذا بنقل أهل التفسير وعلماء الدين فلا ينبغي أن يحمل على المسلمين , ثم
ليس الأخذ بظاهر الآية بأولى من الأخذ بظاهر قوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } [
هود : 114 ] وقوله تعالى : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [ الشورى : 25 ]
وقوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] . والأخذ بالظاهرين تناقض
فلا بد من التخصيص . ثم إن الجمع بين آية { الفرقان { وهذه الآية ممكن فلا نسخ ولا
تعارض , وذلك أن يحمل مطلق آية { النساء { على مقيد آية { الفرقان { فيكون معناه
فجزاؤه كذا إلا من تاب ; لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل والموجب وهو التواعد
بالعقاب . وأما الأخبار فكثيرة كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه : ( تبايعوني على
ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا
بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن
أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه )
. رواه الأئمة أخرجه الصحيحان . وكحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في
الذي قتل مائة نفس . أخرجه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه وغيرهما إلى غير ذلك من
الأخبار الثابتة . ثم إنهم قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل , ويقر بأنه
قتل عمدا , ويأتي السلطان الأولياء فيقام عليه الحد ويقتل قودا , فهذا غير متبع في
الآخرة , والوعيد غير نافذ عليه إجماعا على مقتضى حديث عبادة ; فقد انكسر عليهم ما
تعلقوا به من عموم قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم { ودخله
التخصيص بما ذكرنا , وإذا كان كذلك فالوجه أن هذه الآية مخصوصة كما بينا , أو تكون
محمولة على ما حكي عن ابن عباس أنه قال : متعمدا معناه مستحلا لقتله ; فهذا أيضا
يئول إلى الكفر إجماعا . وقالت جماعة : إن القاتل في المشيئة تاب أو لم يتب ; قاله
أبو حنيفة وأصحابه . فإن قيل : إن قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله
عليه ولعنه { دليل على كفره ; لأن الله تعالى لا يغضب إلا على كافر خارج من الإيمان
. قلنا : هذا وعيد , والخلف في الوعيد كرم ; كما قال : ش وإني متى أوعدته أو وعدته و
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي ش وقد تقدم . جواب ثان : إن جازاه بذلك ; أي هو أهل لذلك
ومستحقه لعظيم ذنبه . نص على هذا أبو مجلز لاحق بن حميد وأبو صالح وغيرهما . وروى أنس
بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا وعد الله لعبد ثوابا فهو
منجزه وإن أوعد له العقوبة فله المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه ) . وفي هذين
التأويلين دخل , أما الأول - فقال القشيري : وفي هذا نظر ; لأن كلام الرب لا يقبل
الخلف إلا أن يراد بهذا تخصيص العام ; فهو إذا جائز في الكلام . وأما الثاني : وإن
روي أنه مرفوع فقال النحاس : وهذا الوجه الغلط فيه بين , وقد قال الله عز وجل : "
ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا } [ الكهف : 106 ] ولم يقل أحد : إن جازاهم ; وهو خطأ في
العربية لأن بعده { وغضب الله عليه { وهو محمول على معنى جازاه . وجواب ثالث :
فجزاؤه جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى وافى ربه على الكفر بشؤم المعاصي . وذكر
هبة الله في كتاب { الناسخ والمنسوخ { أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] , وقال : هذا إجماع الناس إلا ابن عباس وابن
عمر فإنهما قالا هي محكمة . وفي هذا الذي قاله نظر ; لأنه موضع عموم وتخصيص لا موضع
نسخ ; قال ابن عطية . قلت : هذا حسن ; لأن النسخ لا يدخل الأخبار إنما المعنى فهو
يجزيه . وقال النحاس في { معاني القرآن { له : القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه
محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب , فإن تاب فقد بين أمره بقوله : { وإني لغفار لمن تاب
" [ طه : 82 ] فهذا لا يخرج عنه , والخلود لا يقتضي الدوام , قال الله تعالى : "
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } [ الأنبياء : 35 ] الآية . وقال تعالى : { يحسب أن
ماله أخلده } [ الهمزة : 3 ] . وقال زهير : ولا خالدا إلا الجبال الرواسيا وهذا كله
يدل على أن الخلد يطلق على غير معنى التأبيد ; فإن هذا يزول بزوال الدنيا . وكذلك
العرب تقول : لأخلدن فلانا في السجن ; والسجن ينقطع ويفنى , وكذلك المسجون . ومثله
قولهم في الدعاء : خلد الله ملكه وأبد أيامه . وقد تقدم هذا كله لفظا ومعنى . والحمد
لله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ هذا متصل بذكر القتل
والجهاد . والضرب : السير في الأرض ; تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو
غزو أو غيره ; مقترنة بفي . وتقول : ضربت الأرض دون { في { إذا قصدت قضاء حاجة
الإنسان ; ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يخرج الرجلان يضربان الغائط
يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك ) . وهذه الآية نزلت في قوم من
المسلمين مروا في سفرهم برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال : لا إله
إلا الله محمد رسول الله ; فحمل عليه أحدهم فقتله . فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله
عليه وسلم شق عليه ونزلت الآية . وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال : قال ابن
عباس : كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم , فقتلوه وأخذوا
غنيمته ; فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله : { عرض الحياة الدنيا { تلك الغنيمة . قال
: قرأ ابن عباس { السلام } . في غير البخاري : وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته . واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة ,
فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البر
أن القاتل محلم بن جثامة , والمقتول عامر بن الأضبط فدعا عليه السلام على محلم فما
عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم
تقبله ; فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب ; وقال عليه السلام :
( إن الأرض لتقبل من هو شر منه ) . قال الحسن : أما إنها تحبس من هو شر منه ولكنه
وعظ القوم ألا يعودوا . وفي سنن ابن ماجه عن عمران بن حصين قال : بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم جيشا من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا , فمنحوهم
أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال : أشهد أن لا
إله إلا الله ; إني مسلم ; فطعنه فقتله ; فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
يا رسول الله , هلكت ! قال : ( وما الذي صنعت ) ؟ مرة أو مرتين , فأخبره بالذي صنع
. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه )
فقال : يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه ؟ قال : ( لا فلا أنت قبلت
ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه ) . فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم
يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه , فأصبح على وجه الأرض . فقلنا : لعل عدوا نبشه ,
فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الأرض . فقلنا : لعل الغلمان نعسوا ,
فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض , فألقيناه في بعض تلك الشعاب . وقيل
: إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة
من أهل فدك . وقال ابن القاسم عن مالك . وقيل : كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة
وأخبر بذلك أهله ; ولما عظم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على أسامة حلف عند ذلك
ألا يقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله . وقد تقدم القول فيه . وقيل : القاتل أبو
قتادة . وقيل : أبو الدرداء . ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محرم الذي
ذكرناه . ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع . وقد روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق
الائتلاف والله أعلم . وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال له غالب بن فضالة
الليثي . وقيل : المقداد حكاه السهيلي . اللهِ أي تأملوا . و { تبينوا { قراءة
الجماعة , وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم , وقالا : من أمر بالتبين فقد أمر
بالتثبيت ; يقال : تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه , فهو متعد ولازم . وقرأ حمزة }
فتثبتوا { من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة { وتبينوا { في هذا أوكد ; لأن
الإنسان قد يتثبت ولا يبين . وفي { إذا { معنى الشرط , فلذلك دخلت الفاء في قوله }
فتبينوا } . وقد يجازى بها كما قال : وإذا تصبك خصاصة فتجمل والجيد ألا يجازى بها
كما قال الشاعر : والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع والتبين التثبت
في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه , وإنما خص السفر بالذكر لأن الحادثة التي
فيها نزلت الآية وقعت في السفر . فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى
إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ فيها ست مسائل الأولى : السلم والسلم , والسلام واحد
, قاله البخاري . وقرئ بها كلها . واختار أبو عبيد القاسم بن سلام { السلام } . وخالفه
أهل النظر فقالوا : { السلم { ههنا أشبه ; لأنه بمعنى الانقياد والتسليم , كما قال
عز وجل : { فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء } [ النحل : 28 ] فالسلم الاستسلام
والانقياد . أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم لست مؤمنا . وقيل :
السلام قول السلام عليكم , وهو راجع إلى الأول ; لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن
بطاعته وانقياده , ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك . قال الأخفش : يقال فلان سلام
إذا كان لا يخالط أحدا . والسلم ( بشد السين وكسرها وسكون اللام ) الصلح . الثانية :
وروي عن أبي جعفر أنه قرأ { لست مؤمنا { بفتح الميم الثانية , من آمنته إذا أجرته
فهو مؤمن . الثالثة : والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله ; فإن قال :
لا إله إلا الله لم يجز قتله ; لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله
وأهله : فإن قتله بعد ذلك قتل به . وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر
الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح , وأن العاصم قولها مطمئنا ,
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها ; ولذلك قال لأسامة : ( أفلا
شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ) أخرجه مسلم . أي تنظر أصادق هو في قوله أم
كاذب ؟ وذلك لا يمكن فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه . وفي هذا من الفقه باب عظيم ,
وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر . الرابعة : فإن
قال : سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا ; لأنه موضع إشكال
. وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول : جئت مستأمنا أطلب الأمان : هذه أمور مشكلة ,
وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام ; لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن
يظهر منه ما يدل على قوله , ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي
حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في
قوله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) . الخامسة : فإن صلى أو
فعل فعلا من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا ; فقال ابن العربي : نرى أنه لا
يكون بذلك مسلما , أما أنه يقال له : ما وراء هذه الصلاة ؟ فإن قال : صلاة مسلم ,
قيل له : قل لا إله إلا الله ; فإن قالها تبين صدقه , وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب ,
وكانت عند من يرى إسلامه ردة , والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة . وكذلك هذا الذي قال
: سلام عليكم , يكلف الكلمة , فإن قالها تحقق رشاده , وإن أبى تبين عناده وقتل
. وهذا معنى قوله : { فتبينوا { أي الأمر المشكل , أو { تثبتوا { ولا تعجلوا
المعنيان سواء . فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه . فإن قيل : فتغليظ النبي صلى الله
عليه وسلم على محلم , ونبذه من قبره كيف مخرجه ؟ قلنا : لأنه علم من نيته أنه لم
يبال بإسلامه فقتله متعمدا لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية . السادسة :
استدل بهذه الآية من قال : إن الإيمان هو القول , لقوله تعالى : { ولا تقولوا لمن
ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } . قالوا : ولما منع أن يقال لمن قال لا إله إلا الله
لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول . ولولا الإيمان الذي هو هذا القول لم يعب قولهم
. قلنا : إنما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه , والله لم يجعل
لعباده غير الحكم بالظاهر ; وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا لا إله إلا الله ) وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط ; ألا ترى أن
المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدم بيانه في { البقرة }
وقد كشف البيان في هذا قوله عليه السلام : ( أفلا شققت عن قلبه ) ؟ فثبت أن الإيمان
هو الإقرار وغيره , وأن حقيقته التصديق بالقلب , ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما
سمع منه فقط . واستدل بهذا أيضا من قال : إن الزنديق تقبل توبته إذا أظهر الإسلام ;
قال : لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام . وقد مضى القول
في هذا في أول البقرة . وفيها رد على القدرية , فإن الله تعالى أخبر أنه من على
المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق , والقدرية تقول : خلقهم كلهم
للإيمان . ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى .
مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ أي تبتغون أخذ ماله : ويسمى متاع الدنيا
عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت . قال أبو عبيدة : يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض
بفتح الراء ; ومنه : ( الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر ) . والعرض ( بسكون
الراء ) ما سوى الدنانير والدراهم ; فكل عرض عرض , وليس كل عرض عرضا . وفي صحيح مسلم
عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس )
. وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه : تقنع بما يكفيك واستعمل الرضا فإنك لا
تدري أتصبح أم تمسي فليس الغنى عن كثرة المال إنما يكون الغنى والفقر من قبل النفس
وهذا يصحح قول أبي عبيدة : فإن المال يشمل كل ما يتمول . وفي كتاب العين : العرض ما
نيل من الدنيا ; ومنه قوله تعالى : { تريدون عرض الدنيا } [ الأنفال : 67 ] وجمعه
عروض . وفي المجمل لابن فارس : والعرض ما يعترض الإنسان من مرض أو نحوه وعرض الدنيا
ما كان فيها من مال قل أو كثر . والعرض من الأثاث ما كان غير نقد . وأعرض الشيء إذا
ظهر وأمكن . والعرض خلاف الطول . الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ عدة من الله
تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور , أي فلا تتهافتوا .
كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منكم
على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين , فهم الآن كذلك كل واحد
منهم في قومه متربص أن يصل إليكم , فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا
أمره . وقال ابن زيد : المعنى كذلك كنتم كفرة قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ بأن أسلمتم فلا
تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره .
عَلَيْكُمْ أعاد الأمر بالتبيين للتأكيد . فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ تحذير عن مخالفة أمر الله ; أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم
.
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ { لا يستوي
القاعدون من المؤمنين { قال ابن عباس : لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها
. ثم قال : { غير أولي الضرر { والضرر الزمانة . روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن زيد
بن ثابت قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي , فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال : ( اكتب ) فكتبت في كتف { لا يستوي القاعدون
من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله { إلى آخر الآية ; فقام ابن أم مكتوم - وكان
رجلا أعمى - لما سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله , فكيف بمن لا يستطيع
الجهاد من المؤمنين ؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة
فوقعت فخذه على فخذي , ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى ,
ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( اقرأ يا زيد ) فقرأت { لا يستوي
القاعدون من المؤمنين { فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { غير أولي الضرر }
الآية كلها . قال زيد : فأنزلها الله وحدها فألحقتها ; والذي نفسي بيده لكأني أنظر
إلى ملحقها عند صدع في كتف . وفي البخاري عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع
ابن عباس يقول : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين { عن بدر والخارجون إلى بدر . قال
العلماء : أهل الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . وصح وثبت في
الخبر أنه عليه السلام قال - وقد قفل من بعض قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا
معكم أولئك قوم حبسهم العذر ) . فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي ; فقيل :
يحتمل أن يكون أجره مساويا وفي فضل الله متسع , وثوابه فضل لا استحقاق ; فيثيب على
النية الصادقة ما لا يثيب على الفعل . وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي
بالتضعيف للمباشرة . والله أعلم . قلت : والقول الأول أصح - إن شاء الله - للحديث
الصحيح في ذلك ( إن بالمدينة رجالا ) ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السلام (
إنما الدنيا لأربعة نفر ) الحديث وقد تقدم في سورة { آل عمران } . ومن هذا المعنى ما
ورد في الخبر ( إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة
إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي ) . وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان
أعظم أجرا من أهل التطوع ; لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء , ويصرفون في
الشدائد , وتروعهم البعوث والأوامر , كانوا أعظم من المتطوع ; لسكون جأشه ونعمة
باله في الصوائف الكبار ونحوها . قال ابن محيريز : أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة
لما يروعون . قال مكحول : روعات البعوث تنفي روعات القيامة . وتعلق بها أيضا من قال
: إن الغنى أفضل من الفقر ; لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال
. وقد اختلف الناس في هذه المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه , وما أبطر
من الغنى مذموم ; فذهب قوم إلى تفضيل الغني , لأن الغني مقتدر والفقير عاجز ,
والقدرة أفضل من العجز . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة . وذهب
آخرون إلى تفضيل الفقر , لأن الفقير تارك والغني ملابس , وترك الدنيا أفضل من
ملابستها . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة . وذهب آخرون إلى تفضيل
التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة
الأمرين , وليسلم من مذمة الحالين . قال الماوردي : وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال
وأن ( خير الأمور أوسطها ) . ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال : ألا عائذا بالله من
عدم الغنى ومن رغبة يوما إلى غير مرغب قوله تعالى : { غير أولي الضرر { قراءة أهل
الكوفة وأبو عمرو { غير { بالرفع ; قال الأخفش : هو نعت للقاعدين ; لأنهم لم يقصد
بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير ; والمعنى لا يستوي القاعدون غير
أولي الضرر ; أي لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر . والمعنى لا يستوي
القاعدون الأصحاء ; قاله الزجاج . وقرأ أبو حيوة { غير { جعله نعتا للمؤمنين ; أي من
المؤمنين الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء . وقرأ أهل الحرمين { غير }
بالنصب على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين ; أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون
مع المجاهدين . وإن شئت على الحال من القاعدين ; أي لا يستوي القاعدون من الأصحاء أي
في حال صحتهم ; وجازت الحال منهم ; لأن لفظهم لفظ المعرفة , وهو كما تقول : جاءني
زيد غير مريض . وما ذكرناه من سبب النزول يدل على معنى النصب , والله أعلم . فَضَّلَ
اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ
دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ
عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على
القاعدين درجة { وقد قال بعد هذا : { درجات منه ومغفرة ورحمة { فقال قوم : التفضيل
بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد . وقيل : فضل الله المجاهدين على
القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة , وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر
درجات ; قال ابن جريج والسدي وغيرهما . وقيل : إن معنى درجة علو , أي أعلى ذكرهم
ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ . فهذا معنى درجة , ودرجات يعني في الجنة . قال ابن
محيريز : سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس الجواد سبعين سنة . و { درجات { بدل من
أجر وتفسير له , ويجوز نصبه أيضا على تقدير الظرف ; أي فضلهم بدرجات , ويجوز أن
يكون توكيدا لقول { أجرا عظيما { لأن الأجر العظيم هو الدرجات والمغفرة والرحمة ,
ويجوز الرفع ; أي ذلك درجات . و { أجرا { نصب ب { فضل { وإن شئت كان مصدرا وهو أحسن
, ولا ينتصب ب { فضل { لأنه قد استوفى مفعوليه وهما قوله : { المجاهدين { و } على
القاعدين } ; وكذا { درجة } . فالدرجات منازل بعضها أعلى من بعض . وفي الصحيح عن
النبي صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله
بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ) .{ وكلا وعد الله الحسنى }{ كلا { منصوب ب }
وعد { و } الحسنى { الجنة ; أي وعد الله كلا الحسنى . ثم قيل : المراد ( بكل )
المجاهدون خاصة . وقيل : المجاهدون وأولو الضرر . والله أعلم .
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ هذا حكم بتحليل صيد البحر , وهو كل ما صيد من
حيتانه والصيد هنا يراد به المصيد , وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب , وقد مضى
القول في البحر في { البقرة { والحمد لله . و { متاعا { نصب على المصدر أي متعتم به
متاعا . وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يطعم , ويطلق
على مطعوم خاص كالماء وحده , والبر وحده , والتمر وحده , واللبن وحده , وقد يطلق
على النوم كما تقدم ; وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطفا عليه ; أسند الدارقطني
عن ابن عباس في قول الله عز وجل : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة }
الآية صيده ما صيد وطعامه ما لفظ البحر , وروي عن أبي هريرة مثله ; وهو قول جماعة
كثيرة من الصحابة والتابعين , وروي عن ابن عباس ميتته وهو في ذلك المعنى , وروي عنه
أنه قال : طعامه ما ملح منه وبقي ; وقاله معه جماعة , وقال قوم : طعامه ملحه الذي
ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره . قال أبو حنيفة : لا يؤكل السمك الطافي
ويؤكل ما سواه من السمك , ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك وهو قول الثوري في
رواية أبي إسحاق الفزاري عنه , وكره الحسن أكل الطافي من السمك . وروي عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه أنه كرهه , وروي عنه أيضا أنه كره أكل الجري وروي عنه أكل ذلك
كله وهو أصح ; ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن جعفر بن محمد عن علي قال : الجراد
والحيتان ذكي ; فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ولم يختلف عن جابر أنه كرهه
, وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد , واحتجوا بعموم قوله تعالى : { حرمت
عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] , وبما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبد
الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقاه وما
وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه ) . قال الدارقطني : تفرد به عبد العزيز
بن عبيد الله عن وهب بن كيسان عن جابر , وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به . وروى سفيان
الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ; قال الدارقطني :
لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد الزبيري وخالفه وكيع والعدنيان , وعبد الرزاق
ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم ; رووه عن الثوري موقوفا وهو الصواب , وكذلك رواه أيوب
السختياني , وعبيد الله بن عمر وابن جريج , وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي
الزبير موقوفا قال أبو داود : وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن
أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال الدارقطني : وروي عن إسماعيل
بن أمية وابن أبي ذئب عن أبي الزبير مرفوعا , ولا يصح رفعه , رفعه يحيى بن سليم عن
إسماعيل بن أمية ووقفه غيره , وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري
في رواية الأشجعي : يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب , وسائر ما في البحر من
الحيوان , وسواء اصطيد أو وجد ميتا , واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة
والسلام في البحر : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) وأصح ما في هذا الباب من جهة
الإسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له : ( العنبر ) وهو من أثبت الأحاديث خرجه
الصحيحان , وفيه : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا
ذلك له فقال : ( هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ) فأرسلنا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ; لفظ مسلم وأسند الدارقطني عن ابن
عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال : السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها ,
وأسند عنه أيضا أنه قال : أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء , وأسند
عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه , فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه
عنها فقال : أطيبة هي لم تتغير ؟ قالوا : نعم قال : فكلوها وارفعوا نصيبي منها ;
وكان صائما , وأسند عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا
عنها أبا طلحة فقال : أهدوها إلي , وقال عمر بن الخطاب : الحوت ذكي والجراد ذكي كله
; رواه عنه الدارقطني فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية , وهو حجة
للجمهور ; إلا أن مالكا كان يكره خنزير الماء من جهة اسمه ولم يحرمه وقال : أنتم
تقولون خنزيرا ! وقال الشافعي : لا بأس بخنزير الماء وقال الليث : ليس بميتة البحر
بأس . قال : وكذلك كلب الماء وفرس الماء . قال : ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير
الماء . اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم أم
لا ؟ فقال مالك وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم : كل ما يعيش في البر وله فيه
حياة فهو صيد البر , إن قتله المحرم وداه , وزاد أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف
والسرطان . الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة ولا خلاف عن الشافعي في أنه لا يجوز
أكل الضفدع , واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير
ذلك , والصحيح أكل ذلك كله ; لأنه نص على الخنزير في جواز أكله , وهو له شبه في
البر مما لا يؤكل , ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش والدلفين , وكل ما له ناب
لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب . قال ابن عطية : ومن هذه أنواع لا زوال لها من
الماء فهي لا محالة من صيد البحر , وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في { المدونة
{ فإنه قال : الضفادع من صيد البحر , وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه ,
وهو أنه يراعى أكثر عيش الحيوان ; سئل عن ابن الماء أصيد بر هو أم صيد بحر ؟ فقال :
حيث يكون أكثر فهو منه , وحيث يفرخ فهو منه ; وهو قول أبي حنيفة , والصواب في ابن
الماء أنه صيد بر يرعى ويأكل الحب . قال ابن العربي : الصحيح في الحيوان الذي يكون
في البر والبحر منعه ; لأنه تعارض فيه دليلان , دليل تحليل ودليل تحريم , فيغلب
دليل التحريم احتياطا , والله أعلم . وَلِلسَّيَّارَةِ فيه قولان : أحدهما للمقيم
والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون وأكل النبي صلى الله
عليه وسلم وهو مقيم , فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام , كما أحله لمن سافر
. الثاني : أن السيارة هم الذين يركبونه , كما جاء في حديث مالك والنسائي : أن رجلا
سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ,
فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( هو
الطهور ماؤه الحل ميتته ) قال ابن العربي قاله علماؤنا : فلو قال له النبي صلى الله
عليه وسلم ( نعم ) لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش ; لأن الجواب مرتبط بالسؤال
, فكان يكون محالا عليه , ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ تأسيس القاعدة ,
وبيان الشرع فقال : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) . قلت : وكان يكون الجواب مقصورا
عليهم لا يتعدى لغيرهم , لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على
الجميع , إلا ما نص بالتخصيص عليه , كقوله لأبي بردة في العناق : ( ضح بها ولن تجزئ
عن أحد غيرك ) . وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا فيه
سبع مسائل : الأولى : التحريم ليس صفة للأعيان , إنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله :
{ وحرم عليكم صيد البر { أي فعله الصيد , وهو المنع من الاصطياد , أو يكون الصيد
بمعنى المصيد , على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدم , وهو الأظهر لإجماع
العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له , ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده
ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه , ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك ; لعموم
قوله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما { ولحديث الصعب بن جثامة على ما
يأتي . الثانية : اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد فقال مالك والشافعي
وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق , وهو الصحيح عن عثمان بن عفان : إنه لا بأس بأكل
المحرم الصيد إذا لم يصد له , ولا من أجله , لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو
يصد لكم ) قال أبو عيسى : هذا أحسن حديث في الباب ; وقال النسائي : عمرو بن أبي
عمرو ليس بالقوي في الحديث , وإن كان قد روى عنه مالك . فإن أكل من صيد صيد من أجله
فداه , وبه قال الحسن بن صالح والأوزاعي , واختلف قول مالك فيما صيد لمحرم بعينه ,
والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صيد لمحرم معين أو غير معين
ولم يأخذ بقول عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم : كلوا فلستم مثلي لأنه صيد
من أجلي ; وبه قالت طائفة من أهل المدينة , وروي عن مالك , وقال أبو حنيفة وأصحابه
: أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال , سواء صيد من أجله أو لم
يصد لظاهر قوله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم { فحرم صيده وقتله على
المحرمين , دون ما صاده غيرهم . واحتجوا بحديث البهزي - واسمه زيد بن كعب عن النبي
صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرفاق , من
حديث مالك وغيره . وبحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ( إنما هي
طعمة أطعمكموها الله ) , وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه , وأبي
هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير , وروي عن علي بن أبي طالب
وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال , سواء صيد من
أجله أو لم يصد ; لعموم قوله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } . قال
ابن عباس : هي مبهمة وبه قال طاوس وجابر بن زيد أبو الشعثاء وروي ذلك عن الثوري وبه
قال إسحاق . واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة الليثي , أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم حمارا وحشيا , وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ; قال : فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال : ( إنا لم
نرده عليك إلا أنا حرم ) خرجه الأئمة واللفظ لمالك . قال أبو عمر : وروى ابن عباس من
حديث سعيد بن جبير ومقسم وعطاء وطاوس عنه , أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى
الله عليه وسلم لحم حمار وحش ; وقال سعيد بن جبير في حديثه : عجز حمار وحش فرده
يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت ; وقال مقسم في حديثه رجل حمار وحش . وقال عطاء في
حديثه : أهدى له عضد صيد فلم يقبله وقال : ( إنا حرم ) وقال طاوس في حديثه : عضدا
من لحم صيد ; حدث به إسماعيل عن علي بن المديني , عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج , عن
الحسن بن مسلم , عن طاوس , عن ابن عباس , إلا أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن زيد
بن أرقم . قال إسماعيل : سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجل
النبي صلى الله عليه وسلم , ولولا ذلك لكان أكله جائزا ; قال سليمان : ومما يدل على
أنه صيد من أجل النبي صلى الله عليه وسلم قولهم في الحديث : فرده يقطر دما كأنه صيد
في ذلك الوقت . قال إسماعيل : إنما تأول سليمان هذا الحديث لأنه يحتاج إلى تأويل ;
فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل ; لأن المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا
ولا يذكيه ; قال إسماعيل : وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث المرفوعة كلها
غير مختلفة فيها إن شاء الله تعالى . الثالثة : إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند
أهله فقال مالك : إن كان في يده فعليه إرساله , وإن كان في أهله فليس عليه إرساله ,
وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل , وقال الشافعي في أحد قوليه : سواء كان في يده أو
في بيته ليس عليه أن يرسله , وبه قال أبو ثور , وروي عن مجاهد وعبد الله بن الحارث
مثله وروي عن مالك , وقال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي في القول الآخر : عليه أن
يرسله , سواء كان في بيته أو في يده فإن لم يرسله ضمن , وجه القول بإرساله قوله
تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما { وهذا عام في الملك والتصرف كله ,
ووجه القول بإمساكه : أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام فلا يمنع من استدامة ملكه
, أصله النكاح . الرابعة : فإن صاده الحلال في الحل فأدخله الحرم جاز له التصرف فيه
بكل نوع من ذبحه , وأكل لحمه , وقال أبو حنيفة : لا يجوز . ودليلنا أنه معنى يفعل في
الصيد فجاز في الحرم للحلال , كالإمساك والشراء ولا خلاف فيها . الخامسة : إذا دل
المحرم حلا على صيد فقتله الحلال اختلف فيه , فقال مالك والشافعي وأبو ثور : لا شيء
عليه , وهو قول ابن الماجشون , وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة
والتابعين : عليه الجزاء ; لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض ; فيضمن بالدلالة
كالمودع إذا دل سارقا على سرقة . السادسة : واختلفوا في المحرم إذا دل محرما آخر ;
فذهب الكوفيون وأشهب من أصحابنا إلى أن على كل واحد منهما جزاء , وقال مالك
والشافعي وأبو ثور : الجزاء على المحرم القاتل ; لقوله تعالى : { ومن قتله منكم
متعمدا { فعلق وجوب الجزاء بالقتل , فدل على انتفائه بغيره ; ولأنه دال فلم يلزمه
بدلالته غرم كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم , وتعلق الكوفيون وأشهب
بقوله عليه السلام في حديث أبي قتادة : ( هل أشرتم أو أعنتم ) ؟ وهذا يدل على وجوب
الجزاء , والأول أصح , والله أعلم . السابعة : إذا كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها
في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد ففيه الجزاء ; لأنه أخذ في الحرم وإن كان أصلها في
الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أخذ عليه على قولين : الجزاء نظرا إلى
الأصل , ونفيه نظرا إلى الفرع . وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم , ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في
التحذير , والله أعلم .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ المراد بها جماعة من أهل مكة كانوا قد
أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به , فلما هاجر النبي صلى الله
عليه وسلم أقاموا مع قومهم وفتن منهم جماعة فافتتنوا , فلما كان أمر بدر خرج منهم
قوم مع الكفار ; فنزلت الآية . وقيل : إنهم لما استحقروا عدد المسلمين دخلهم شك في
دينهم فارتدوا فقتلوا على الردة ; فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين
وأكرهوا على الخروج فاستغفروا لهم ; فنزلت الآية . والأول أصح . روى البخاري عن محمد
بن عبد الرحمن قال : قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن
عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي , ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا من
المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل ; فأنزل الله تعالى : "
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } . { توفاهم الملائكة { يحتمل أن يكون فعلا
ماضيا لم يستند بعلامة تأنيث , إذ تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي , ويحتمل أن يكون
فعلا مستقبلا على معنى تتوفاهم ; فحذفت إحدى التاءين . وحكى ابن فورك عن الحسن أن
المعنى تحشرهم إلى النار . وقيل : تقبض أرواحهم ; وهو أظهر . وقيل : المراد بالملائكة
ملك الموت ; لقوله تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [ السجدة : 11 ]
. ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ نصب على الحال ; أي في حال ظلمهم أنفسهم , والمراد ظالمين
أنفسهم فحذف النون استخفافا وأضاف ; كما قال تعالى : { هديا بالغ الكعبة } [
المائدة : 95 ] . قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ تسألهم الملائكة سؤال تقريع وتوبيخ , أي
أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين ! والأصل { فيما { ثم حذفت
الألف فرقا بين الاستفهام والخبر , والوقف عليها ( فيمه ) لئلا تحذف الألف والحركة
. قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ يعني مكة , اعتذار غير صحيح ; إذ
كانوا يستطيعون الحيل ويهتدون السبيل , ثم وقفتهم الملائكة على دينهم بقولهم { ألم
تكن أرض الله واسعة } . ويفيد هذا السؤال والجواب أنهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم
في تركهم الهجرة , وإلا فلو ماتوا كافرين لم يقل لهم شيء من هذا , وإنما أضرب عن
ذكرهم في الصحابة لشدة ما واقعوه , ولعدم تعين أحدهم بالإيمان , واحتمال ردته
. والله أعلم . ثم استثنى تعالى منهم من الضمير الذي هو الهاء والميم في { مأواهم }
من كان مستضعفا حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان ; كعياش بن أبي ربيعة
وسلمة بن هشام وغيرهم الذين دعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : كنت
أنا وأمي ممن عنى الله بهذه الآية ; وذلك أنه كان من الولدان إذ ذاك , وأمه هي أم
الفضل بنت الحارث واسمها لبابة , وهي أخت ميمونة , وأختها الأخرى لبابة الصغرى ,
وهن تسع أخوات قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن : ( الأخوات مؤمنات ) ومنهن سلمى
والعصماء وحفيدة ويقال في حفيدة : أم حفيد , واسمها هزيلة . هن ست شقائق وثلاث لأم ;
وهن سلمى , وسلامة , وأسماء . بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب , ثم امرأة
أبي بكر الصديق , ثم امرأة علي رضي الله عنهم أجمعين . قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ
أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا المدينة ; أي ألم تكونوا متمكنين
قادرين على الهجرة والتباعد ممن كان يستضعفكم ! وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض
التي يعمل فيها بالمعاصي . وقال سعيد بن جبير : إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها
; وتلا { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } . وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال : ( من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا استوجب الجنة وكان رفيق
إبراهيم ومحمد عليهما السلام ) . فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ أي مثواهم
النار . وكانت الهجرة واجبة على كل من أسلم . وَسَاءَتْ مَصِيرًا نصب على التفسير .
هذا الذي لا حيلة له في الهجرة لا ذنب له حتى يعفى عنه ; ولكن المعنى أنه قد يتوهم
أنه يجب تحمل غاية المشقة في الهجرة , حتى إن من لم يتحمل تلك المشقة يعاقب فأزال
الله ذلك الوهم ; إذ لا يجب تحمل غاية المشقة , بل كان يجوز ترك الهجرة عند فقد
الزاد والراحلة . فمعنى الآية ; فأولئك لا يستقصى عليهم في المحاسبة ; ولهذا قال : "
وكان الله عفوا غفورا { والماضي والمستقبل في حقه تعالى واحد , وقد تقدم .
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا
شرط وجوابه { يجد في الأرض مراغما { اختلف في تأويل المراغم ; فقال مجاهد : المراغم
المتزحزح . وقال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم : المراغم المتحول والمذهب . وقال
ابن زيد : والمراغم المهاجر ; وقاله أبو عبيدة . قال النحاس : فهذه الأقوال متفقة
المعاني . فالمراغم المذهب والمتحول في حال هجرة , وهو اسم الموضع الذي يراغم فيه ,
وهو مشتق من الرغام . ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب . وراغمت فلانا هجرته وعاديته ,
ولم أبال إن رغم أنفه . وقيل : إنما سمي مهاجرا ومراغما لأن الرجل كان إذا أسلم عادى
قومه وهجرهم , فسمي خروجه مراغما , وسمي مصيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة
. وقال السدي : المراغم المبتغى للمعيشة . وقال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول :
المراغم الذهاب في الأرض . وهذا كله تفسير بالمعنى , وكله قريب بعضه من بعض ; فأما
الخاص باللفظة فإن المراغم موضع المراغمة كما ذكرنا , وهو أن يرغم كل واحد من
المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده ; فكأن كفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين
بمكة , فلو هاجر منهم مهاجر لأرغم أنوف قريش لحصوله في منعة منهم , فتلك المنعة هي
موضع المراغمة . ومنه قول النابغة : كطرد يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب
وَسَعَةً أي في الرزق ; قاله ابن عباس والربيع والضحاك . وقال قتادة : المعنى سعة من
الضلالة إلى الهدى ومن العلة إلى الغنى . وقال مالك : السعة سعة البلاد . وهذا أشبه
بفصاحة العرب ; فإن بسعة الأرض وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق , واتساع الصدر
لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرج . ونحو هذا المعنى قول الشاعر : وكنت إذا خليل
رام قطعي وجدت وراي منفسحا عريضا وقال آخر : لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول
والعرض قال مالك : هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف
ويعمل فيها بغير الحق . وقال : والمراغم الذهاب في الأرض , والسعة سعة البلاد على ما
تقدم . واستدل أيضا بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي إذا خرج إلى الغزو ثم مات
قبل القتال له سهمه وإن لم يحضر الحرب ; رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أهل
المدينة . وروي ذلك عن ابن المبارك أيضا . وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا
إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ
عَلَى اللهِ قال عكرمة مولى ابن عباس : طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة حتى
وجدته . وفي قول عكرمة هذا دليل على شرف هذا العلم قديما , وأن الاعتناء به حسن
والمعرفة به فضل ; ونحو منه قول ابن عباس : مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين
اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , ما يمنعني إلا مهابته . والذي
ذكره عكرمة هو ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة بن زنباع ; حكاه الطبري عن سعيد بن
جبير . ويقال فيه : ضميرة أيضا . ويقال : جندع بن ضمرة من بني ليث , وكان من
المستضعفين بمكة وكان مريضا , فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال : أخرجوني ;
فهيئ له فراش ثم وضع عليه وخرج به فمات في الطريق بالتنعيم , فأنزل الله فيه { ومن
يخرج من بيته مهاجرا { الآية . وذكر أبو عمر أنه قد قيل فيه : خالد بن حزام بن خويلد
ابن أخي خديجة , وأنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يبلغ
أرض الحبشة ; فنزلت فيه الآية , والله أعلم . وحكى أبو الفرج الجوزي أنه حبيب بن
ضمرة . وقيل : ضمرة بن جندب الضمري ; عن السدي . وحكي عن عكرمة أنه جندب بن ضمرة
الجندعي . وحكي عن ابن جابر أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث . وحكى المهدوي أنه
ضمرة بن ضمرة بن نعيم . وقيل : ضمرة بن خزاعة , والله أعلم . وروى معمر عن قتادة قال
: لما نزلت { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم { الآية , قال رجل من المسلمين
وهو مريض : والله ما لي من عذر ! إني لدليل في الطريق , وإني لموسر , فاحملوني
. فحملوه فأدركه الموت في الطريق ; فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو بلغ
إلينا لتم أجره ; وقد مات بالتنعيم . وجاء بنوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وأخبروه بالقصة , فنزلت هذه الآية { ومن يخرج من بيته مهاجرا { الآية . وكان اسمه
ضمرة بن جندب , ويقال : جندب بن ضمرة على ما تقدم . قال ابن العربي : قسم العلماء
رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين : هربا وطلبا ; فالأول ينقسم إلى ستة أقسام :
الأول : الهجرة وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام , وكانت فرضا في أيام
النبي صلى الله عليه وسلم , وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة , والتي
انقطعت بالفتح هي القصد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان ; فإن بقي في دار
الحرب عصى ; ويختلف في حاله . الثاني : الخروج من أرض البدعة ; قال ابن القاسم :
سمعت مالكا يقول لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف . قال ابن العربي : وهذا
صحيح ; فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فزل عنه , قال الله تعالى : { وإذا رأيت
الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم { إلى قوله { الظالمين } [ الأنعام : 68 ]
. الثالث : الخروج من أرض غلب عليها الحرام : فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم
. الرابع : الفرار من الأذية في البدن ; وذلك فضل من الله أرخص فيه , فإذا خشي على
نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه ليخلصها من ذلك المحذور . وأول من
فعله إبراهيم عليه السلام ; فإنه لما خاف من قومه قال : { إني مهاجر إلى ربي } [
العنكبوت : 26 ] , وقال : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] . وقال
مخبرا عن موسى : { فخرج منها خائفا يترقب } [ القصص : 21 ] . الخامس : خوف المرض في
البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النزهة . وقد أذن صلى الله عليه وسلم للرعاة
حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا . وقد استثني من
ذلك الخروج من الطاعون ; فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن نبيه صلى الله
عليه وسلم , وقد تقدم بيانه في { البقرة } . بيد أن علماءنا قالوا : هو مكروه
. السادس : الفرار خوف الأذية في المال ; فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه , والأهل
مثله وأوكد . وأما قسم الطلب فينقسم قسمين : طلب دين وطلب دنيا ; فأما طلب الدين
فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام : الأول : سفر العبرة ; قال الله تعالى : "
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } [ الروم : 9 ] وهو
كثير . ويقال : إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها . وقيل : لينفذ الحق فيها
. الثاني : سفر الحج . والأول وإن كان ندبا فهذا فرض . الثالث : سفر الجهاد وله أحكامه
. الرابع : سفر المعاش ; فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا
يزيد عليه من صيد أو احتطاب أو احتشاش ; فهو فرض عليه . الخامس : سفر التجارة والكسب
الزائد على القوت , وذلك جائز بفضل الله سبحانه وتعالى , قال الله تعالى : { ليس
عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } [ البقرة : 198 ] يعني التجارة , وهي نعمة من
الله بها في سفر الحج , فكيف إذا انفردت . السادس : في طلب العلم وهو مشهور . السابع
: قصد البقاع ; قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )
. الثامن : الثغور للرباط بها وتكثير سوادها للذب عنها . التاسع : زيارة الإخوان في
الله تعالى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( زار رجل أخا له في قرية فأرصد
الله له ملكا على مدرجته فقال أين تريد فقال أريد أخا لي في هذه القرية قال : هل لك
من نعمة تربها عليه قال لا غير أني أحببته في الله عز وجل قال فإني رسول الله إليك
بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه ) . رواه مسلم وغيره . وَكَانَ اللهُ غَفُورًا
لما كان منه من الشرك . رَحِيمًا حين قبل توبته .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
فيه أربع مسائل : الأولى : روى البخاري ومسلم وغيرهما - واللفظ للبخاري - عن أنس
قال , قال رجل : يا نبي الله , من أبي ؟ قال : ( أبوك فلان ) قال فنزلت { يا أيها
الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم { الآية , وخرج أيضا عن أنس عن
النبي صلى الله عليه وسلم وفيه : ( فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت
في مقامي هذا ) فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : ( النار )
. فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي يا رسول الله فقال : ( أبوك حذافة ) وذكر
الحديث قال ابن عبد البر : عبد الله بن حذافة أسلم قديما , وهاجر إلى أرض الحبشة
الهجرة الثانية , وشهد بدرا وكانت فيه دعابة , وكان رسول رسول الله صلى الله عليه
وسلم ; أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه سلم ; ولما قال من أبي يا
رسول الله ; قال : ( أبوك حذافة ) قالت له أمه : ما سمعت بابن أعق منك آمنت أن تكون
أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ! فقال : والله لو ألحقني
بعبد أسود للحقت به , وروى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت
هذه الآية { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } [ آل عمران : 97 ]
. قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت , فقالوا : أفي كل عام ؟ قال : ( لا ولو
قلت نعم لوجبت ) , فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن
تبد لكم تسؤكم { إلى آخر الآية . واللفظ للدارقطني سئل البخاري عن هذا الحديث فقال :
هو حديث حسن إلا أنه مرسل ; أبو البختري لم يدرك عليا , واسمه سعيد , وأخرجه
الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( يا أيها الناس كتب عليكم الحج ) فقام رجل فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض
عنه , ثم عاد فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فقال : ( ومن القائل ) ؟ قالوا :
فلان ; قال : ( والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم
تطيقوها لكفرتم ) فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن
تبد لكم تسؤكم { الآية , وقال الحسن البصري في هذه الآية : سألوا النبي صلى الله
عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه ,
وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ; وهو قول سعيد بن جبير ; وقال : ألا ترى أن بعده
: { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } [ المائدة : 103 ] . قلت :
وفي الصحيح والمسند كفاية . ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع , فيكون السؤال
قريبا بعضه من بعض , والله أعلم . و { أشياء { وزنه أفعال ; ولم يصرف لأنه مشبه
بحمراء ; قاله الكسائي وقيل : وزنه أفعلاء ; كقولك : هين وأهوناء ; عن الفراء
والأخفش ويصغر فيقال : أشياء ; قال المازني : يجب أن يصغر شييآت كما يصغر أصدقاء ;
في المؤنث صديقات وفي المذكر صديقون . الثانية : قال ابن عون : سألت نافعا عن قوله
تعالى { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم { فقال : لم تزل المسائل منذ قط تكره
. روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله حرم
عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا : قيل وقال وكثرة السؤال
وإضاعة المال ) . قال كثير من العلماء : المراد بقوله ( وكثرة السؤال ) التكثير من
السؤال في المسائل الفقهية تنطعا , وتكلفا فيما لم ينزل , والأغلوطات وتشقيق
المولدات , وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف , ويقولون : إذا نزلت
النازلة وفق المسئول لها . قال مالك : أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب
والسنة , فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه
, وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقيل : المراد
بكثرة المسائل كثرة سؤال الناس الأموال والحوائج إلحاحا واستكثارا ; وقاله أيضا
مالك وقيل : المراد بكثرة المسائل السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بحيث يؤدي ذلك
إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم . وهذا مثل قوله تعالى : { ولا تجسسوا ولا
يغتب بعضكم بعضا } [ الحجرات : 12 ] قال ابن خويز منداد : ولذلك قال بعض أصحابنا
متى قدم إليه طعام لم يسأل عنه من أين هذا أو عرض عليه شيء يشتريه لم يسأل من أين
هو وحمل أمور المسلمين على السلامة والصحة . قلت : والوجه حمل الحديث على عمومه
فيتناول جميع تلك الوجوه كلها , والله أعلم . الثالثة : قال ابن العربي : اعتقد قوم
من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأن هذه الآية
مصرحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه ولا مساءة في جواب
نوازل الوقت فافترقا . قلت قوله : اعتقد قوم من الغافلين فيه قبح , وإنما كان الأولى
به أن يقول : ذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل , لكنه جرى على عادته , وإنما قلنا
كان أولى به ; لأنه قد كان قوم من السلف يكرهها , وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يلعن من سأل عما لم يكن ; ذكره الدارمي في مسنده ; وذكر عن الزهري قال : بلغنا أن
زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر : أكان هذا ؟ فإن قالوا : نعم قد
كان حدث فيه بالذي يعلم , وإن قالوا : لم يكن قال فذروه حتى يكون , وأسند عن عمار
بن ياسر وقد سئل عن مسألة فقال : هل كان هذا بعد ؟ قالوا : لا ; قال : دعونا حتى
يكون , فإذا كان تجشمناها لكم . قال الدارمي : حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ,
قال حدثنا ابن فضيل عن عطاء عن ابن عباس قال : ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم , ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض , كلهن في
القرآن ; منهن { يسألونك عن الشهر الحرام } [ البقرة : 217 ] , { ويسألونك عن
المحيض } [ البقرة : 222 ] وشبهه ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم . الرابعة : قال
ابن عبد البر : السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله , فمن
سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه , باحثا عن معنى يجب الوقوف في
الديانة عليه , فلا بأس به , فشفاء العي السؤال ; ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا
متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره ; قال ابن العربي : الذي ينبغي للعالم
أن يشتغل به هو بسط الأدلة , وإيضاح سبل النظر , وتحصيل مقدمات الاجتهاد , وإعداد
الآلة المعينة على الاستمداد ; فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها , ونشدت في مظانها ,
والله يفتح في صوابها . تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ
الْقُرْآنُ تُبْدَ فيه غموض , وذلك أن في أول الآية النهي عن السؤال , ثم قال : "
وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم { فأباحه لهم ; فقيل : المعنى وإن تسألوا
عن غيرها فيما مست الحاجة إليه , فحذف المضاف , ولا يصح حمله على غير الحذف . قال
الجرجاني : الكناية في { عنها { ترجع إلى أشياء أخر ; كقوله تعالى : { ولقد خلقنا
الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] يعني آدم , ثم قال : { ثم جعلناه نطفة
" [ المؤمنون : 13 ] أي ابن آدم ; لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين , لكن لما ذكر
الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله , وعرف ذلك بقرينة الحال ; فالمعنى وإن تسألوا
عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم , أو مست حاجتكم إلى التفسير ,
فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم ; فقد أباح هذا النوع من السؤال : ومثاله أنه بين عدة
المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل , ولم يجر ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا
حامل , فسألوا عنها فنزل { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] . فالنهي إذا في
شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه ; فأما ما مست الحاجة إليه فلا . لَكُمْ عَفَا
اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ أي عن المسألة التي سلفت منهم , وقيل : عن
الأشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية وما جرى مجراها , وقيل : العفو بمعنى
الترك ; أي تركها ولم يعرف بها في حلال ولا حرام فهو معفو عنها فلا تبحثوا عنه
فلعله إن ظهر لكم حكمه ساءكم , وكان عبيد بن عمير يقول : إن الله أحل وحرم , فما
أحل فاستحلوه , وما حرم فاجتنبوه , وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها , فذلك
عفو من الله , ثم يتلو هذه الآية . وخرج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات
فلا تنتهكوها وحدد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها )
والكلام على هذا التقدير فيه تقديم وتأخير ; أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها
إن تبد لكم تسؤكم , أي أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكما , وقيل : ليس فيه تقديم
ولا تأخير ; بل المعنى قد عفا الله عن مسألتكم التي سلفت وإن كرهها النبي صلى الله
عليه وسلم , فلا تعودوا لأمثالها . فقوله : { عنها { أي عن المسألة , أو عن السؤالات
كما ذكرناه .
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت
لهم الصلاة { روى الدارقطني عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعسفان , فاستقبلنا المشركون , عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين
القبلة , فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر , فقالوا : قد كانوا على حال لو
أصبنا غرتهم ; قال : ثم قالوا تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم
وأنفسهم ; قال : فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر { وإذا كنت
فيهم فأقمت لهم الصلاة } . وذكر الحديث . وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى . وهذا كان
سبب إسلام خالد رضي الله عنه . وقد اتصلت هذه الآية بما سبق من ذكر الجهاد . وبين
الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر ولا بعذر الجهاد وقتال العدو ,
ولكن فيها رخص على ما تقدم في { البقرة { وهذه السورة , بيانه من اختلاف العلماء
. وهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم , وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم
القيامة , ومثله قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] هذا قول
كافة العلماء . وشذ أبو يوسف وإسماعيل ابن علية فقالا : لا نصلي صلاة الخوف بعد
النبي صلى الله عليه وسلم ; فإن الخطاب كان خاصا له بقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم
{ وإذا لم يكن فيهم لم يكن ذلك لهم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كغيره في
ذلك , وكلهم كان يحب أن يأتم به ويصلي خلفه , وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه ,
والناس بعده تستوي أحوالهم وتتقارب ; فلذلك يصلي الإمام بفريق ويأمر من يصلي
بالفريق الآخر , وأما أن يصلوا بإمام واحد فلا . وقال الجمهور : إنا قد أمرنا
باتباعه والتأسي به في غير ما آية وغير حديث , فقال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون
عن أمره أن تصيبهم فتنة .. ." [ النور : 63 ] وقال صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما
رأيتموني أصلي ) . فلزم اتباعه مطلقا حتى يدل دليل واضح على الخصوص ; ولو كان ما
ذكروه دليلا على الخصوص للزم قصر الخطابات على من توجهت له , وحينئذ كان يلزم أن
تكون الشريعة قاصرة على من خوطب بها ; ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
اطرحوا توهم الخصوص في هذه الصلاة وعدوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم , وهم
أعلم بالمقال وأقعد بالحال . وقد قال تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا
فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [ الأنعام : 68 ] وهذا خطاب له , وأمته داخلة
فيه , ومثله كثير . وقال تعالى : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] وذلك لا
يوجب الاقتصار عليه وحده , وأن من بعده يقوم في ذلك مقامه ; فكذلك في قوله : { وإذا
كنت فيهم } . ألا ترى أن أبا بكر الصديق في جماعة الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا من
تأول في الزكاة مثل ما تأولتموه في صلاة الخوف . قال أبو عمر : ليس في أخذ الزكاة
التي قد استوى فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء ما يشبه صلاة من
صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلى خلف غيره ; لأن أخذ الزكاة فائدتها توصيلها
للمساكين , وليس فيها فضل للمعطى كما في الصلاة فضل للمصلي خلفه . قوله تعالى : "
فلتقم طائفة منهم معك { يعني جماعة منهم تقف معك في الصلاة .{ ليأخذوا أسلحتهم }
يعني الذين يصلون معك . ويقال : { وليأخذوا أسلحتهم { الذين هم بإزاء العدو , على ما
يأتي بيانه . ولم يذكر الله تعالى في الآية لكل طائفة إلا ركعة واحدة , ولكن روي في
الأحاديث أنهم أضافوا إليها أخرى , على ما يأتي . وحذفت الكسرة من قوله : { فلتقم }
و { فليكونوا { لثقلها . وحكى الأخفش والفراء والكسائي أن لام الأمر ولام كي ولام
الجحود يفتحن . وسيبويه يمنع من ذلك لعلة موجبة , وهي الفرق بين لام الجر ولام
التأكيد . والمراد من هذا الأمر الانقسام , أي وسائرهم وجاه العدو حذرا من توقع
حملته . وقد اختلفت الروايات في هيئة صلاة الخوف , واختلف العلماء لاختلافها , فذكر
ابن القصار أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في عشرة مواضع . قال ابن العربي : روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة . وقال الإمام أحمد
بن حنبل , وهو إمام أهل الحديث والمقدم في معرفة علل النقل فيه : لا أعلم أنه روي
في صلاة الخوف إلا حديث ثابت . وهي كلها صحاح ثابتة , فعلى أي حديث صلى منها المصلي
صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله . وكذلك قال أبو جعفر الطبري . وأما مالك وسائر أصحابه
إلا أشهب فذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث سهل بن أبي حثمة , وهو ما رواه في موطئه عن
يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات الأنصاري أن سهل بن أبي حثمة حدثه
أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه وطائفة مواجهة العدو , فيركع
الإمام ركعة ويسجد بالذين معه ثم يقوم , فإذا استوى قائما ثبت , وأتموا لأنفسهم
الركعة الباقية ثم يسلمون وينصرفون والإمام قائم , فيكونون وجاه العدو , ثم يقبل
الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة ويسجد ثم يسلم ,
فيقومون ويركعون لأنفسهم الركعة الباقية ثم يسلمون . قال ابن القاسم صاحب مالك :
والعمل عند مالك على حديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات . قال ابن القاسم : وقد
كان يأخذ بحديث مزيد بن رومان ثم رجع إلى هذا . قال أبو عمر : حديث القاسم وحديث
يزيد بن رومان كلاهما عن صالح بن خوات : إلا أن بينهما فصلا في السلام , ففي حديث
القاسم أن الإمام يسلم بالطائفة الثانية ثم يقومون فيقضون لأنفسهم الركعة , وفي
حديث يزيد بن رومان أنه ينتظرهم ويسلم بهم . وبه قال الشافعي وإليه ذهب ; قال
الشافعي : حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات هذا أشبه الأحاديث في صلاة الخوف
بظاهر كتاب الله , وبه أقول . ومن حجة مالك في اختياره حديث القاسم القياس على سائر
الصلوات , في أن الإمام ليس له أن ينتظر أحدا سبقه بشيء منها , وأن السنة المجتمع
عليها أن يقضي المأمومون ما سبقوا به بعد سلام الإمام . وقول أبي ثور في هذا الباب
كقول مالك , وقال أحمد كقول الشافعي في المختار عنده , وكان لا يعيب من فعل شيئا من
الأوجه المروية في صلاة الخوف . وذهب أشهب من أصحاب مالك إلى حديث ابن عمر قال : صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى
مواجهة العدو , ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدو , وجاء أولئك ثم
صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم , ثم قضى
هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة . وقال ابن عمر : فإذا كان خوف أكثر من ذلك صلى راكبا أو
قائما يومئ إيماء , أخرجه البخاري ومسلم ومالك وغيرهم . وإلى هذه الصفة ذهب الأوزاعي
, وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر , قال : لأنه أصحها إسنادا , وقد ورد بنقل
أهل المدينة وبهم الحجة على من خالفهم , ولأنه أشبه بالأصول , لأن الطائفة الأولى
والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة , وهو
المعروف من سنته المجتمع عليها في سائر الصلوات . وأما الكوفيون : أبو حنيفة وأصحابه
إلا أبا يوسف القاضي يعقوب فذهبوا إلى حديث عبد الله بن مسعود , أخرجه أبو داود
والدارقطني قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقاموا صفين , صفا
خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا مستقبل العدو , فصلى بهم النبي صلى الله عليه
وسلم ركعة , وجاء الآخرون فقاموا مقامهم , واستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم سلم , فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا
فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو , ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم
سلموا . وهذه الصفة والهيئة هي الهيئة المذكورة في حديث ابن عمر إلا أن بينهما فرقا
; وهو أن قضاء أولئك في حديث ابن عمر يظهر أنه في حالة واحدة ويبقى الإمام كالحارس
وحده , وهاهنا قضاؤهم متفرق على صفة صلاتهم . وقد تأول بعضهم حديث ابن عمر على ما
جاء في حديث ابن مسعود . وقد ذهب إلى حديث ابن مسعود الثوري - في إحدى الروايات
الثلاث عنه - وأشهب بن عبد العزيز فيما ذكر أبو الحسن اللخمي عنه , والأول ذكره أبو
عمر وابن يونس وابن حبيب عنه . وروى أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر أنه
عليه السلام صلى بكل طائفة ركعة ولم يقضوا , وهو مقتضى حديث ابن عباس { وفي الخوف
ركعة } . وهذا قول إسحاق . وقد تقدم في { البقرة { الإشارة إلى هذا , وأن الصلاة أولى
بما احتيط لها , وأن حديث ابن عباس لا تقوم به حجة , وقوله في حديث حذيفة وغيره : "
ولم يقضوا { أي في علم من روى ذلك , لأنه قد روي أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة
بعينها , وشهادة من زاد أولى . ويحتمل أن يكون المراد لم يقضوا , أي لم يقضوا إذا
أمنوا , وتكون فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة من الصلوات
في الخوف , قال جميعه أبو عمر . وفي صحيح مسلم عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام صلى
بطائفة ركعتين ثم تأخروا , وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين . قال : فكان لرسول الله صلى
الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان . وأخرجه أبو داود والدارقطني من حديث
الحسن عن أبي بكرة وذكرا فيه أنه سلم من كل ركعتين . وأخرجه الدارقطني أيضا عن الحسن
عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين ثم سلم , ثم صلى بالآخرين
ركعتين ثم سلم . قال أبو داود : وبذلك كان الحسن يفتي , وروي عن الشافعي . وبه يحتج
كل من أجاز اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة , وهو مذهب الشافعي والأوزاعي
وابن علية وأحمد بن حنبل وداود . وعضدوا هذا بحديث جابر : إن معاذا كان يصلي مع
النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يأتي فيؤم قومه , الحديث . وقال الطحاوي : إنما
كان هذا في أول الإسلام إذ كان يجوز أن تصلي الفريضة مرتين ثم نسخ ذلك , والله أعلم
. فهذه أقاويل العلماء في صلاة الخوف . وهذه الصلاة المذكورة في القرآن إنما يحتاج
إليها والمسلمون مستدبرون القبلة ووجه العدو القبلة , وإنما اتفق هذا بذات الرقاع ,
فأما بعسفان والموضع الآخر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة . وما ذكرناه من سبب
النزول في قصة خالد بن الوليد لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين , فإن في الحديث
بعد قوله : { فأقمت لهم الصلاة { قال : فحضرت الصلاة فأمرهم النبي صلى الله عليه
وسلم أن يأخذوا السلاح وصفنا خلفه صفين , قال : ثم ركع فركعنا جميعا , قال : ثم رفع
فرفعنا جميعا , قال : ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه قال :
والآخرون قيام يحرسونهم , فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم , قال :
ثم تقدم هؤلاء في مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء , قال : ثم ركع فركعوا
جميعا , ثم رفع فرفعوا جميعا , ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه ,
والأخرون قيام , يحرسونهم فلما جلس الآخرون سجدوا ثم سلم عليهم . قال : فصلاها رسول
الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة بعسفان ومرة في أرض بني سليم . وأخرجه أبو داود
من حديث أبي عياش الزرقي وقال : وهو قول الثوري وهو أحوطها . وأخرجه أبو عيسى
الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضجنان وعسفان ;
الحديث . وفيه أنه عليه السلام صدعهم صدعين وصلى بكل طائفة ركعة , فكانت للقوم ركعة
ركعة , وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان , قال : حديث حسن صحيح غريب . وفي الباب عن
عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وجابر وأبي عياش الزرقي واسمه زيد بن
الصامت , وابن عمر وحذيفة وأبي بكر وسهل بن أبي حثمة . قلت : ولا تعارض بين هذه
الروايات , فلعله صلى بهم صلاة كما جاء في حديث أبي عياش مجتمعين , وصلى بهم صلاة
أخرى متفرقين كما جاء في حديث أبي هريرة , ويكون فيه حجة لمن يقول صلاة الخوف ركعة
. قال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة
وأشكال متباينة , يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة . واختلفوا
في كيفية صلاة المغرب , فروى الدارقطني عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالقوم صلاة المغرب ثلاث ركعات ثم انصرفوا , وجاء الآخرون فصلى بهم
ثلاث ركعات , فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ستا وللقوم ثلاثا ثلاثا , وبه قال
الحسن . والجمهور في صلاة المغرب على خلاف هذا , وهو أنه يصلي بالأولى ركعتين
وبالثانية ركعة , وتقضي على اختلاف أصولهم فيه متى يكون ؟ هل قبل سلام الإمام أو
بعده . هذا قول مالك وأبي حنيفة , لأنه أحفظ لهيئة الصلاة . وقال الشافعي : يصلى
بالأولى ركعة , لأن عليا رضي الله عنه فعلها ليلة الهرير , والله تعالى أعلم .
واختلفوا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدة القتال وخيف خروج الوقت فقال مالك
والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء : يصلى كيفما أمكن , لقول ابن عمر : فإن
كان خوف أكثر من ذلك فيصلي راكبا أو قائما يومئ إيماء . قال في الموطأ : مستقبل
القبلة وغير مستقبلها , وقد تقدم في { البقرة { قول الضحاك وإسحاق . وقال الأوزاعي :
إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه ; فإن لم يقدروا
على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلوا ركعتين , فإن لم يقدروا
صلوا ركعة سجدتين , فإن لم يقدروا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا ; وبه قال
مكحول . قلت : وحكاه الكيا الطبري في { أحكام القرآن { له عن أبي حنيفة وأصحابه ,
قال الكيا : وإذا كان الخوف أشد من ذلك وكان التحام القتال فإن المسلمين يصلون على
ما أمكنهم مستقبلي القبلة ومستدبريها , وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة متفقون على أنهم
لا يصلون والحالة هذه بل يؤخرون الصلاة . وإن قاتلوا في الصلاة قالوا : فسدت الصلاة
وحكي عن الشافعي أنه إن تابع الطعن والضرب فسدت صلاته . قلت : وهذا القول يدل على
صحة قول أنس : حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر , واشتد اشتعال القتال فلم
نقدر على الصلاة إلا بعد ارتفاع النهار ; فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا . قال
أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها , ذكره البخاري وإليه كان يذهب شيخنا
الأستاذ أبو جعفر أحمد بن محمد بن محمد القيسي القرطبي المعروف بأبي حجة ; وهو
اختيار البخاري فيما يظهر ; لأنه أردفه بحديث جابر , قال : جاء عمر يوم الخندق فجعل
يسب كفار قريش ويقول : يا رسول الله , ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب , فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : ( وأنا والله ما صليتها ) قال : فنزل إلى بطحان فتوضأ
وصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدها . واختلفوا في صلاة الطالب
والمطلوب ; فقال مالك وجماعة من أصحابه هما سواء , كل واحد منهما يصلي على دابته
. وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء أصحاب الحديث وابن عبد الحكم : لا يصلي الطالب إلا
بالأرض وهو الصحيح ; لأن الطلب تطوع , والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلي بالأرض حيثما
أمكن ذلك , ولا يصليها راكب إلا خائف شديد خوفه وليس كذلك الطالب . والله أعلم .
واختلفوا أيضا في العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا صلاة الخوف ثم بان لهم
أنه غير شيء ; فلعلمائنا فيه روايتان : إحداهما يعيدون , وبه قال أبو حنيفة
. والثانية لا إعادة عليهم , وهو أظهر قولي الشافعي . ووجه الأولى أنهم تبين لهم
الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم . ووجه الثانية أنهم عملوا على اجتهادهم فجاز
لهم كما لو أخطئوا القبلة ; وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به . وقد يقال : يعيدون
في الوقت , فأما بعد خروجه فلا . والله أعلم . فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ الضمير في { سجدوا { للطائفة المصلية
فلينصرفوا ; هذا على بعض الهيئات المروية . وقيل : المعنى فإذا سجدوا ركعة القضاء ;
وهذا على هيئة سهل بن أبي حثمة . ودلت هذه الآية على أن السجود قد يعبر به عن جميع
الصلاة ; وهو كقوله عليه السلام : ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين ) . أي
فليصل ركعتين وهو في السنة . والضمير في قوله : { فليكونوا { يحتمل أن يكون للذين
سجدوا , ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو . { وليأخذوا أسلحتهم }
وقال : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم { هذا وصاة بالحذر وأخذ السلاح لئلا ينال العدو
أمله ويدرك فرصته . والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب , قال عنترة : كسوت
الجعد بني أبان سلاحي بعد عري وافتضاح يقول : أعرته سلاحي ليمتنع بها بعد عريه من
السلاح . قال ابن عباس : { وليأخذوا أسلحتهم { يعني الطائفة التي وجاه العدو , لأن
المصلية لا تحارب . وقال غيره : هي المصلية أي وليأخذ الذين صلوا أولا أسلحتهم ,
ذكره , الزجاج . قال : ويحتمل أن تكون الطائفة الذين هم في الصلاة أمروا بحمل السلاح
; أي فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإنه أرهب للعدو . النحاس : يجوز أن
يكون للجميع ; لأنه أهيب . للعدو . ويحتمل أن يكون للتي وجاه العدو خاصة . قال أبو عمر
: أكثر أهل العلم يستحبون للمصلي أخذ سلاحه إذا صلى في الخوف , ويحملون قوله : "
وليأخذوا أسلحتهم { على الندب ; لأنه شيء لولا الخوف لم يجب أخذه ; فكان الأمر به
ندبا . وقال أهل الظاهر : أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به , إلا لمن كان
به أذى من مطر , فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه . قال ابن العربي : إذا صلوا أخذوا
سلاحهم عند الخوف , وبه قال الشافعي وهو نص القرآن . وقال أبو حنيفة : لا يحملونها ;
لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها . قلنا : لم يجب حملها لأجل الصلاة
وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا . وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ أي تمنى وأحب الكافرون غفلتكم عن أخذ السلاح
ليصلوا إلى مقصودهم ; فبين الله تعالى بهذا وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح , وذكر
الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى ; لأنها أولى بأخذ الحذر , لأن العدو لا يؤخر
قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة ; وأيضا يقول العدو قد أثقلهم السلاح وكلوا . وفي
هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب , واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب , ويوصل إلى
السلامة , ويبلغ دار الكرامة . فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً مبالغة
, أي مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية . وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ
بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
للعلماء في وجوب حمل السلاح في الصلاة كلام قد أشرنا إليه , فإن لم يجب فيستحب
للاحتياط . ثم رخص في المطر وضعه ; لأنه تبتل المبطنات وتثقل ويصدأ الحديد . وقيل :
نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة لما انهزم المشركون وغنم المسلمون ;
وذلك أنه كان يوما مطيرا وخرج النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته واضعا سلاحه ,
فرآه الكفار منقطعا عن أصحابه فقصده غورث بن الحارث فانحدر عليه من الجبل بسيفه ,
فقال : من يمنعك مني اليوم ؟ فقال : ( الله ) ثم قال : ( اللهم اكفني الغورث بما
شئت ) . فأهوى بالسيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه , فانكب لوجهه لزلقة
زلقها . وذكر الواقدي أن جبريل عليه السلام دفعه في صدره على ما يأتي في المائدة ,
وسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ( من يمنعك مني يا غورث )
؟ فقال : لا أحد . فقال : ( تشهد لي بالحق وأعطيك سيفك ) ؟ قال : لا ; ولكن أشهد ألا
أقاتلك بعد هذا ولا أعين عليك عدوا ; فدفع إليه السيف ونزلت الآية رخصة في وضع
السلاح في المطر . ومرض عبد الرحمن بن عوف من جرح كما في صحيح البخاري , فرخص الله
سبحانه لهم في ترك السلاح والتأهب للعدو بعذر المطر , ثم أمرهم فقال : { خذوا حذركم
{ أي كونوا متيقظين , وضعتم السلاح أو لم تضعوه . وهذا يدل على تأكيد التأهب والحذر
من العدو في كل الأحوال وترك الاستسلام ; فإن الجيش ما جاءه مصاب قط إلا من تفريط
في حذر , وقال الضحاك في قوله تعالى : { وخذوا حذركم { يعني تقلدوا سيوفكم فإن ذلك
هيئة الغزاة .
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى
جُنُوبِكُمْ { قضيتم { معناه فرغتم من صلاه الخوف وهذا يدل على أن القضاء يستعمل
فيما قد فعل في وقته ; ومنه قوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } [ البقرة : 200 ]
وقد تقدم . الثانية : قوله تعالى : { فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم { ذهب
الجمهور إلى أن هذا الذكر المأمور به . إنما هو إثر صلاة الخوف ; أي إذا فرغتم من
الصلاة فاذكروا الله بالقلب واللسان , على أي حال كنتم { قياما وقعودا وعلى جنوبكم
{ وأديموا ذكره بالتكبير والتهليل والدعاء بالنصر لا سيما في حال القتال . ونظيره }
إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } [ الأنفال : 45 ] . ويقال
: { فإذا قضيتم الصلاة { بمعنى إذا صليتم في دار الحرب فصلوا على الدواب , أو قياما
أو قعودا أو على جنوبكم إن لم تستطيعوا القيام , إذا كان خوفا أو مرضا ; كما قال
تعالى في آية أخرى : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } [ البقرة : 239 ] وقال قوم :
هذه الآية نظيرة التي في { آل عمران } ; فروي أن عبد الله بن مسعود رأى الناس يضجون
في المسجد فقال : ما هذه الضجة ؟ قالوا : أليس الله تعالى يقول { فاذكروا الله
قياما وقعودا وعلى جنوبكم { ؟ قال : إنما يعني بهذا الصلاة المكتوبة إن لم تستطع
قائما فقاعدا , وإن لم تستطع فصل على جنبك . فالمراد نفس الصلاة ; لأن الصلاة ذكر
الله تعالى , وقد اشتملت على الأذكار المفروضة والمسنونة ; والقول الأول أظهر
. والله أعلم . فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أي أمنتم . والطمأنينة سكون النفس من الخوف .
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ أي فأتوها بأركانها وبكمال هيئتها في السفر , وبكمال عددها
في الحضر . إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا أي
مؤقتة مفروضة . وقال زيد بن أسلم : { موقوتا { منجما , أي تؤدونها في أنجمها ;
والمعنى عند أهل اللغة : مفروض لوقت بعينه ; يقال : وقته فهو موقوت . ووقته فهو مؤقت
. وهذا قول زيد بن أسلم بعينه . وقال : { كتابا { والمصدر مذكر ; فلهذا قال : "
موقوتا } .
وَلَا تَهِنُوا أي لا تضعفوا , وقد تقدم في { آل عمران } . فِي ابْتِغَاءِ
الْقَوْمِ طلبهم قيل : نزلت في حرب أحد حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج
في آثار المشركين , وكان بالمسلمين جراحات , وكان أمر ألا يخرج معه إلا من كان في
الوقعة , كما تقدم في { آل عمران { وقيل : هذا في كل جهاد . إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ
مَا لَا يَرْجُونَ { إن تكونوا تألمون { أي تتألمون مما أصابكم من الجراح فهم
يتألمون أيضا مما يصيبهم , ولكم مزية وهي أنكم ترجون ثواب الله وهم لا يرجونه ; ولك
أن من لا يؤمن بالله لا يرجون من الله شيئا . ونظير هذه الآية { إن يمسسكم قرح فقد
مس القوم قرح مثله } [ آل عمران : 140 ] وقد تقدم . وقرأ عبد الرحمن الأعرج { أن
تكونوا { بفتح الهمزة , أي لأن وقرأ منصور بن المعتمر { إن تكونوا تألمون { بكسر
التاء . ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقل الكسر فيها . ثم قيل : الرجاء هنا
بمعنى الخوف ; لأن من رجا شيئا فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف فوت ما يرجو
. وقال الفراء والزجاج : لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي ; كقوله تعالى : "
ما لكم لا ترجون لله وقارا } [ نوح : 13 ] أي لا تخافون لله عظمة . وقوله تعالى : "
للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] أي لا يخافون . قال القشيري : ولا يبعد
ذكر الخوف من غير أن يكون في الكلام نفي , ولكنهما ادعيا أنه لم يوجد ذلك إلا مع
النفي . والله أعلم . وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا بجميع المعلومات حَكِيمًا فيما حكم
وأبرم .
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ في
هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه , وتقويم أيضا
على الجادة في الحكم , وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق ! وكانوا ثلاثة
إخوة : بشر وبشير ومبشر , وأسير بن عروة ابن عم لهم ; نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في
الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما , فعثر على ذلك . وقيل إن السارق بشير وحده , وكان
يكنى أبا طعمة أخذ درعا ; قيل : كان الدرع في جراب فيه دقيق , فكان الدقيق ينتثر من
خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره , فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان
يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : يا رسول الله , إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم
بالسرقة ورموهم بها من غير بينة ; وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه
وسلم على قتادة ورفاعة ; فأنزل الله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم }
[ النساء : 107 ] الآية . وأنزل الله تعالى : { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به
بريئا } [ النساء : 112 ] وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل . وقيل : زيد
بن السمين وقيل : رجل من الأنصار . فلما أنزل الله ما أنزل , هرب ابن أبيرق السارق
إلى مكة , ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد ; فقال فيها حسان بن ثابت بيتا يعرض فيه
بها , وهو : وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه ظننتم بأن يخفى
الذي قد صنعتمو وفينا نبي عنده الوحي واضعه فلما بلغها قالت : إنما أهديت لي شعر
حسان ; وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل , فهرب إلى خيبر وارتد . ثم إنه نقب بيتا ذات
ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا . ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي
وقال : حديث حسن غريب , لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني . وذكره الليث
والطبري بألفاظ مختلفة . وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره , والقشيري كذلك وزاد
ذكر الردة . ثم قيل : كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل يهوديين . وقيل : كان لبيد
مسلما . وذكره المهدوي , وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له , فدل ذلك على إسلامه
عنده . وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعر غيره
, وكان المسلمون يقولون : والله ما هو إلا شعر الخبيث . فقال شعرا يتنصل فيه ; فمنه
قوله : أوكلما قال الرجال قصيدة نحلت وقالوا ابن الأبيرق قالها وقال الضحاك : أراد
النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا , فجاءت اليهود شاكين في السلاح
فأخذوه وهربوا به ; فنزل { ها أنتم هؤلاء } [ النساء : 109 ] يعني اليهود . والله
أعلم . بِمَا أَرَاكَ اللهُ معناه على قوانين الشرع ; إما بوحي ونص , أو بنظر جار
على سنن الوحي . وهذا أصل في القياس , وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا
رأى شيئا أصاب ; لأن الله تعالى أراه ذلك , وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ;
فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه , ولم يرد رؤية العين هنا ; لأن
الحكم لا يرى بالعين . وفي الكلام إضمار , أي بما أراكه الله , وفيه إضمار آخر ,
وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم . وَلَا تَكُنْ
لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا اسم فاعل ; كقولك : جالسته فأنا جليسه , ولا يكون فعيلا
هنا بمعنى مفعول ; يدل على ذلك { ولا تجادل { فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء
. وقيل : خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا . فنهى الله عز وجل رسوله عن عضد أهل التهم
والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة . وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل
والمتهم في الخصومة لا تجوز . فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه
محق . ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس ; فبين أن مال الكافر
محفوظ عليه كمال المسلم , إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى . قال العلماء : ولا
ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا
عنهم ; فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى : "
ولا تكن للخائنين خصيما { وقوله : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ النساء
: 107 ] . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من
المسلمين دونه لوجهين : أحدهما : أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله : { ها
أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } [ النساء : 109 ] . والآخر : أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم , ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى
غيره , فدل على أن القصد لغيره .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ قال مكي رحمه الله : هذه الآيات الثلاث
عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما ; قال ابن عطية : هذا
كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها ; وذلك بين من كتابه رحمه الله . قلت : ما ذكره
مكي - رحمه الله - ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا , ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات
نزلت بسبب تميم الداري وعدي بن بداء . روى البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس
قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة , فخرج معهما فتى من بني سهم
فتوفي بأرض ليس بها مسلم , فأوصى إليهما ; فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة
مخوصا بالذهب , فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما كتمتما ولا اطلعتما )
ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم , فجاء رجلان من ورثة السهمي
فحلفا أن هذا الجام للسهمي , ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ; قال : فأخذوا
الجام ; وفيهم نزلت هذه الآية . لفظ الدارقطني , وروى الترمذي عن تميم الداري في هذه
الآية { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم { برئ منها الناس غيري وغير عدي بن بداء -
وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام , فأتيا الشام بتجارتهما , وقدم
عليهما مولى لبني سهم يقال له : بديل بن أبي مريم بتجارة , ومعه جام من فضة يريد به
الملك , وهو عظم تجارته , فمرض فأوصى إليهما , وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله ; قال
تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناها أنا وعدي بن بداء ,
فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا , وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا :
ما ترك غير هذا , وما دفع إلينا غيره ; قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله
صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك , فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر , وأديت
إليهم خمسمائة درهم , وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها , فأتوا به إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا , فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل
دينه , فحلف فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم { إلى قوله }
بعد أيمانهم { فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدي
بن بداء . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح , وذكر الواقدي أن الآيات
الثلاث نزلت في تميم وأخيه عدي , وكانا نصرانيين , وكان متجرهما إلى مكة , فلما
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص
المدينة وهو يريد الشام تاجرا , فخرج مع تميم وأخيه عدي ; وذكر الحديث , وذكر
النقاش قال : نزلت في بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي ; كان خرج مسافرا
في البحر إلى أرض النجاشي , ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميما وكان من لخم
وعدي بن بداء , فمات بديل وهم في السفينة فرمي به في البحر , وكان كتب وصيته ثم
جعلها في المتاع فقال : أبلغا هذا المتاع أهلي , فلما مات بديل قبضا المال , فأخذا
منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال , منقوش مموه 266
بالذهب ; وذكر الحديث , وذكره سنيد وقال : فلما قدموا الشام مرض بديل وكان مسلما ;
الحديث . وقوله تعالى : { شهادة بينكم { ورد { شهد { في كتاب الله تعالى بأنواع
مختلفة : منها قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ( البقرة : 282 ] قيل :
معناه أحضروا , ومنها { شهد { بمعنى قضى أي أعلم ; قاله أبو عبيدة كقوله تعالى : "
شهد الله أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] , ومنها { شهد { بمعنى أقر ; كقوله
تعالى : { والملائكة يشهدون } [ النساء : 166 ] . ومنها { شهد { بمعنى حكم ; قال
الله تعالى : { وشهد شاهد من أهلها } [ يوسف : 26 ] , ومنها { شهد { بمعنى حلف ;
كما في اللعان .{ وشهد { بمعنى وصى ; كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة
بينكم { وقيل : معناها هنا الحضور للوصية ; يقال : شهدت وصية فلان أي حضرتها , وذهب
الطبري إلى أن الشهادة بمعنى اليمين ; فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان ;
واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدى للمشهود له بأنه لا يعلم لله حكم يجب فيه
على الشاهد يمين , واختار هذا القول القفال . وسميت اليمين شهادة ; لأنه يثبت بها
الحكم كما يثبت بالشهادة , واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تحفظ
فتؤدى , وضعف كونها بمعنى الحضور واليمين . وقوله تعالى : { بينكم { قيل : معناه ما
بينكم فحذفت { ما { وأضيفت الشهادة إلى الظرف , واستعمل اسما على الحقيقة , وهو
المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة ; كما قال ويوما شهدناه سليما وعامرا قليل
سوى الطعن النهال 267 نوافله أراد شهدنا فيه , وقال تعالى : { بل مكر الليل والنهار
" [ سبأ : 33 ] أي مكركم فيهما , وأنشد : تصافح من لاقيت لي ذا عداوة صفاحا وعني
بين عينيك منزوي أراد ما بين عينيك فحذف ; ومنه قوله تعالى : { هذا فراق بيني وبينك
" [ الكهف : 78 ] أي ما بيني وبينك . بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ معناه إذا
قارب الحضور , وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت , وهذا كقوله تعالى : { فإذا قرأت
القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] , وكقوله : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن } [
الطلاق : 1 ] ومثله كثير , والعامل في { إذا { المصدر الذي هو { شهادة } .
الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ { حين { ظرف زمان والعامل فيه { حضر { وقوله : "
اثنان { يقتضي بمطلقه شخصين , ويحتمل رجلين , إلا أنه لما قال بعد ذلك : { ذوا عدل
{ بين أنه أراد رجلين ; لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر , كما أن { ذواتا } [ الرحمن :
48 ] لا يصلح إلا للمؤنث , وارتفع { اثنان { على أنه خبر المبتدإ الذي هو { شهادة }
قال أبو علي { شهادة { رفع بالابتداء والخبر في قوله : { اثنان { التقدير شهادة
بينكم في وصاياكم شهادة اثنين ; فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ; كما قال
تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] أي مثل أمهاتهم , ويجوز أن يرتفع }
اثنان { ب { شهادة } ; التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان , أو
ليقم الشهادة اثنان . اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ { ذوا عدل { صفة لقوله : { اثنان { و }
منكم { صفة بعد صفة , وقوله : { أو آخران من غيركم { أي أو شهادة آخرين من غيركم ;
فمن غيركم صفة لآخرين , وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية , والتحقيق فيه أن يقال
: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال : الأول : أن الكاف والميم في قوله : { منكم }
ضمير للمسلمين { وآخران من غيركم { للكافرين فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على
المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية , وهو الأشبه بسياق الآية , مع ما تقرر من
الأحاديث , وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل ; أبو موسى الأشعري وعبد
الله بن قيس وعبد الله بن عباس فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن
الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين
, فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض , ولم يكن معه أحد من المؤمنين , فليشهد
شاهدين ممن حضره من أهل الكفر , فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة
أنهما ما كذبا وما بدلا , وأن ما شهدا به حق , ما كتما فيه شهادة وحكم بشهادتهما ;
فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا , ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء
الموصي في السفر , وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما . هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى
الأشعري , وسعيد بن المسيب , ويحيى بن يعمر ; وسعيد بن جبير وأبي مجلز وإبراهيم
وشريح وعبيدة السلماني ; وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم , وقال
به من الفقهاء سفيان الثوري ; ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به ,
واختاره أحمد بن حنبل وقال : شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم
المسلمين كلهم يقولون { منكم { من المؤمنين ومعنى { من غيركم { يعني الكفار . قال
بعضهم : وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة ; وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة
أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة , والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشريح
وغيرهما . القول الثاني : أن قوله سبحانه : { أو آخران من غيركم { منسوخ ; هذا قول
زيد بن أسلم والنخعي ومالك ; والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء ; إلا أن أبا
حنيفة خالفهم فقال : تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض ; ولا تجوز على المسلمين
واحتجوا بقوله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } [ البقرة : 282 ] وقوله : "
وأشهدوا ذوي عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] ; فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل
; وأن فيها { ممن ترضون من الشهداء { فهو ناسخ لذلك ; ولم يكن الإسلام يومئذ إلا
بالمدينة ; فجازت شهادة أهل الكتاب ; وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار ; وقد
أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز ; والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم . قلت :
ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه ; وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على
المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم ; وأما مع وجود مسلم
فلا ; ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل ; وقد قال بالأول ثلاثة
من الصحابة وليس ذلك في غيره ; ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم ,
ويقوي هذا أن سورة { المائدة { من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن
وغيرهما : إنه لا منسوخ فيها , وما ادعوه من النسخ لا يصح فإن النسخ لا بد فيه من
إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ ; فما ذكروه لا يصح أن
يكون ناسخا ; فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة ; ولا يمتنع اختلاف
الحكم عند الضرورات ; ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم يرتضيه عند الضرورة ;
فليس فيما قالوه ناسخ . القول الثالث أن الآية لا نسخ فيها ; قاله الزهري والحسن
وعكرمة , ويكون معنى قوله : { منكم { أي من عشيرتكم وقرابتكم ; لأنهم أحفظ وأضبط
وأبعد عن النسيان . مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ أي من غير القرابة والعشيرة ; قال
النحاس : وهذا ينبني على معنى غامض في العربية ; وذلك أن معنى { آخر { في العربية
من جنس الأول ; تقول : مررت بكريم وكريم آخر ; فقوله { آخر { يدل على أنه من جنس
الأول ; ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر ; ولا مررت برجل وحمار آخر
; فوجب من هذا أن يكون معنى قوله : { أو آخران من غيركم { أي عدلان ; والكفار لا
يكونون عدولا فيصح على هذا قول من قال { من غيركم { من غير عشيرتكم من المسلمين ,
وهذا معنى حسن من جهة اللسان ; وقد يحتج به لمالك ومن قال بقوله ; لأن المعنى عندهم
{ من غيركم { من غير قبيلتكم على أنه قد عورض هذا القول بأن في أول الآية { يا أيها
الذين آمنوا { فخوطب الجماعة من المؤمنين . واستدل أبو حنيفة بهذه الآية على جواز
شهادة الكفار من أهل الذمة فيما بينهم ; قال : ومعنى { أو آخران من غيركم { أي من
غير أهل دينكم ; فدل على جواز شهادة بعضهم على بعض ; فيقال له : أنت لا تقول بمقتضى
هذه الآية ; لأنها نزلت في قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين وأنت لا تقول بها ,
فلا يصح احتجاجك بها . فإن قيل : هذه الآية دلت على جواز قبول شهادة أهل الذمة على
المسلمين من طريق النطق ; ودلت على قبول شهادتهم على أهل الذمة من طريق التنبيه ;
وذلك أنه إذا قبلت شهادتهم على المسلمين فلأن تقبل على أهل الذمة أولى ; ثم دل
الدليل على بطلان شهادتهم على المسلمين ; فبقي شهادتهم على أهل الذمة على ما كان
عليه ; وهذا ليس بشيء ; لأن قبول شهادة أهل الذمة على أهل الذمة فرع لقبول شهادتهم
على المسلمين ; فإذا بطلت شهادتهم على المسلمين وهي الأصل فلأن تبطل شهادتهم على
أهل الذمة وهي فرعها أحرى وأولى . والله أعلم . غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ أي سافرتم ; وفي الكلام حذف تقديره إن
أنتم ضربتم في الأرض { فأصابتكم مصيبة الموت { فأوصيتم إلى اثنين عدلين في ظنكم ;
ودفعتم إليهما ما معكم من المال ; ثم متم وذهبا إلى ورثتكم بالتركة فارتابوا في
أمرهما ; وادعوا عليهما خيانة ; فالحكم أن تحبسوهما من بعد الصلاة ; أي تستوثقوا
منهما ; وسمى الله تعالى الموت في هذه الآية مصيبة ; قال علماؤنا : والموت وإن كان
مصيبة عظمى , ورزية كبرى ; فأعظم منه الغفلة عنه , والإعراض عن ذكره , وترك التفكر
فيه ; وترك العمل له ; وإن فيه وحده لعبرة لمن اعتبر , وفكرة لمن تفكر , وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لو أن البهائم تعلم من الموت ما تعلمون ما
أكلتم منها سمينا ) , ويروى أن أعرابيا كان يسير على جمل له ; فخر الجمل ميتا فنزل
الأعرابي عنه , وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول : ما لك لا تقوم ؟ ! ما لك لا تنبعث
؟ ! هذه أعضاؤك كاملة , وجوارحك سالمة ; ما شأنك ؟ ! ما الذي كان يحملك ؟ ! ما الذي
كان يبعثك ؟ ! ما الذي صرعك ؟ ! ما الذي عن الحركة منعك ؟ ! ثم تركه وانصرف متفكرا
في شأنه , متعجبا من أمره . الْمَوْتِ قال أبو علي : { تحبسونهما { صفة ل { آخران }
واعترض بين الصفة والموصوف بقوله : { إن أنتم } , وهذه الآية أصل في حبس من وجب
عليه حق ; والحقوق على قسمين : منها ما يصلح استيفاؤه معجلا ; ومنها ما لا يمكن
استيفاؤه إلا مؤجلا ; فإن خلي من عليه الحق غاب واختفى وبطل الحق وتوي فلم يكن بد
من التوثق منه ; فإما بعوض عن الحق وهو المسمى رهنا ; وإما بشخص ينوب منابه في
المطالبة والذمة وهو الحميل ; وهو دون الأول ; لأنه يجوز أن يغيب كمغيبه ويتعذر
وجوده كتعذره ; ولكن لا يمكن أكثر من هذا فإن تعذرا جميعا لم يبق إلا التوثق بحبسه
حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حق ; أو تبين عسرته . فإن كان الحق بدنيا لا
يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجلا ; لم يكن فيه إلا التوثق بسجنه
; ولأجل هذه الحكمة شرع السجن ; روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن بهز بن حكيم عن
أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة , وروى أبو داود عن عمرو
بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لي الواجد يحل عرضه
وعقوبته ) . قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له , وعقوبته يحبس له . قال الخطابي :
الحبس على ضربين ; حبس عقوبة , وحبس استظهار , فالعقوبة لا تكون إلا في واجب , وأما
ما كان في تهمة فإنما يستظهر بذلك ليستكشف به ما وراءه ; وقد روي أنه حبس رجلا في
تهمة ساعة من نهار ثم خلى عنه , وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال : كان شريح إذا
قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم فإن أعطاه حقه وإلا أمر به إلى
السجن . تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ يريد صلاة العصر ; قاله الأكثر من العلماء ;
لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة , وقال الحسن
: صلاة الظهر , وقيل : أي صلاة كانت , وقيل : من بعد صلاتهما على أنهما كافران ;
قاله السدي , وقيل : إن فائدة اشتراطه بعد الصلاة تعظيما للوقت , وإرهابا به ;
لشهود الملائكة ذلك الوقت ; وفي الصحيح ( من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله
وهو عليه غضبان ) . وهذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان , والتغليظ يكون بأربعة
أشياء : أحدها : الزمان كما ذكرنا . الثاني : المكان كالمسجد والمنبر , خلافا لأبي
حنيفة وأصحابه حيث يقولون : لا يجب استحلاف أحد عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم
, ولا بين الركن والمقام لا في قليل الأشياء ولا في كثيرها ; وإلى هذا القول ذهب
البخاري - رحمه الله - حيث ترجم ( باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا
يصرف من موضع إلى غيره ) , وقال مالك والشافعي : ويجلب في أيمان القسامة إلى مكة من
كان من أعمالها , فيحلف بين الركن والمقام , ويجلب إلى المدينة من كان من أعمالها ,
فيحلف عند المنبر . الثالث : الحال روى مطرف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعي أنه
يحلف قائما مستقبل القبلة ; لأن ذلك أبلغ في الردع والزجر , وقال ابن كنانة : يحلف
جالسا ; قال ابن العربي : والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن كان قائما
فقائما وإن جالسا فجالسا إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار ذلك من قيام أو جلوس
. قلت : قد استنبط بعض العلماء من قوله في حديث علقمة بن وائل عن أبيه : ( فانطلق
ليحلف ) القيام - والله أعلم - أخرجه مسلم . الرابع : التغليظ باللفظ ; فذهبت طائفة
إلى الحلف بالله لا يزيد عليه ; لقوله تعالى : { فيقسمان بالله { وقوله : { قل إي
وربي } [ يونس : 53 ] وقال : { وتالله لأكيدن أصنامكم } [ الأنبياء : 57 ] وقوله
عليه السلام : ( من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ) , وقول الرجل : والله لا
أزيد عليهن , وقال مالك : يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي حق , وما ادعاه
علي باطل ; والحجة له ما رواه أبو داود حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا
عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : - يعني
لرجل حلفه - ( احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء ) يعني للمدعي ; قال
أبو داود : أبو يحيى اسمه زياد كوفي ثقة ثبت , وقال الكوفيون : يحلف بالله لا غير ,
فإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين ; فيحلفه بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب
والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية الذي يعلم خائنة
الأعين وما تخفي الصدور , وزاد أصحاب الشافعي التغليظ بالمصحف . قال ابن العربي :
وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة , وزعم الشافعي أنه رأى ابن مازن قاضي صنعاء
يحلف بالمصحف ويأمر أصحابه بذلك ويرويه عن ابن عباس , ولم يصح . قلت : وفي كتاب (
المهذب ) وإن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي عن مطرف أن ابن الزبير
كان يحلف على المصحف , قال : ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف ; قال الشافعي :
وهو حسن . قال ابن المنذر : وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق
والعتاق والمصحف . قلت : قد تقدم في الأيمان : وكان قتادة يحلف بالمصحف , وقال أحمد
وإسحاق : لا يكره ذلك ; حكاه عنهما ابن المنذر اختلف مالك والشافعي من هذا الباب في
قدر المال الذي يحلف به في مقطع الحق ; فقال مالك : لا تكون اليمين في مقطع الحق في
أقل من ثلاثة دراهم قياسا على القطع , وكل مال تقطع فيه اليد وتسقط به حرمة العضو
فهو عظيم , وقال الشافعي : لا تكون اليمين في ذلك في أقل من عشرين دينارا قياسا على
الزكاة , وكذلك عند منبر كل مسجد . الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ الفاء في { فيقسمان }
عاطفة جملة على جملة , أو جواب جزاء ; لأن { تحبسونها { معناه احبسوهما , أي لليمين
; فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام كأنه قال : إذا حبستموهما أقسما ; قال ذو
الرمة : وإنسان عيني يحسر الماء مرة فيبدو وتارات يجم فيغرق تقديره عندهم : إذا حسر
بدا . واختلف من المراد بقوله : { فيقسمان { ؟ فقيل : الوصيان إذا ارتيب في قولهما
وقيل : الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بقولهما الحاكم حلفهما . قال ابن العربي
مبطلا لهذا القول : والذي سمعت - وهو بدعة - عن ابن أبي ليلى أنه يحلف الطالب مع
شاهديه أن الذي شهدا به حق ; وحينئذ يقضى له بالحق ; وتأويل هذا عندي إذا ارتاب
الحاكم بالقبض فيحلف إنه لباق , وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه ; هذا في المدعي فكيف
يحبس الشاهد أو يحلف ؟ ! هذا ما لا يلتفت إليه . قلت : وقد تقدم من قول الطبري في
أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمين , وقد قيل : إنما استحلف الشاهدان
لأنهما صارا مدعى عليهما , حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال . بِاللهِ إِنِ
شرط لا يتوجه تحليف الشاهدين إلا به , ومتى لم يقع ريب ولا اختلاف فلا يمين . قال
ابن عطية : أما إنه يظهر من حكم أبي موسى في تحليف الذميين أنه باليمين تكمل
شهادتهما وتنفذ الوصية لأهلها روى أبو داود عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته
الوفاة بدقوقاء هذه , ولم يجد أحدا من المسلمين حضره يشهده على وصيته , فأشهد رجلين
من أهل الكتاب , فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه , وقدما بتركته ووصيته ; فقال
الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ;
فأحلفهما بعد العصر : { بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها
لوصية الرجل وتركته { فأمضى شهادتهما . قال ابن عطية : وهذه الريبة عند من لا يرى
الآية منسوخة تترتب في الخيانة , وفي الاتهام بالميل إلى بعض الموصى لهم دون بعض ,
وتقع مع ذلك اليمين عنده ; وأما من يرى الآية منسوخة فلا يقع تحليف إلا أن يكون
الارتياب في خيانة أو تعد بوجه من وجوه التعدي ; فيكون التحليف عنده بحسب الدعوى
على منكر لا على أنه تكميل للشهادة . قال ابن العربي : يمين الريبة والتهمة على
قسمين : أحدهما : ما تقع الريبة فيه بعد ثبوت الحق وتوجه الدعوى فلا خلاف في وجوب
اليمين . الثاني : التهمة المطلقة في الحقوق والحدود , وله تفصيل بيانه في كتب
الفروع ; وقد تحققت هاهنا الدعوى وقويت حسبما ذكر في الروايات . والشرط في قوله : "
إن ارتبتم { يتعلق بقوله : { تحبسونهما { لا بقوله { فيقسمان { لأن هذا الحبس سبب
القسم . ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا أي يقولان في
يمينهما لا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه بدلا مما أوصى به ولا ندفعه إلى أحد ولو كان
الذي نقسم له ذا قربى منا , وإضمار القول كثير , كقوله : { والملائكة يدخلون عليهم
من كل باب . سلام عليكم } [ الرعد : 23 - 24 ] أي يقولون سلام عليكم . والاشتراء
هاهنا ليس بمعنى البيع , بل هو التحصيل . اللام في قوله : { لا نشتري { جواب لقوله :
{ فيقسمان { لأن أقسم يلتقي بما يلتقي به القسم ; وهو { لا { و } ما { في النفي , "
وإن { واللام في الإيجاب , والهاء في { به { عائد على اسم الله تعالى , وهو أقرب
مذكور ; المعنى : لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض . ويحتمل أن يعود على
الشهادة وذكرت على معنى القول ; كما قال صلى الله عليه وسلم : ( واتق دعوة المظلوم
فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) فأعاد الضمير على معنى الدعوة الذي هو الدعاء ,
وقد تقدم في سورة { النساء } . قوله تعالى : { ثمنا { قال الكوفيون : المعنى ذا ثمن
أي سلعة ذا ثمن , فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه , وعندنا وعند كثير من
العلماء أن الثمن قد يكون هو ويكون السلعة ; فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون
مشترى ; فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد , أو على
عرضين , أو على نقدين ; وعلى هذا الأصل تنبني مسألة : إذا أفلس المبتاع ووجد البائع
متاعه هل يكون أولى به ؟ قال أبو حنيفة : لا يكون أولى به ; وبناه على هذا الأصل ,
وقال : يكون صاحبها أسوة الغرماء , وقال مالك : هو أحق بها في الفلس دون الموت ,
وقال الشافعي : صاحبها أحق بها في الفلس والموت . تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا , وبأن
الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت , وما بأيديهما محل للوفاء ; فيشترك
جميع الغرماء فيه بقدر رءوس أموالهم , ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع
موجودة أو لا , إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع ,
فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها . وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار
رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره . قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ
أي ما أعلمنا الله من الشهادة , وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في ( التحصيل )
وغيره .
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ أي لا تحاجج عن الذين
يخونون أنفسهم ; نزلت في أسير بن عروة كما تقدم . والمجادلة المخاصمة , من الجدل وهو
الفتل ; ومنه رجل مجدول الخلق , ومنه الأجدل للصقر . وقيل : هو من الجدالة وهي وجه
الأرض , فكل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها ; قال العجاج : قد أركب
الحالة بعد الحاله وأترك العاجز بالجداله منعفرا ليست له محاله الجدالة الأرض ; من
ذلك قولهم : تركته مجدلا ; أي مطروحا على الجدالة . إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ أي
لا يرضى عنه ولا ينوه بذكر . مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا خائنا . ( وخوانا ) أبلغ
; لأنه من أبنية المبالغة ; وإنما كان ذلك لعظم قدر تلك الخيانة . والله أعلم .
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ قال الضحاك : لما
سرق الدرع اتخذ حفرة في بيته وجعل الدرع تحت التراب ; فنزلت { يستخفون من الناس ولا
يستخفون من الله { يقول : لا يخفى مكان الدرع على الله وقيل : { يستخفون من الناس }
أي يستترون , كما قال تعالى : { ومن هو مستخف بالليل } [ الرعد : 10 ] أي مستتر
. وقيل : يستحيون من الناس , وهذا لأن الاستحياء سبب الاستتار . وَهُوَ مَعَهُمْ
إِذْ يُبَيِّتُونَ أي رقيب حفيظ عليهم . وقيل { وهو معهم { أي بالعلم والرؤية والسمع
, هذا قول أهل السنة . وقالت الجهمية والقدرية والمعتزلة : هو بكل مكان , تمسكا بهذه
الآية وما كان مثلها , قالوا : لما قال { وهو معهم { ثبت أنه بكل مكان , لأنه قد
أثبت كونه معهم تعالى الله عن قولهم , فإن هذه صفة الأجسام والله تعالى متعال عن
ذلك ألا ترى مناظرة بشر في قول الله عز وجل : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو
رابعهم } [ المجادلة : 7 ] حين قال : هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه : هو في
قلنسوتك وفي حشوك وفي جوف حمارك . تعالى الله عما يقولون ! حكى ذلك وكيع رضي الله
عنه . ومعنى يقولون . قاله الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس . مَا لَا يَرْضَى أي ما
لا يرضاه الله لأهل طاعته . مِنَ الْقَوْلِ أي من الرأي والاعتقاد , كقولك : مذهب
مالك والشافعي . وقيل : { القول { بمعنى المقول ; لأن نفس القول لا يبيت . وَكَانَ
اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا أي أحاط علمه بكل الأشياء .
هَا أَنْتُمْ يريد قوم بشير السارق لما هربوا به وجادلوا عنه . قال الزجاج : { هؤلاء
{ بمعنى الذين . هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ حاججتم عنهم في
الدنيا . الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ استفهام معناه
الإنكار والتوبيخ . الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ الوكيل : القائم
بتدبير الأمور , فالله تعالى قائم بتدبير خلقه . والمعنى : لا أحد لهم يقوم بأمرهم
إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار .
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا قال ابن عباس : عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية ,
أي { ومن يعمل سوءا { بأن يسرق أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بأن يشرك ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا { ثم يستغفر الله { يعني بالتوبة , فإن
الاستغفار باللسان من غير توبة لا ينفع , وقد بيناه في { آل عمران } . وقال الضحاك :
نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة , ثم جاء إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال : إني لنادم فهل لي من توبة ؟ فنزل : { ومن يعمل سوءا أو يظلم
نفسه { الآية . وقيل : المراد بهذه الآية العموم والشمول لجميع الخلق . وروى سفيان عن
أبي إسحاق عن الأسود وعلقمة قالا : قال عبد الله بن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من
سورة { النساء { ثم استغفر غفر له : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله
يجد الله غفورا رحيما } .{ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر
لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما } [ النساء : 64 ] . وروي عن علي رضي الله عنه
أنه قال : كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعني الله به ما
شاء , وإذا سمعته من غيره حلفته , وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال : ما من عبد
يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له , ثم تلا هذه الآية { ومن
يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } .
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قد تقدم
القول في معاني هذه الآية , والوحي في كلام العرب معناه الإلهام ويكون على أقسام :
وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام , ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه
الآية ; أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم ; ومنه قوله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } [
النحل : 68 ] { وأوحينا إلى أم موسى } [ القصص : 7 ] ووحي بمعنى الإعلام في اليقظة
والمنام قال أبو عبيدة : أوحيت بمعنى أمرت , { وإلى { صلة يقال : وحى وأوحى بمعنى ;
قال الله تعالى : { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] وقال العجاج : وحى لها
القرار فاستقرت أي أمرها بالقرار فاستقرت , وقيل : { أوحيت { هنا بمعنى أمرتهم وقيل
: بينت لهم . قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ على الأصل ; ومن
العرب من يحذف إحدى النونين ; أي واشهد يا رب , وقيل : يا عيسى بأننا مسلمون لله .
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا قيل : هما بمعنى واحد كرر لاختلف اللفظ
تأكيدا . وقال الطبري : إنما فرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير
عمد , والإثم لا يكون إلا عن عمد . وقيل : الخطيئة ما لم تتعمده خاصة كالقتل بالخطأ
. وقيل : الخطيئة الصغيرة , والإثم الكبيرة , وهذه الآية لفظها عام يندرج تحته أهل
النازلة وغيرهم . ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا قد تقدم اسم البريء في البقرة . والهاء
في { به { للإثم أو للخطيئة . لأن معناها الإثم , أولهما جميعا . وقيل : ترجع إلى
الكسب . فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا تشبيه ; إذ الذنوب ثقل
ووزر فهي كالمحمولات . وقد قال تعالى : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } [
العنكبوت : 13 ] . والبهتان من البهت , وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه
بريء . وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون ما
الغيبة ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ; قال : ( ذكرك أخاك بما يكره ) . قيل : أفرأيت
إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد
بهته ) . وهذا نص ; فرمي البريء بهت له . يقال : بهته بهتا وبهتا وبهتانا إذا قال
عليه ما لم يفعله . وهو بهات والمقول له مبهوت . ويقال : بهت الرجل ( بالكسر ) إذا
دهش وتحير . وبهت ( بالضم ) مثله , وأفصح منهما بهت , كما قال الله تعالى : { فبهت
الذي كفر } [ البقرة : 258 ] لأنه يقال : رجل مبهوت ولا يقال : باهت ولا بهيت ,
قاله الكسائي .
وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ما بعد { لولا { مرفوع بالابتداء
عند سيبويه , والخبر محذوف لا يظهر , والمعنى : { ولولا فضل الله عليك ورحمته { بأن
نبهك على الحق , وقيل : بالنبوءة والعصمة . لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ
يُضِلُّوكَ عن الحق ; لأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ابن أبيرق
من التهمة ويلحقها اليهودي , فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبهه على
ذلك وأعلمه إياه . وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأنهم يعملون عمل الضالين
, فوباله لهم راجع عليهم . وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ لأنك معصوم . وَأَنْزَلَ
اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ هذا ابتداء كلام . وقيل : الواو للحال , كقولك : جئتك
والشمس طالعة , ومنه قول امرئ القيس : وقد أغتدي والطير في وكناتهما فالكلام متصل ,
أي ما يضرونك من شيء مع إنزال الله عليك القرآن . وَالْحِكْمَةَ القضاء بالوحي .
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
يعني من الشرائع والأحكام وكان فضله عليك كبيرا . و { تعلم { في موضع نصب ; لأنه خبر
كان . وحذفت الضمة من النون للجزم , وحذفت الواو لالتقاء الساكنين .
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير , وذكروه للنبي صلى الله عليه
وسلم . والنجوى : السر بين الاثنين , تقول : ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون
ويتناجون . ونجوت فلانا أنجوه نجوا , أي ناجيته , فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه ,
أي خلصته وأفردته , والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله , قال
الشاعر : فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكين كمن يمشي بقرواح فالنجوى المسارة , مصدر
, وقد تسمى به الجماعة , كما يقال : قوم عدل ورضا . قال الله تعالى : { وإذ هم نجوى
" [ الإسراء : 47 ] فعلى الأول يكون الأمر أمر استثناء من غير الجنس . وهو الاستثناء
المنقطع . وقد تقدم , وتكون { من { في موضع رفع , أي لكن من أمر بصدقة أو معروف أو
إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير . ويجوز أن تكون { من { في موضع خفض ويكون
التقدير : لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف . وعلى الثاني وهو
أن يكون النجوى اسما للجماعة المنفردين , فتكون { من { في موضع خفض على البدل , أي
لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة . أو تكون في موضع نصب على قول من قال
: ما مررت بأحد إلا زيدا . وقال بعض المفسرين منهم الزجاج : النجوى كلام الجماعة
المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا , وفيه بعد . والله أعلم . والمعروف لفظ يعم
أعمال البر كلها . وقال مقاتل : المعروف هنا الفرض , والأول أصح . وقال صلى الله عليه
وسلم : ( كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ) . وقال صلى الله
عليه وسلم : ( المعروف كاسمه وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله ) . وقال
علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره , فقد يشكر
الشاكر بأضعاف جحود الكافر . وقال الحطيئة : من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب
العرف بين الله والناس وأنشد الرياشي : يد المعروف غنم حيث كانت تحملها كفور أو
شكور ففي شكر الشكور لها جزاء وعند الله ما كفر الكفور وقال الماوردي : { فينبغي
لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته , ويبادر به خيفة عجزه , وليعلم
أنه من فرص زمانه , وغنائم إمكانه , ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه , فكم من واثق
بالقدرة فاتت فأعقبت ندما , ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا , كما قال الشاعر : ما
زلت أسمع كم من واثق خجل حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلا ولو فطن لنوائب دهره ,
وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة , ومغارمه مجبورة , فقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال : ( من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى
يغلق عنه ) . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف
السراح ) . وقيل لأنوشروان : ما أعظم المصائب عندكم ؟ قال : أن تقدر على المعروف فلا
تصطنعه حتى يفوت . وقال عبد الحميد : من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها
. وقال بعض الشعراء : إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكونا ولا تغفل عن
الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكونا وكتب بعض ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية
حرمته : أعلى الصراط تريد رعية حرمتي أم في الحساب تمن بالإنعام للنفع في الدنيا
أريدك , فانتبه لحوائجي من رقدة النوام وقال العباس رضي الله عنه : لا يتم المعروف
إلا بثلاث خصال : تعجيله وتصغيره وستره , فإذا عجلته هنأته , وإذا صغرته عظمته ,
وإذا سترته أتممته . وقال بعض الشعراء : زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطير ومن شرط المعروف ترك الامتنان به ,
وترك الإعجاب بفعله , لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر . وقد تقدم في { البقرة
{ بيانه . أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا عام في الدماء والأموال
والأعراض , وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين , وفي كل كلام يراد
به وجه الله تعالى . وفي الخبر : ( كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر
بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله تعالى ) . فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال
الثواب . وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : رد الخصوم حتى يصطلحوا , فإن
فصل القضاء يورث بينهم الضغائن . وسيأتي في { المجادلة { ما يحرم من المناجاة وما
يجوز إن شاء الله تعالى . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال , : من أصلح بين
اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب : (
ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله , تصلح بين أناس إذا تفاسدوا , وتقرب بينهم
إذا تباعدوا ) . وقال الأوزاعي : ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات
البين , ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار . وقال محمد بن المنكدر :
تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما , فلم أزل بهما حتى اصطلحا ; فقال أبو
هريرة وهو يراني : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أصلح بين اثنين
استوجب ثواب شهيد ) . ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب
اللؤلؤيات له , وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه . و (
ابتغاء ) نصب على المفعول من أجله .
قال العلماء : هاتان الآيتان نزلتا بسبب ابن أبيرق السارق , لما حكم النبي صلى الله
عليه وسلم عليه بالقطع وهرب إلى مكة وارتد , قال سعيد بن جبير : لما صار إلى مكة
نقب بيتا بمكة فلحقه المشركون فقتلوه ; فأنزل الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن
يشرك به { إلى قوله : { فقد ضل ضلالا بعيدا } . وقال الضحاك : قدم نفر من قريش
المدينة وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين فنزلت هذه الآية { ومن يشاقق الرسول }
. والمشاقة المعاداة . والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره فهي عامة في كل من خالف
طريق المسلمين . و { الهدى } : الرشد والبيان , وقد تقدم . وقوله تعالى : { نوله ما
تولى { يقال : إنه نزل فيمن ارتد ; والمعنى ; نتركه وما يعبد ; عن مجاهد . أي نكله
إلى الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ; وقاله مقاتل . وقال الكلبي ; نزل قوله تعالى : "
نوله ما تولى { في ابن أبيرق ; لما ظهرت حاله وسرقته هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا
لرجل بمكة يقال له : حجاج بن علاط , فسقط فبقي في النقب حتى وجد على حاله , وأخرجوه
من مكة ; فخرج إلى الشام فسرق بعض أموال القافلة فرجموه وقتلوه , فنزلت { نوله ما
تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } . وقرأ عاصم وحمزة وأبو عمرو { نوله }{ ونصله { بجزم
الهاء , والباقون بكسرها , وهما لغتان . قال العلماء في قوله تعالى : { ومن يشاقق
الرسول { دليل على صحة القول بالإجماع .
وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اختلف في وقت هذه المقالة ; فقال
قتادة وابن جريج وأكثر المفسرين : إنما يقال له هذا يوم القيامة , وقال السدي وقطرب
. قال له ذلك حين رفعه إلى السماء وقالت النصارى فيه ما قالت ; واحتجوا بقوله : { إن
تعذبهم فإنهم عبادك } [ المائدة : 118 ] فإن { إذ { في كلام العرب لما مضى , والأول
أصح ; يدل عليه ما قبله من قوله : { يوم يجمع الله الرسل } [ المائدة : 109 ] الآية
وما بعده { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } [ المائدة : 119 ] . وعلى هذا تكون { إذ }
بمعنى { إذا { كقوله تعالى : { ولو ترى إذ فزعوا } [ سبأ : 51 ] أي إذا فزعوا ,
وقال أبو النجم : ثم جزاه الله عني إذ جزى جنات عدن في السماوات العلا يعني إذا جزى
, وقال الأسود بن جعفر الأزدي : فالآن إذ هازلتهن فإنما يقلن ألا لم يذهب الشيخ
مذهبا يعني إذا هازلتهن , فعبر عن المستقبل بلفظ الماضي ; لأنه لتحقيق أمره وظهور
برهانه , كأنه قد وقع , وفي التنزيل { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } [ الأعراف :
50 ] ومثله كثير وقد تقدم , واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس هو
باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين : أحدهما : أنه سأله عن ذلك توبيخا لمن
ادعى ذلك عليه ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب , وأشد في التوبيخ والتقريع
. الثاني : قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غيروا بعده , وادعوا عليه ما لم يقل . فإن
قيل : فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ؟ فقيل : لما كان من قولهم
إنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من
ولدته , فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له . اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ خرج
الترمذي عن أبي هريرة قال : تلقى عيسى حجته ولقاه الله في قوله : { وإذ قال الله يا
عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله { قال أبو هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم : ( فلقاه الله ){ سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي
بحق { الآية كلها . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وبدأ بالتسبيح قبل الجواب
لأمرين : أحدهما : تنزيها له عما أضيف إليه . الثاني : خضوعا لعزته , وخوفا من سطوته
, ويقال : إن الله تعالى لما قال لعيسى : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من
دون الله { أخذته الرعدة من ذلك القول حتى سمع صوت عظامه في نفسه فقال : { سبحانك }
ثم قال : { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق { أي أن أدعي لنفسي ما ليس من حقها ,
يعني أنني مربوب ولست برب , وعابد ولست بمعبود . ثم قال : { إن كنت قلته فقد علمته }
فرد ذلك إلى علمه , وقد كان الله عالما به أنه لم يقله , ولكنه سأله عنه تقريعا لمن
اتخذ عيسى إلها . عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي أي
تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك , وقيل : المعنى تعلم ما أعلم ولا أعلم ما
تعلم , وقيل : تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه . وقيل : تعلم ما أريد ولا أعلم ما
تريد وقيل : تعلم سري ولا أعلم سرك ; لأن السر موضعه النفس وقيل : تعلم ما كان مني
في دار الدنيا , ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة . قلت : والمعنى في هذه الأقوال
متقارب ; أي تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته , ولا أعلم شيئا مما استأثرت
به من غيبك وعلمك . نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ ما كان وما يكون , وما لم يكن
وما هو كائن .
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا { إن يدعون من دونه { أي من دون الله
{ إلا إناثا } ; نزلت في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام . و { إن { نافية بمعنى { ما } . و
{ إناثا { أصناما , يعني اللات والعزى ومناة . وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون :
أنثى بني فلان , قال الحسن وابن عباس , وأتى مع كل صنم شيطانه يتراءى للسدنة
والكهنة ويكلمهم , فخرج الكلام مخرج التعجب ; لأن الأنثى من كل جنس أخسه ; فهذا جهل
ممن يشرك بالله جمادا فيسميه أنثى , أو يعتقده أنثى . وقيل : { إلا إناثا { مواتا ;
لأن الموات لا روح له , كالخشبة والحجر . والموات يخبر عنه كما يخبر عن المؤنث لا
تضاع المنزلة ; تقول : الأحجار تعجبني , كما تقول : المرأة تعجبني . وقيل : { إلا
إناثا { ملائكة ; لقولهم : الملائكة بنات الله , وهي شفعاؤنا عند الله ; عن الضحاك
. وقراءة ابن عباس { إلا وثنا { بفتح الواو والثاء على إفراد اسم الجنس ; وقرأ أيضا
{ وثنا { بضم الثاء والواو ; جمع وثن . وأوثان أيضا جمع وثن مثل أسد وآساد . النحاس :
ولم يقرأ به فيما علمت . قلت : قد ذكر أبو بكر الأنباري - حدثنا أبي حدثنا نصر بن
داود حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي
الله عنها أنها كانت تقرأ : { إن يدعون من دونه إلا أوثانا } . وقرأ ابن عباس أيضا }
إلا أثنا { كأنه جمع وثنا على وثان ; كما تقول : جمل وجمال , ثم جمع أوثانا على وثن
; كما تقول : مثال ومثل ; ثم أبدل من الواو همزة لما انضمت ; كما قال عز وجل : "
وإذا الرسل أقتت } [ المرسلات : 11 ] من الوقت ; فأثن جمع الجمع . وقرأ النبي صلى
الله عليه وسلم : { إلا أنثا { جمع أنيث , كغدير وغدر . وحكى الطبري أنه جمع إناث
كثمار وثمر . حكى هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو عمرو الداني ; قال :
وقرأ بها ابن عباس والحسن وأبو حيوة . وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا
يريد إبليس ; لأنهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه ; ونظيره في المعنى : "
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } [ التوبة : 31 ] أي أطاعوهم فيما
أمروهم به ; لا أنهم عبدوهم . وسيأتي . وقد تقدم اشتقاق لفظ الشيطان . والمريد :
العاتي المتمرد ; فعيل من مرد إذا عتا . قال الأزهري : المريد الخارج عن الطاعة ,
وقد مرد الرجل يمرد مرودا إذا عتا وخرج عن الطاعة , فهو مارد ومريد ومتمرد . ابن
عرفة هو الذي ظهر شره ; ومن هذا يقال : شجرة مرداء إذا تساقط ورقها فظهرت عيدانها ;
ومنه قيل للرجل : أمرد , أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه .
لَعَنَهُ اللهُ أصل اللعن الإبعاد , وقد تقدم . وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط
وغضب ; فلعنة الله على إبليس - عليه لعنة الله - على التعيين جائزة , وكذلك سائر
الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل ; فأما الأحياء فقد مضى الكلام فيه في }
البقرة } . وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا أي وقال
الشيطان ; والمعنى : لأستخلصنهم . بغوايتي وأضلنهم بإضلالي , وهم الكفرة والعصاة
. وفي الخبر ( من كل ألف واحد لله والباقي للشيطان ) . قلت : وهذا صحيح معنى ; يعضده
قوله تعالى لآدم يوم القيامة : ( ابعث بعث النار فيقول : وما بعث النار ؟ فيقول من
كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ) . أخرجه مسلم . وبعث النار هو نصيب الشيطان , والله
أعلم . وقيل : من النصيب طاعتهم إياه في أشياء ; منها أنهم كانوا يضربون للمولود
مسمارا عند ولادته , ودورانهم به يوم أسبوعه , يقولون : ليعرفه العمار .
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ أي لأصرفنهم عن طريق الهدى . وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أي لأسولن
لهم , من التمني , وهذا لا ينحصر إلى واحد من الأمنية , لأن كل واحد في نفسه إنما
يمنيه بقدر رغبته وقرائن حاله . وقيل : لأمنينهم طول الحياة الخير والتوبة والمعرفة
مع الإصرار . وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ البتك القطع ,
ومنه سيف باتك . أي أحملهم على قطع آذان البحيرة والسائبة ونحوه . يقال : بتكه وبتكه
, ( مخففا ومشددا ) وفي يده بتكة أي : قطعة , والجمع بتك , قال زهير : طارت وفي كفه
من ريشها بتك وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ فيه ثماني مسائل :
الأولى : اللامات كلها للقسم . واختلف العلماء في هذا التغيير إلى ماذا يرجع , فقالت
طائفة : هو الخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان , قال معناه ابن عباس وأنس وعكرمة وأبو
صالح . وذلك كله تعذيب للحيوان , وتحريم وتحليل بالطغيان , وقول بغير حجة ولا برهان
. والآذان في الأنعام جمال ومنفعة , وكذلك غيرها من الأعضاء , فلذلك رأى الشيطان أن
يغير بها خلق الله تعالى . وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي : ( وإني خلقت عبادي
حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم فحرمت عليهم ما أحللت لهم
وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأمرتهم أن يغيروا خلقي ) . الحديث ,
أخرجه القاضي إسماعيل ومسلم أيضا . وروى إسماعيل قال : حدثنا أبو الوليد وسليمان بن
حرب قالا حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأنا قشف الهيئة , قال : ( هل لك من مال ) ؟ قال قلت : نعم . قال (
من أي المال ) ؟ قلت : من كل المال , من الخيل والإبل والرقيق - قال أبو الوليد :
والغنم - قال : ( فإذا آتاك الله مالا فلير عليك أثره ) ثم قال : ( هل تنتج إبل
قومك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتشق آذانها وتقول هذه بحر وتشق جلودها وتقول هذه
صرم لتحرمها عليك وعلى أهلك ) ؟ قال : قلت أجل . قال : ( وكل ما آتاك الله حل وموسى
الله أحد من موساك , وساعد الله أشد من ساعدك ) . قال قلت : يا رسول الله , أرأيت
رجلا نزلت به فلم يقرني ثم نزل بي أفأقريه أم أكافئه ؟ فقال : ( بل أقره ) .
الثانية : ولما كان هذا من فعل الشيطان وأثره أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم }
أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء
) أخرجه أبو داود عن علي قال : أمرنا ; فذكره . المقابلة : المقطوعة طرف الأذن
. والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن . والشرقاء : مشقوقة الأذن , والخرقاء التي تخرق
أذنها السمة . والعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء . قال مالك والليث : المقطوعة
الأذن أو جل الأذن لا تجزئ , والشق للميسم يجزئ , وهو قول الشافعي وجماعة الفقهاء
. فإن كانت سكاء , وهي التي خلقت بلا أذن فقال مالك والشافعي : لا تجوز . وإن كانت
صغيرة الأذن أجزأت , وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك . الثالثة : وأما خصاء البهائم فرخص
فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره . والجمهور من
العلماء وجماعتهم على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي , واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من
غيره . ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز . وخصى عروة بن الزبير بغلا له . ورخص
مالك في خصاء ذكور الغنم , وإنما جاز ذلك لأنه لا يقصد به تعليق الحيوان بالدين
لصنم يعبد , ولا لرب يوحد . وإنما يقصد به تطييب اللحم فيما يؤكل , وتقوية الذكر إذا
انقطع أمله عن الأنثى . ومنهم من كره ذلك , لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما
يفعل ذلك الذين لا يعلمون ) . واختاره ابن المنذر وقال : لأن ذلك ثابت عن ابن عمر ,
وكان يقول : هو نماء خلق الله ; وكره ذلك عبد الملك بن مروان . وقال الأوزاعي :
كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل . وقال ابن المنذر : وفيه حديثان : أحدهما عن ابن
عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل . والآخر
حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم . والذي
في الموطأ من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ويقول :
فيه تمام الخلق . قال أبو عمر : يعني في ترك الإخصاء تمام الخلق , وروي نماء الخلق .
قلت : أسنده أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تخصوا ما ينمي خلق الله ) . رواه عن
الدارقطني شيخه , قال : حدثنا أبو عبد الله المعدل حدثنا عباس بن محمد حدثنا أبو
مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل , فذكره . قال الدارقطني : ورواه عبد الصمد بن
النعمان عن أبي مالك . الرابعة : وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة , فإنه إذا خصي بطل
قلبه وقوته , عكس الحيوان , وانقطع نسله المأمور به في قوله عليه السلام : (
تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم ) ثم إن فيه ألما عظيما ربما يفضي بصاحبه إلى
الهلاك , فيكون فيه تضييع مال وإذهاب نفس , وكل ذلك منهي عنه . ثم هذه مثلة , وقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة , وهو صحيح . وقد كره جماعة من فقهاء
الحجازيين والكوفيين شراء الخصي من الصقالبة وغيرهم وقالوا : لو لم يشتروا منهم لم
يخصوا . ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز ; لأنه مثلة وتغيير لخلق الله
تعالى , وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود , قاله أبو عمر . الخامسة : وإذا
تقرر هذا فاعلم أن الوسم والإشعار مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان ,
وهي ما قدمناه من نهيه عن تعذيب الحيوان بالنار , والوسم : الكي بالنار وأصله
العلامة , يقال : وسم الشيء يسمه إذا علمه بعلامة يعرف بها , ومنه قوله تعالى : "
سيماهم في وجوههم } [ الفتح : 29 ] . فالسيما العلامة والميسم المكواة . وثبت في صحيح
مسلم عن أنس قال : رأيت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الميسم وهو يسم إبل
الصدقة والفيء وغير ذلك حتى يعرف كل مال فيؤدى في حقه , ولا يتجاوز به إلى غيره .
السادسة : والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه , لما رواه جابر قال : نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه , أخرجه مسلم . وإنما
كان ذلك لشرفه على الأعضاء , إذ هو مقر الحسن والجمال , ولأن به قوام الحيوان , وقد
مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يضرب عبده فقال : ( اتق الوجه فإن الله خلق آدم
على صورته ) . أي على صورة المضروب ; أي وجه هذا المضروب يشبه وجه آدم , فينبغي أن
يحترم لشبهه . وهذا أحسن ما قيل في تأويله والله أعلم . وقالت طائفة : الإشارة
بالتغيير إلي الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن ; قاله ابن مسعود والحسن . ومن
ذلك الحديث الصحيح عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لعن
الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن , المغيرات خلق
الله ) الحديث أخرجه مسلم , وسيأتي بكماله في الحشر إن شاء الله تعالى . والوشم يكون
في اليدين , وهو أن يغرز ظهر كف المرأة ومعصمها بإبرة ثم يحشى بالكحل أو بالنئور
فيخضر . وقد وشمت تشم وشما فهي واشمة . والمستوشمة التي يفعل ذلك بها ; قال الهروي
. وقال ابن العربي : ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه ; ليدل كل واحد منهم على رجلته في
حداثته . قال القاضي عياض : ووقع في رواية الهروي - أحد رواة مسلم - مكان { الواشمة
والمستوشمة }{ الواشية والمستوشية } ( بالياء مكان الميم ) وهو من الوشي وهو
التزين ; وأصل الوشي نسج الثوب على لونين , وثور موشى في وجهه وقوائمه سواد ; أي
تشي المرأة نفسها بما تفعله فيها من التنميص والتفليج والأشر . والمتنمصات جمع
متنمصة وهي التي تقلع الشعر من وجهها بالمنماص , وهو الذي يقلع الشعر ; ويقال لها
النامصة . ابن العربي : وأهل مصر ينتفون شعر العانة وهو منه ; فإن السنة حلق العانة
ونتف الإبط , فأما نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه , ويبطل كثيرا من المنفعة فيه
. والمتفلجات جمع متفلجة , وهي التي تفعل الفلج في أسنانها ; أي تعانيه حتى ترجع
المصمتة الأسنان خلقة فلجاء صنعة . وفي غير كتاب مسلم : { الواشرات } , وهي جمع
واشرة , وهي التي تشر أسنانها ; أي تصنع فيها أشرا , وهي التحزيزات التي تكون في
أسنان الشبان ; تفعل ذلك المرأة الكبيرة تشبها بالشابة . وهذه الأمور كلها قد شهدت
الأحاديث بلعن فاعلها وأنها من الكبائر . واختلف في المعنى الذي نهي لأجلها ; فقيل :
لأنها من باب التدليس . وقيل : من باب تغيير خلق الله تعالى ; كما قال ابن مسعود ,
وهو أصح , وهو يتضمن المعنى الأول . ثم قيل : هذا المنهي عنه إنما هو فيما يكون
باقيا ; لأنه من باب تغيير خلق الله تعالى , فأما ما لا يكون باقيا كالكحل والتزين
به للنساء فقد أجاز العلماء ذلك مالك وغيره . وكرهه مالك للرجال . وأجاز مالك أيضا أن
تشي المرأة يديها بالحناء . وروي عن عمر إنكار ذلك وقال : إما أن تخضب يديها كلها
وإما أن تدع , وأنكر مالك هذه الرواية عن عمر , ولا تدع الخضاب بالحناء ; فإن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى امرأة لا تختضب قال : ( لا تدع إحداكن يدها كأنها يد رجل )
فما زالت تختضب وقد جاوزت التسعين حتى ماتت . قال القاضي عياض : وجاء حديث بالنهي عن
تسويد الحناء , ذكره صاحب المصابيح ولا تتعطل , ويكون في عنقها قلادة من سير في خرز
, فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها : ( إنه لا
ينبغي أن تكوني بغير قلادة إما بخيط وإما بسير ) . وقال أنس : يستحب للمرأة أن تعلق
في عنقها في الصلاة ولو سيرا . قال أبو جعفر الطبري : في حديث ابن مسعود دليل على
أنه لا يجوز تغيير شيء من خلقها الذي خلقها الله عليه بزيادة أو نقصان , التماس
الحسن لزوج أو غيره , سواء فلجت أسنانها أو وشرتها , أو كان لها سن زائدة فأزالتها
أو أسنان طوال فقطعت أطرافها . وكذا لا يجوز لها حلق لحية أو شارب أو عنفقة إن نبتت
لها ; لأن كل ذلك تغيير خلق الله . قال عياض : ويأتي على ما ذكره أن من خلق بأصبع
زائدة أو عضو زائد لا يجوز له قطعه ولا نزعه ; لأنه من تغيير خلق الله تعالى : إلا
أن تكون هذه الزوائد تؤلمه فلا بأس بنزعها عند أبي جعفر وغيره . السابعة : قلت :
ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة
والمستوشمة ) أخرجه مسلم . فنهى صلى الله عليه وسلم عن وصل المرأة شعرها ; وهو أن
يضاف إليه شعر آخر يكثر به , والواصلة هي التي تفعل ذلك , والمستوصلة هي التي
تستدعي من يفعل ذلك بها . مسلم عن جابر قال : زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصل
المرأة بشعرها شيئا . وخرج عن أسماء بنت أبي بكر قالت : جاءت امرأة إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله , إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها
أفأصله ؟ فقال : ( لعن الله الواصلة والمستوصلة ) . وهذا كله نص في تحريم وصل الشعر
, وبه قال مالك وجماعه العلماء . ومنعوا الوصل بكل شيء من الصوف والخرق وغير ذلك ;
لأنه في معنى وصله بالشعر . وشذ الليث بن سعد فأجاز وصله بالصوف والخرق وما ليس بشعر
; وهذا أشبه بمذهب أهل الظاهر . وأباح آخرون وضع الشعر على الرأس وقالوا : إنما جاء
النهي عن الوصل خاصة , وهذه ظاهرية محضة وإعراض عن المعنى . وشذ قوم فأجازوا الوصل
مطلقا , وهو قول باطل قطعا ترده الأحاديث . وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ولم يصح
. وروي عن ابن سيرين أنه سأله رجل فقال : إن أمي كانت تمشط النساء , أتراني آكل من
مالها ؟ فقال : إن كانت تصل فلا . ولا يدخل في النهي ما ربط منه بخيوط الحرير
الملونة على وجه الزينة والتجميل , والله أعلم . الثامنة : وقالت طائفة : المراد
بالتغيير لخلق الله هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من
المخلوقات ; ليعتبر بها وينتفع بها , فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة . قال
الزجاج : إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل فحرموها على أنفسهم , وجعل الشمس
والقمر والحجارة مسخرة للناس فجعلوها آلهة يعبدونها , فقد غيروا ما خلق الله . وقاله
جماعة من أهل التفسير : مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة . وروي عن ابن عباس }
فليغيرن خلق الله { دين الله ; وقال النخعي , واختاره الطبري قال : وإذا كان ذلك
معناه دخل فيه فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ووشم وغير ذلك من المعاصي ; لأن
الشيطان يدعو إلى جميع المعاصي ; أي فليغيرن ما خلق الله في دينه . وقال مجاهد أيضا
: { فليغيرن خلق الله { فطرة الله التي فطر الناس عليها ; يعني أنهم ولدوا على
الإسلام فأمرهم الشيطان بتغييره , وهو معنى قوله عليه السلام : ( كل مولود يولد على
الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) . فيرجع معنى الخلق إلى ما أوجده فيهم
يوم الذر من الإيمان به في قوله تعالى : { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172
] . قال ابن العربي : روي عن طاوس أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود
ويقول : هذا من قول الله { فليغيرن خلق الله } . قال القاضي : وهذا وإن كان يحتمله
اللفظ فهو مخصوص بما أنفذه النبي صلى الله عليه وسلم من نكاح مولاه زيد وكان أبيض
بظئره بركة الحبشية أم أسامة وكان أسود من أبيض , وهذا مما خفي على طاوس مع علمه .
قلت : ثم أنكح أسامة فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية . وقد كانت تحت بلال أخت عبد
الرحمن بن عوف زهرية . وهذا أيضا يخص وقد خفي عليهما . وَمَنْ يَتَّخِذِ
الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ أي يطيعه ويدع أمر الله . فَقَدْ خَسِرَ
خُسْرَانًا مُبِينًا أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه وتركه
من أجله .
يَعِدُهُمْ المعنى يعدهم أباطيله وترهاته من المال والجاه والرياسة , وأن لا بعث
ولا عقاب , ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير وَيُمَنِّيهِمْ كذلك وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا أي خديعة . قال ابن عرفة : الغرور ما رأيت
له ظاهرا تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول . والشيطان غرور ; لأنه يحمل على محاب النفس
, ووراء ذلك ما يسوء .
نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer