Prev  

3. Surah Âl-'Imrân سورة آل عمران

  Next  


تفسير ابن كثير - آل عمران - Âl-'Imrân -
 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
بِسْم ِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
الم
    +/- -/+  
الأية
1
 
وصدرها إلى ثلاث وثمانين آية منها نزل في وفد نجران وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة كما سيأتى بيان ذلك عند تفسير آية المباهلة منها إن شاء الله تعالى وقد ذكرك ما ورد من فضلها مع سورة البقرة أول البقرة. قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسـره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان. ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة { الم } السجدة و { هل أتى على الإنسان } وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال:الم وحم والمص وص. فواتح افتتح الله بها القرآن وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال الم اسم من أسماء القرآن وهكذا وقال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم. وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبدالله وإسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال الم اسم من أسماء الله الأعظم. هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن حم وطس والم فقال قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو النعمان حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمذانى قال: قال عبدالله فذكر نحوه. وحُكي مثله عن علي وابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال الم قسم. وروينا أيضا من حديث شريك بن عبدالله بن عطاء بن السائب عن أبى الضحى عن ابن عباس:الم قال أنا الله أعلم وكذا قال سعيد بن جبير وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الم قال أما الم فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى. قال وأبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلألائه ليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب:فقال أعجب أنهم يظنون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به فالألف مفتاح الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله والألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة. هذا لفظ ابن أبي حاتم ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه قال ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين كقوله تعالى { إنا وجدنا آباءنا على أمة } وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين } وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى { وجد عليه أمة من الناس يسقون } وقوله تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا } وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة } أي بعد حين على أصح القولين قال فكذلك هذا. هذا حاصل كلامه موجها ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا وعلى هذا معا ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها والله أعلم. ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف والمسألة مختلف فيها وليس فيها إجماع حتى يحكم به وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا كما قال الشاعر: قلنا قفي لنا فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف تعني وقفت. وقال الآخر: ما للظليم عال كيف لايـ ينقد عنه جلده إذا يـــــــ فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل وقال الآخر: بالخير خيرات وإن شرا فــ ولا أريد الشر إلا أن تـــــ يقول وإن شرا فشرا ولا أريد الشر إلا أن تشاء فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام والله أعلم. قال القرطبي وفي الحديث { من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة } الحديث قال سفيان هو أن يقول في اقتل{ ا قـ } وقال خصيف عن مجاهد أنه قال فواتح السور كلها{ ق وص وحم وطسم والر } وغير ذلك هجاء موضوع وقال بعض أهل العربية هي حروف من حروف المعجم استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفا كما يقول القائل ابني يكتب في - ا ب ت ث - أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها حكاه ابن جرير. قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي - ال م ص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن- يجمعها قولك:نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف. قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال:فسبحان الذي دقت في كل شىء حكمته. وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله وههنا ههنا لخص بعضهم في هذا المقام كلاما فقال:لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلمة فقد أخطأ خطأ كبيرا فتعين أن لها معنى في نفس الأمر فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا { آمنا به كل من عند ربنا } ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام. المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها فقال بعضهم إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور حكاه ابن جرير وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة وقال آخرون بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم المؤلف منه حكاه ابن جرير أيضا وهو ضعيف أيضا لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها بل غالبها ليس كذلك ولو كـان كذلك أيضا لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة وآل عمران مدنيتان ليستا خطابا للمشركين فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا وقرره الزمخشري فى كشافه ونصره أتم نصر وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية. قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي بالصريح في أماكن قال وجاء منها على حرف واحد كقوله - ص ن ق- وحرفين مثل { حم } وثلاثة مثل { الم } وأربعة مثل { المر } و { المص } وخمسة مثل { كهيعص- و- حمعسق } لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك { قلت } ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته وهذا معلوم بالاستقراء وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه } { المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه } { الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم } { الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } { حم تنزيل من الرحمن الرحيم } { حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم. وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته وهو ما رواه محمد بن إسحق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبدالله بن رباب قال مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فأتى أخاه بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى حي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلوا فيما أنزل الله عليك { الم ذلك الكتاب{ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { بلى } فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال { نعم } قالوا لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حي بن أخطب وأقبل على من كان معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره فقال { نعم } قال ما ذاك؟ قال { المص } قال هذا أثقل وأطول الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال { نعم } قال ما ذاك؟ قال { الر } قال هذا أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال { نعم } قال ماذا قال { المر } قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتان ثم قال:لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال قوموا عنه ثم قال أبو ياسر لأخيه حي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
    +/- -/+  
الأية
2
 
قد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } و { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } عند تفسير آية الكرسي وقد تقدم الكلام على قوله { الم } في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته وتقدم الكلام على قوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } في تفسير آية الكرسي.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
    +/- -/+  
الأية
3
 
وقوله تعالى { نزل عليك الكتاب بالحق } يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق أي لا شك فيه ولا ريب بل هو منزل من عند الله أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا وقوله { مصدقا لما بين يديه } أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله والأنبياء فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن العظيم عليه. وقوله { وأنزل التوراة } أي على موسى بن عمران { والإنجيل } أي على عيسى ابن مريم عليهما السلام.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ۗ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
    +/- -/+  
الأية
4
 
{ من قبل } أي من قبل هذا القرآن { هدى للناس } أي في زمانهما { وأنزل الفرقان } وهو الفارق بين الهدى والضلال والحق والباطل والغي والرشاد بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات والبراهين القاطعات ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك. وقال قتادة والربيع بن أنس:الفرقان ههنا القرآن. واختار ابن جرير أنه مصدر ههنا لتقدم ذكر القرآن في قوله { نزل عليك الكتاب بالحق } وهو القرآن. وأما ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي صالح أن المراد بالفرقان ههنا التوراة فضعيف أيضا لتقدم ذكر التوراة والله أعلم. وقوله تعالى { إن الذين كفروا بآيات الله } أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل { لهم عذاب شديد } أي يوم القيامة { والله عزيز } أي منيع الجناب عظيم السلطان { ذو انتقام } أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبياءه العظام.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ
    +/- -/+  
الأية
5
 
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض لا يخفى عليه شيء من ذلك.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
    +/- -/+  
الأية
6
 
{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى وحسن وقبيح وشقي وسعيد { لا إله إلا هو العزيز الحكيم } أي هو الذي خلق وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له وله العزة التي لا ترام والحكمة والأحكام وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق كما خلق الله سائر البشر لأن الله صوره في الرحم وخلقه كيف يشاء فكيف يكون إلها كما زعمته النصارى عليهم لعائن الله وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال كما قال تعالى { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
    +/- -/+  
الأية
7
 
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم مُحْكَمَهُ على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال تعالى { هن أم الكتاب } أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه { وأخر متشابهات } أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه فروي عن السلف عبارات كثيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما:المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وأحكامه ما يؤمر به ويعمل به وعن ابن عباس أيضا أنه قال:المحكمات قوله تعالى { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا } والآيات بعدها وقوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } إلى ثلاث آيات بعدها ورواه ابن أبي حاتم وحكاه عن سعيد بن جبير به قال:حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية { هن أم الكتاب وأخر متشابهات } فقال أبو فاختة:فواتح السور. وقال يحيى بن يعمر:الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير:{ هن أم الكتاب } لأنهن مكتوبات في جميع الكتب وقال مقاتل بن حيان:لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن وقيل في المتشابهات: المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام وما يؤمن به ولا يعمل به رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقيل هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان وعن مجاهد المتشابهات يصدق بعضهـا بعضا وهذا إنما هو في تفسير قوله { كتابا متشابها مثاني } هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار وذكر حال الأبرار وحال الفجار ونحو ذلك. وأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا وهو الذي نص عليه محمد بن إسحق بن يسار رحمه الله حيث قال { منه آيات محكمات } فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. قال:والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ويحرفن عن الحق. ولهذا قال الله تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل { فيتبعون ما تشابه منه } أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال الله تعالى { ابتغاء الفتنة } أي الإضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الاحتجاج بقوله { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } وبقوله { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسول من رسل الله. وقوله تعالى { وابتغاء تأويله } أي تحريفه على ما يريدون وقال مقاتل بن حيان والسدي يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا يعقوب عن عبدالله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت:قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } إلى قوله { أولوا الألباب } فقال { إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم } هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها ليس بينهما أحد وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل بن علية وعبدالوهاب الثقفي كلاهما عن أيوب به ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبدالوهاب الثقفي به وكذا رواه عبدالرزاق عن معمر عن أيوب وكذا رواه غير واحد عن أيوب وقد رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أيوب به ورواه أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريقين عن أبي النعمان محمد بن الفضل السدوسي ولقبه عارم حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة به وتابع أيوب أبو عامر الخراز وغيره عن ابن أبي مليكة فرواه الترمذي عن بندار عن أبي داود الطيالسي عن أبي عامر الخراز فذكره ورواه سعيد بن منصور في سننه عن حماد بن يحيى عن عبدالله بن أبي مليكة عن عائشة ورواه ابن جرير من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحي كلاهما عن ابن أبي مليكة عن عائشة وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة حدثتني عائشة فذكره وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية ومسلم في كتاب القدر من صحيحه وأبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن العقنبي عن يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت:تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } إلى قوله { وما يذكر إلا أولو الألباب } قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم } لفظ البخاري وكذا رواه الترمذي أيضا عن بندار عن أبي داود الطيالسي عن يزيد بن إبراهيم به وقال حسن صحيح وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة عن عائشة ولم يذكر القاسم كذا قال وقد رواه ابن أبي حاتم فقال:حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم } وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهيل حدثنا الوليد بن مسلم عن حماد بن سلمة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشـة رضي الله عنها قالت:نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } فقال رسول الله صلى عليه وسلم { قد حذركم الله فإذا رأيتموهم فاحذروهم } ورواه ابن مردويه من طريق أخرى عن القاسم عن عائشة به وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو كامل حدثنا حماد عن أبي غالب قال:سمعت أبا أمامة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } قال { هم الخوارج } وفي قوله تعالى { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال:{ هم الخوارج } وقد رواه ابن مردويه من غير وجه عن أبي غالب عن أبي أمامة فذكره وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفا من كلام الصحابي ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ففاجأوه بهذه المقالة فقال قائلهم:وهو ذو الخويصرة بقر الله خاصرته اعدل فإنك لم تعدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني } فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب وفي رواية خالد بن الوليد في قتله فقال { دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا أي من جنسه قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم } ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة ثم انبعثت القدرية ثم المعتزلة ثم الجهمية وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله { وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كـلها في النار إلا واحدة } قالوا وما هم يا رسول الله؟ قال { من كان على ما أنا عليه وأصحابي } أخرجه الحاكـم في مستدركه بهذه الزيادة. وقال الحافظ أبو يعلى:حدثنا أبو موسى حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا المعتمر عن أبيه عن قتادة عن الحسن بن جندب بن عبدالله أنه بلغه عن حذيفة أو سمعه منه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر { إن في أمتي قوما يقرؤن القرآن ينثرونه نثر الدقل يتأولونه على غير تأويله } لم يخرجوه. وقوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله } اختلف القراء في الوقف ههنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:التفسير على أربعة أنحاء فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها وتفسير يعلمه الراسخون في العلم وتفسير لا يعلمه إلا الله ويروى هذا القول عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم. وقال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير:حدثنا هاشم بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:{ لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } الآية وإن يزداد علمهم فيضيعوه ولا يبالون عنه } غريب جدا. وقال ابن مردويه:حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن عمرو حدثنا هشام بن عمار حدثنا ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به } . وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال:كان ابن عباس يقرأ:وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به. وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبدالعزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبدالله بن مسعود إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به وكذا عن أبي بن كعب واختار ابن جرير هذا القول. ومنهم من يقف على قوله والراسخون في العلم وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال:أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به وكذا قال الربيع بن أنس. وقال محمد بن إسحق عن محمد بن جعفر بن الزبير:وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضا فنفذت الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال { اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل } ومن العلماء من فصل وهذا المقام قال:التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه ومنه قوله تعالى { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } وقوله { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل ويكون قوله { والراسخون في العلم } مبتدأ و{ يقولون آمنا به } خبره وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله { نبئنا بتأويله } أي بتفسيره فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على { والراسخون في العلم } لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه وعلى هذا فيكون قوله { يقولون آمنا به } حال منهم وساغ هذا وأن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم - إلى قوله - { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا } الآية وقوله تعالى { وجاء ربك والملك صفا صفا } أي وجاء الملائكة صفوفا صفوفا. وقوله إخبارا عنهم إنهم يقولون آمنا به أي المتشابه كل من عند ربنا أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد كقوله { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ولهذا قال تعالى { وما يذكر إلا أولوا الألباب } أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعانى على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا فياض الرقي حدثنا عبيدالله بن يزيد وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنسا وأبا أمامة وأبا الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال { من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم }. وقال الإمام أحمد حدثنا معمر عن الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارؤن فقال { إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا به. وما جهلتم فكلوه إلى عالمه } وتقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث من طريق هشام بن عمار عن أبي حازم عن عمرو بن شعيب به وقد قال أبو يعلى الموصلي في مسنده:حدثنا زهير بن حرب حدثنا أنس بن عياض عن أبي حازم عن أبي سلمة قال:لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { نزل القرآن على سبعة أحرف والمراء في القرآن كفر- قالها ثلاثا - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله } وهذا إسناد صحيح ولكن فيه علة بسبب قول الراوي لا أعلمه إلا عن أبي هريرة. وقال ابن المنذر في تفسيره:حدثنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم:حدثنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد قال:يقال الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبرا أنهم دعوا ربهم قائلين { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
    +/- -/+  
الأية
8
 
أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم ودينك القويم { وهب لنا من لدنك رحمة } تثبت بها قلوبنا وتجمع بها شملنا وتزيدنا بها إيمانا وإيقانا { إنك أنت الوهاب } قال ابن أبي حاتم:حدثنا عمرو بن عبدالله الأودي وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب قالا جميعا حدثنا وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول { يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك } ثم قرأ { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } رواه ابن مردويه من طريق محمد بن بكار عن عبدالحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة عن أسماء بنت يزيد بن السكن سمعتها تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعائه { اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك } قالت:قلت يا رسول الله وإن القلب ليتقلب؟ قال { نعم ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه } فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب - وهكذا رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى عن عبدالحميد بن بهرام به مثله ورواه أيضا عن المثنى عن الحجاج بن منهال عن عبدالحميد بن بهرام به مثله وزاد قلت:يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعوبها لنفسي قال { بلى قولي اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن } ثم قال ابن مردويه حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي حدثنا العباس بن الوليد الخلال أنا يزيد بن يحيى بن عبيدالله أنا سعيد بن بشير عن قتادة عن حسان الأعرج عن عائشة رضي الله عنها قالت:كـان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو { يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك } قلت يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال { ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه أما تسمعي قوله { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } غريب من هذا الوجه ولكن أصله ثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة وقد رواه أبو داود والنسائي وابن مردويه من حديث أبي عبدالرحمن المقبري زاد النسائي وابن حبان وعبدالله بن وهب كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب حدثني عبدالله بن الوليد التجيبي عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال { لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } لفظ ابن مردويه. وقال عبدالرزاق عن مالك عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك عن عبادة بن نسي أنه أخبره أنه سمع قيس بن الحارث يقول:أخبرني أبو عبدالله الصنابحي أنه صلى وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه المغرب فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل وقرأ من الركعة الثالثة قال:دنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } الآية قال أبو عبيد:وأخبرني عبادة بن نسي أنه كان عند عمر بن عبدالعزيز في خلافته فقال عمر لقيس:كيف أخبرتني عن أبي عبدالله قال عمر:فما تركناها منذ سمعناها منه وإن كنت قبل ذلك لعلى غير ذلك فقال له رجل على أي شيء كان أمير المؤمنين قبل ذلك قال كنت أقرأ { قل هو الله أحد } وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلم عن مالك والأوزاعي كلاهما عن أبي عبيد به:وروى هذا الأثر الوليد أيضا عن ابن جابر عن يحيى بن يحيى الغساني عن محمود بن لبيد عن الصنابحي أنه صلى خلف أبي بكر المغرب فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة يجهر بالقراءة فلما قام إلى الثالثة ابتدأ القراءة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه فقرأ هذه الآية { ربنا لا تزغ قلوبنا } الآية.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
    +/- -/+  
الأية
9
 
قوله { ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه } أي يقولون في دعائهم إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه وتجزي كلا بعلمه وما كان عليه في الدينا من خير وشر.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
    +/- -/+  
الأية
10
 
يخبر تعالى عن الكفار بأنهم وقود النار { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار } وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه كما قال تعالى { ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } وقال تعالى { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جنهم وبئس المهاد } وقال ههنا { إن الذين كفروا } أي بآيات الله وكذبوا رسله وخالفوا كتابه ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار } أي حطبها الذي تسجر به وتوقد به كقوله { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جنهم } الآية. قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا ابن لهيعة أخبرني ابن الهاد عن هند بنت الحارث عن أم الفضل أم عبدالله بن عباس قالت:بينما نحن بمكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فنادى { هل بلغت اللهم هل بلغت } ثلاثا فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال نعم ثم أصبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليظهرن الإسلام حتى يرد الكفر إلى مواطنه وليخوضن رجال البحار بالإسلام وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرؤنه ثم يقولون قرأنا وعلمنا فمن هذا الذي هو خير منا فهل في أولئك من خير{ ؟ قالوا يا رسول الله فمن أولئك؟ قال { أولئك منكم وهم وقود النار } وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبدالله بن الهاد عن هند بنت الحارث امرأة عبدالله بن شداد عن أم الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال { هل بلغت } يقولها ثلاثا فقام عمر بن الخطاب وكان أواها فقال اللهم نعم وحرصت وجهدت ونصحت فاصبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم { ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه وليخوضن رجال البحار بالإسلام وليأتين على الناس زمان يقرؤن القرآن فيقرؤنه ويعلمونه فيقولون قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا الذي هو خير منا؟ فما في أولئك من خير } قالوا يا رسول الله فمن أولئك؟ قال { أولئك منكم أولئك هم وقود النار } ثم رواه من طريق موسى بن عبيدة عن محمد بن إبراهيم عن بنت الهاد عن العباس بن عبدالمطلب بنحوه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
    +/- -/+  
الأية
11
 
وقوله تعالى { كدأب آل فرعون } قال الضحاك عن ابن عباس:كصنيع آل فرعون وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد ومنهم من يقول: كسنَّة آل فرعون وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون والألفاظ متقاربة والدأب بالتسكين والتحريك أيضا كنهر ونهر هو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة كما يقال لا يزال هذا دأبي ودأبك وقال امرؤ القيس: وقوفا بها صحبي على مطيهــم يقولون لا تأسف أسى وتجمل كدأبك من أم الحويرث قبلهـا وجارتها أم الرباب بمأسـل والمعنى كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها والمعنى في الآية أن الكافرين لا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد بل يهلكون ويعذبون كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاءوا من آيات الله وحججه { والله شديد العقاب } أي شديد الأخذ أليم العذاب لا يمتنع منه أحد ولا يفوته شيء بل هو الفعال لما يريد الذي قد غلب كل شيء لا إله غيره ولا رب سواه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
    +/- -/+  
الأية
12
 
يقول تعالى:قل يا محمد للكافرين ستغلبون أي في الدنيا وتحشرون أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد. وقد كر محمد بن إسحاق بن يسار عن عاصم بن عمرو بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال { يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا } فقالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وإنك لم تلق مثلنا فأنزل الله في ذلك من قولهم { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } إلى قوله { لعبرة لأولي الأبصار } وقد رواه محمد بن إسحاق أيضا عن محمد بن أبي محمد عن سعيد وعكرمة عن ابن عباس فذكروهولهذا قال تعالى { قد كان لكم آية }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
    +/- -/+  
الأية
13
 
{ قد كان لكم آية } أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ماقلتم آية أي دلالة على أن الله معز دينه وناصر رسوله ومظهر كلمته ومعل أمره } في فئتين } أي طائفتين { التقتا } أي للقتال { فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة } وهم مشركو قريش يوم بدر وقوله { يرونهم مثليهم رأى العين } قال بعض العلماء فيما حكاه ابن جرير يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم أي جعل الله ذلك فيما رأوه سببا لنصرة الإسلام عليهم وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة وهي أن المشركين بعثوا عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسلمين فأخبرهم بأنهم ثلثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا وهكذا كان الأمر. كانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم. { والقول الثاني } أن المعنى في قوله تعالى { يرونهم مثليهم رأي العين } أي يرى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم أي ضعفيهم في العدد ومع هذا نصرهم الله عليهم وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي عن ابن عباس:أن المؤمنين كانوا يوم بدر ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين وكأن هذا القول مأخوذ من ظاهر هذه الآية ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس وخلاف المعروف عند الجمهور أن المشركين كانوا بين تسعمائة إلى ألف كما رواه محمد بن إسحق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال:كثير. قال { كم ينحرون كل يوم{ ؟ قال:يوما تسعا ويوما عشرا قال النبي صلى الله عليه وسلم { القوم ما بين تسعمائة إلى ألف }. وروى أبو إسحق السبيعي عن جارية عن علي رضي الله عنه قال:كانوا ألفا وكذا قال ابن مسعود. والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم لكن وجه ابن جرير هذا وجعله صحيحا كما تقول عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها وتكون محتاجا إلى ثلاثة آلاف وكذا قال وعلى هذا فلا إشكال لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين وهو أن يقال ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا } فالجواب أن هذا كان في حالة والآخر كان في حالة أخرى كما قال السدي عن الطيب عن ابن مسعود في قوله تعالى { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } الآية قال:هذا يوم بدر. قال عبدالله بن مسعود:وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا وذلك قوله تعالى { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم } الآية وقال أبو إسحق عن أبي عبدة عن عبدالله بن مسعود قال:لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي:تراهم سبعين قال:أراهم مائة. قال:فأسرنا رجلا منهم فقلنا كم كنتم؟ قال:ألفا فعندما عاين كل من الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم أي أكثر منهم بالضعف ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم عز وجل ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء وهؤلاء في أعين هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } أي ليفرق بين الحق والباطل فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان ويعز المؤمنين ويذل الكافرين كما قال تعالى { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } وقال ههنا { والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } أي إن في ذلك لعبرة لمن له بصيرة وفهم ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ
    +/- -/+  
الأية
14
 
يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء } فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه وإن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء وقوله صلى الله عليه وسلم { الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله } وقوله في الحديث الآخر { حبب إليّ النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة } وقالت عائشة رضي الله عنها:لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل وفي رواية:من الخيل إلا النساء. وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث { تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة } وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهذا مذموم وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات فهذا ممدوح محمود شرعا. وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال وحاصلها أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره وقيل:ألف دينار وقيل ألف ومائتا دينار وقيل اثنا عشر ألفا وقيل أربعون ألفا وقيل ستون ألفا وقيل سبعون ألفا وقيل ثمانون ألفا وقيل غير ذلك:وقد قال الإمام أحمد:حدثنا عبدالصمد حدثنا حماد عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { القنطار اثنا عشر ألف أوقية كل أوقية خير مما بين السماء والأرض } وقد رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الصمد بن عبدالوارث عن حماد بن سلمة به وقد رواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفا كرواية وكيع في تفسيره حيث قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن ذكوان أبي صالح عن أبي هريرة قال { القنطار اثنا عشر ألف أوقية الأوقية خير مما بين السماء والأرض } هذا أصح وهكذا رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل وابن عمر وحكاه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة وأبي الدرداء أنهم قالوا:القنطار ألف ومائتا أوقية. ثم قال ابن جرير رحمه الله:حدثنا زكريا بن يحيى الضرير حدثنا شبابة حدثنا مخلد بن عبدالواحد عن علي بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية } وهذا حديث منكر أيضا والأقرب أن يكون موقوفا على أبي بن كعب كغيره من الصحابة. وقد روى ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن إبراهيم عن موسى عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين ومن قرأ مائة آية إلى ألف أصبح له قنطار من الأجر عند الله القنطار منه مثل الجبل العظيم } ورواه وكيع عن موسى بن عبيدة بمعناه. وقال الحاكم في مستدركه:حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي حدثنا محمد بن عمرو بن أبي سلمة حدثنا زهير بن محمد حدثنا حميد الطويل ورجل آخر عن أنس بن مالك قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى { والقناطير المقنطرة{ ؟ قال:{ القنطار ألفا أوقية } صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا رواه الحاكم وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر فقال أنبأنا أحمد بن عبدالرحمن الرقي أنبأنا عمرو بن أبي سلمة أنبأنا زهير يعني ابن محمد أنبأنا حميد الطويل ورجل آخر قد سماه يعني يزيد الرقاشي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله { قنطار يعني ألف دينار } وهكذا رواه الطبراني عن عبدالله بن محمد بن أبي مريم عن عمرو بن أبي سلمة فذكر بإسناده مثله سواء. وروى ابن جرير عن الحسن البصري عنه مرسلا أو موقوفا عليه:القنطار ألف ومائتا دينار وهو رواية العوفي عن ابن عباس. وقال الضحاك:من العرب من يقول القنطار ألف ومائتا دينار ومنهم من يقول:اثنا عشر ألفا. وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي حدثنا عارم عن حماد عن سعيد الحرسي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال:القنطار ملء مسك الثور ذهبا قال أبو محمد:ورواه محمد بن موسى الحرسي عن حماد بن زيد مرفوعا والموقوف أصح. { وحب الخيل على ثلاثة أقسام } تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون وتارة تربط فخرا ونِوَاءً لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر كما سيأتي الحديث بذلك إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل } الآية:وأما المسومة فعن ابن عباس رضي الله عنهما:المسومة الراعية والمطهمة الحسان وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعبدالرحمن بن عبدالله بن أبزى والسدي والربيع بن أنس وأبي سنان وغيرهم. وقال مكحول: المسومة الغرة والتحجيل وقيل غير ذلك. وقد قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد عن عبدالحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن خديج عن أبي ذر رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول:اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب ماله وأهله إليه أو أحب أهله وماله إليه } وقـوله تعالى { والأنعام } يعني الإبل والبقر والغنم { والحرث } يعني الأرض المتخذة للغراس والزراعة. وقال الإمام أحمد حدثنا روح بن عبادة حدثنا أبو نعامة العدوي عن مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال { خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة } المأمورة الكثيرة النسل والسكة النخل المصطف والمأبورة الملقحة. ثم قال تعالى { ذلك متاع الحياة الدنيا } أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة { والله عنده حسن المآب } أي حسن المرجع والثواب. وقد قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن عطاء عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال:قال عمر بن الخطاب لما نزلت { زين للناس حب الشهوات } قلت:الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا } الآية.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَٰلِكُمْ ۚ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ ۗ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
    +/- -/+  
الأية
15
 
ولهذا قال تعالى { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } أي قل يا محمد للناس أؤخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة ثم أخبر عن ذلك فقال { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { خالدين فيها } أي ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولا { وأزواج مطهرة } أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا { ورضوان من الله } أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبدا ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة { ورضوان من الله أكبر } أي أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم ثم قال تعالى { والله بصير بالعباد } أي يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
    +/- -/+  
الأية
16
 
يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل فقال تعالى { الذين يقولون ربنا إننا آمنا } أي بك وبكتابك وبرسولك { فاغفر لنا ذنوبنا } أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك ورحمتك { وقنا عذاب النار }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ
    +/- -/+  
الأية
17
 
ثم قال تعالى { الصابرين } أي في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات { والصادقين } فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة { والقانتين } والقنوت الطاعة والخضوع { والمنفقين } أي من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات وصلة الأرحام والقرابات وسد الخلات ومواساة ذوي الحاجات { والمستغفرين بالأسحار } دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار وقد قيل:إن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه { سوف أستغفر لكم ربي } أنه أخرهم إلى وقت السحر. وثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه من جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال { ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فقول:هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ } الحديث. وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءا على حدة فرواه من طرق متعددة. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السَّحَر. وكان عبدالله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول:يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال:نعم أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير:حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن حريث بن أبي مطر عن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال:سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول:يا رب أمرتني فأطعتك وهذا السحر فاغفر لي فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه. وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال:كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
    +/- -/+  
الأية
18
 
شهد تعالى وكفى به شهيدا وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم وأصدق القائلين { أنه لا إله إلا هو } أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه وهو الغني عما سواه كما قال تعالى { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } الآية ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام { قائما بالقسط } منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك { لا إله إلا هو } تأكيد لما سبق { العزيز الحكيم } العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا بقية بن الوليد حدثني جبير بن عمرو القرشي حدثنا أبو سعيد الأنصاري عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال:حدثنا علي بن حسين حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عمر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري حدثنا عبدالملك بن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة } قال:قال { وأنا أشهد أي رب } وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي قالا:حدثنا عمار بن عمر المختار حدثني أبي حدثني غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام } ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة { إن الدين عند الله الإسلام } قالها مرارا قلت: لقد سمع فيها شيئا فغدوت إليه فودعته ثم قلت يا أبا محمد إني سمعتك تردد هذه الآية قال: أوما بلغك ما فيها قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة فأقمت سنة فكنت على بابه فلما مضت السنة قلت يا أبا محمد قد مضت السنة قال: حدثني أبو وائل عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله عز وجل: عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
    +/- -/+  
الأية
19
 
وقوله تعالى { إن الدين عند الله الإسلام } إخبارا منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } الآية. وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل منه عنده في الإسلام { إن الدين عند الله الإسلام } وذكر ابن جرير: أن ابن عباس قرأ { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام } بكسر إنه وفتح أن الدين عند الله الإسلام أي شهد هو والملائكة وأولو العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام والجمهور قرءوها بالكسر على الخبر وكلا المعنيين صحيح ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعدما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم فقال { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } أي بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقا ثم قال تعالى { ومن يكفر بآيات الله } أي من جحد ما أنزل الله في كتابه { فإن الله سريع الحساب } أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه ويعاقبه على مخالفته كتابه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ۗ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ ۚ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ۖ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ۗ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
    +/- -/+  
الأية
20
 
ثم قال تعالى { فإن حاجوك } أي جادلوك في التوحيد { فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن } أي فقل أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ولا ندّ له ولا ولد ولا صاحبة له { ومن اتبعن } أي على ديني يقول كمقالتي كما قال { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } الآية ثم قال تعالى آمرا لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به: الكتابيين من المليين والأميين من المشركين فقال تعالى { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتـدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ } أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ولهذا قال تعالى { والله بصير بالعباد } أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة وهو الذي { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وما ذلك إلا لحكمته ورحمته وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله تعالى { قل يا أيها الناس إني رسول الله لكم جميعا } وقال تعالى { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا }. وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له بذلك. وقد روى عبدالرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار } رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم { بعثت إلى الأحمر والأسود } وقال { كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة }. وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم { يا فلان قل لا إله إلا الله } فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أبيه فقال أبوه: أطع أبا القاسم فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول { الحمد لله الذي أخرجه بي من النار } رواه البخاري في الصحيح إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
    +/- -/+  
الأية
21
 
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديما وحديثا التي بلغتهم إياها الرسل استكبارا عليهم وعنادا لهم وتعاظما على الحق واستنكافا عن اتباعه ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم إلا لكونهم دعوهم إلى الحق { ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس } وهذا هو غاية الكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { الكبر بطر الحق وغمط الناس }. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو الزبير الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري نزيل مكة حدثني أبو حفص عمر بن حفص يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري حدثنا محمد بن حمزة حدثنا أبو الحسن مولى لبني أسد عن مكحول عن أبي قبيصة بن ذئب الخزاعي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال { رجل قتل نبيا أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر } ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم } الآية ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلا من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله عز وجل } وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصابي محمد بن حفص عن ابن حمير عن أبي الحسن مولى بني أسد عن مكحول به وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار وأقاموا سوق بقلهم من آخره رواه ابن أبي حاتم ولهذا لما أنْ تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة فقال تعالى { فبشرهم بعذاب أليم } أي موجع مهين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
    +/- -/+  
 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ
    +/- -/+  
الأية
23
 
يقول تعالى منكرا على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم وهما التوراة والإنجيل وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم تولوا وهم معرضون عنهما وهذا في غاية ما يكون من ذمهم والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ۖ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
    +/- -/+  
الأية
24
 
يقول تعالى منكرا على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم وهما التوراة والإنجيل وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم تولوا وهم معرضون عنهما وهذا في غاية ما يكون من ذمهم والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
    +/- -/+  
الأية
25
 
قال الله تعالى متهددا لهم ومتوعدا { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والله تعالى سائلهم عن ذلك كله وحاكم عليهم ومجازيهم به ولهذا قال تعالى { فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } أي لا شك في وقوعه وكونه { ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
26
 
يقول تبارك وتعالى { قل } يا محمد معظما لربك وشاكرا له ومفوضا إليه ومتوكلا عليه { اللهم مالك الملك } أي لك الملك كله { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء } أي أنت المعطي وأنت المانع وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن. وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي خاتم الأنبياء على الإطلاق ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله وخصه بخصائص لم يعطها نبيا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل في العلم بالله وشريعته واطلاعه على الغيوب الماضية والآتية وكشفه له عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار ولهذا قال تعالى { قل اللهم مالك الملك } الآية أي أنت المتصرف في خلقك الفعال لما تريد كما رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } قال الله ردا عليهم { أهم يقسمـون رحمة ربك } الآية أي نحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد بلا ممانع ولا مدافع ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك وهكذا يعطي النبوة لمن يريد كما قـال تعالى { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقال تعالى { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } الآية وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إسحق بن أحمد من تاريخه عن المأمون الخليفة أنه رأى في قصر ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية فعرب له فإذا هو بسم الله ما اختلف الليل والنهار ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن ملك قد زال سلطانه إلى ملك. وملك ذي العرش دائم أبدا ليس بفان ولا بمشترك.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
    +/- -/+  
الأية
27
 
وقوله تعالى { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان وهكذا في فصول السنة ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء وقوله تعالى { وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي } أي تخرج الزرع من الحب والحب من الزرع والنخلة من النواة والنواة من النخلة والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة. وما جرى هذا المجرى في جميع الأشياء { وترزق من تشاء بغير حساب } أي تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة. قال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا العلائي حدثنا جعفر بن حسن بن فرقد حدثنا أبي عن عمر بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ
    +/- -/+  
الأية
28
 
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ثم توعد على ذلك فقال تعالى { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي ومن يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة -إلى أن قال - ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم من بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } الآية. وقال سبحانه وتعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } وقوله تعالى { إلا أن تتقوا منهم تقاة } أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم. وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التَّقِيَّة بالعمل إنما التَّقِيَّة باللسان وكذا رواه العوفي عن ابن عباس إنما التقية باللسان وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء والضحاك والربيع بن أنس ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } الآية وقال البخاري: قال الحسن التقية إلى يوم القيامة ثم قال تعالى { ويحذركم الله نفسه } أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه. ثم قال تعالى { وإلى الله المصير } أي إليه المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا مسلم بن خالد عن ابن أبي حسين عن عبدالرحمن بن سابط عن ميمون بن مهران قال: قام فينا معاذ فقال: يا بني أود أني رسول رسول الله إليكم تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو إلى النار.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ ۗ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
29
 
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر وأنه لا يخفى عليه منهم خافية بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان والأيام واللحظات وجميع الأوقات وجميع ما في الأرض والسموات لا يغيب عنه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال { والله على كل شيء قدير } أي وقدرته نافذة في جميع ذلك وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم فإنه عالم بجميع أمورهم وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر. ولهذا قال بعد هذا { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا } الآية.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
    +/- -/+  
الأية
30
 
يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر كما قال تعالى { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخر } فما رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه وما رأى من قبيح ساءه وغصه وود لو أنه تبرأ منه وأن يكون بينهما أمد بعيد كما يقول لشيطانه الذي كان مقرونا به في الدنيا وهو الذي جرأه على فعل السوء { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين } ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا { ويحذركم الله نفسه } أي يخوفكم عقابه ثم قال جل جلاله مرجيا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه { والله رؤوف بالعباد } قال الحسن البصري: من رأفته بهم حذرهم نفسه وقال غيره: أي رحيم بخلقه يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم وأن يتبعوا رسوله الكريم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
31
 
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } ولهذا قال { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تحب. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عبدالله بن موسى بن عبدالأعلى بن أعين عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله{ ؟ قال الله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } وقال أبو زرعة: عبدالأعلى هذا منكر الحديث. ثم قال تعالى { ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } أي باتباعكم الرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكـم هذا من بركة سفارته.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
32
 
ثم قال تعالى آمرا لكل أحد من خاص وعام { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا } أي تخالفوا عن أمره { فإن الله لا يحب الكافرين } فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه والدخول في طاعته واتباع شريعته كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى { وإذا أخذ الله ميثاق النبيين } الآية إن شاء الله تعالى.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
    +/- -/+  
الأية
33
 
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض فاصطفى آدم عليه والسلام خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة واصطفى نوحا عليه السلام وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهارا فلم يزدهم ذلك إلا فرارا فدعا عليهم فأغرقهم الله عن آخرهم ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم وآل عمران والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم عليه السلام.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
34
 
قال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله: هو عمران بن ياشم بن ميشا بن حزقيا بن إبراهيم بن غرايا ابن ناوش بن أجر بن بهوا بن نازم بن مقاسط بن إيشا بن إياذ بن رخيعم بن سليمان بن داود عليهما السلام فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
    +/- -/+  
الأية
35
 
امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام وهي حنة بنت فاقوذ. قال محمد بن إسحق: وكانت امرأة لا تحمل فرأت يوما طائرا يزق فرخه فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا فاستجاب الله دعاءها فواقعها زوجها فحملت منه فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محررا أي خالصا مفرغا للعبادة لخدمة بيت المقدس فقالت: يا رب { إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } أي السميع لدعائي العليم بنيتي ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكرا أم أنثى.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
    +/- -/+  
الأية
36
 
{ فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } قرئ برفع التاء على أنها تاء المتكلم وأن ذلك من تمام قولها وقرئ بتسكين التاء على أنه من قول الله عز وجل { وليس الذكر كالأنثى } أي في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى { وإني سميتها مريم } فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا وقد حكى مقررا وبذلك ثبتت السنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال { ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم } أخرجاه وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه فحنكه وسماه عبدالله. وفي صحيح البخاري: أن رجلا قال: يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه؟ قال { سم ابنك عبدالرحمن } وثبت في الصحيح أيضا: أنه لما جاء أبو أسيد بابنه ليحنكه فذهل عنه فأمر به أبوه فرد إلى منزلهم فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سماه المنذر فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { كل غلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق رأسه } فقد رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وروى ويدمى وهو أثبت وأحفظ والله أعلم. وكذا ما رواه الزبير بن بكار في كتاب النسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن ولده إبراهيم وسماه إبراهيم فإسناده لا يثبت وهو مخالف لما في الصحيح ولو صح لحمل على أنه اشتهر اسمه بذلك يومئذ والله أعلم وقوله إخبارا عن أم مريم أنها قالت { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } أي عوذتها بالله عز وجل من شر الشيطان وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام فاستجاب الله لها ذلك كما قال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى { ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مسه إياه إلا مريم وابنها } ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } أخرجاه من حديث عبدالرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية عن الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وروي من حديث قيس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم } ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ورواه مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي يونس عن أبي هريرة ورواه ابن وهب أيضا عن ابن أبي ذئب عن عجلان مولى المشمعل عن أبي هريرة ورواه محمد بن إسحق عن يزيد بن عبدالله بن قسيط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصل الحديث وهكذا رواه الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج قال: قال أبو هريرة قال رسول الله صلى { كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن بالحجاب }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ۖ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
    +/- -/+  
الأية
37
 
يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة وأنه أنبتها نباتا حسنا أي جعلها شكلا مليحا ونظرا بهيجا ويسر لها أسباب القبول وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين فلهذا قال { وكفلها زكريا } بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية أي جعله كافلا لها قال ابن إسحق: وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة وذكر غيره: إن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب فكفل زكريا مريم لذلك ولا منافاة بين القولين والله أعلم وإنما قدر الله كون زكريا كفلها لسعادتها لتقتبس منه علما جما نافعا وعملا صالحا ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحق وابن جرير وغيرهما وقيل: زوج أختها كما ورد في الصحيح { فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة } وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحق ذلك أيضا توسعا فعلى هذا كانت في حضانة خالتها وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب وقال:{ الخالة بمنزلة الأم } ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلادتها في محل عبادتها فقال { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والربيع بن أنس وعطية العوفي والسدي: يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف وعن مجاهد { وجد عندها رزقا } أي علما أو قال: صحفا فيها علم رواه ابن أبي حاتم والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء وفي السنة لهذا نظائر كثيرة فإذا رأى زكريا هذا عندها { قال يا مريم أنى لك هذا } أي يقول من أين لك هذا؟ { قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سهل بن زنجلة حدثنا عبدالله بن صالح حدثنا عبدالله بن لهيعة عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال { يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ } قالت: لا والله بأبي أنت وأمي فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أوحسينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليها فقالت: بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك قال { هلمي يا بنية } قالت فأتيته بالجفنة فكشفت عنها فإذا هي مملوءة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهت وعرفت أنها بركة من الله فحمدت الله وصليت على نبيه وقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله وقال { من أين لك هذا يا بنية{ ؟ قالت: يا أبت { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } فحمد الله وقال { الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئا وسئلت عنه قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حتى شبعوا جميعا قالت: وبقيت الجفنة كما هي قالت: فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ
    +/- -/+  
الأية
38
 
لما رأى زكريا عليه السلام أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء طمع حينئذ فى الولد وإن كان شيخا كبيرا قد وهن منه العظم واشتعل الرأس شيبا وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرا لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفيا وقال { رب هب لي من لدنك } أي من عندك ذرية طيبة أي ولدا صالحا إنك سميع الدعاء.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
    +/- -/+  
الأية
39
 
قال الله تعالى { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } أي خاطبته الملائكة شفاها خطابا أسمعته وهو قائم يصلي في محراب عبادته ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته. ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة { أن الله يبشرك بيحيى } أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره: إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان. وقوله { مصدقا بكلمة من الله }. روى العوفي وغيره عن ابن عباس وقال الحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيره في هذه الآية { مصدقا بكلمة من الله } أي عيسى ابن مريم. وقال الربيع بن أنس: هو أول من صدق بعيسى ابن مريم. وقال قتادة: وعلى سنته ومنهاجه. وقال ابن جريج: قال ابن عباس في قوله مصدقا بكلمة من الله قال: كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له في بطن أمه وهو أول من صدق عيسى وكلمة الله عيسى وهو أكبر من عيسى عليه السلام وهكذا قال السدي أيضا. وقوله { وسيدا }. قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم: الحليم وقال قتادة: سيدًا في العلم والعبادة. وقال ابن عباس والثوري والضحاك السيد الحليم التقي: قال سعيد بن المسيب: هو الفقيه العالم وقال عطية: السيد في خلقه ودينه وقال عكرمة: هو الذي لا يغلبه الغضب وقال ابن زيد: هو الشريف وقال مجاهد وغيره هو الكريم على الله عز وجل. وقوله { وحصورا } روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وعطية العوفي أنهم قالوا: الذي لا يأتي النساء. وعن أبي العالية والربيع بن أنس: هو الذي لا يولد له ولا ماء له. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أنبأنا جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس في الحصور: الذي لا ينزل الماء وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبا جدا فقال: حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي حدثني سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن يحيى بن سعيد عن المسيب عن ابن العاص - لا يدري عبدالله أو عمرو- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { وسيدا وحصورا } قال: ثم تناول شيئا من الأرض فقال { كان ذكره مثل هذا }. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه سمع سعيد بن المسيب عن عبدالله بن عمرو بن العاص يقول: ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ثم قرأ سعيد { وسيدا وحصورا } ثم أخذ شيئا من الأرض فقال: الحصور من ذكره مثل ذا وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف أصبعه السبابة فهذا موقوف أصح إسنادا من المرفوع ورواه ابن المنذر في تفسيره: حدثنا أحمد بن داود السمناني حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما من عبد يلقى الله إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا فإن الله يقول { وسيدا وحصورا } - قال -: وإنما ذكره مثل هدبة الثوب } وأشار بأنملته وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عيسى بن حماد ومحمد بن سلمة المرادي قالا: حدثنا حجاج بن سليمان المقري عن الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { كل ابن آدم يلقى الله بذنب يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين } ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: { وكان ذكره مثل هذه القذاة }. وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان { حصورا } ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوبا أو لا ذكر له بل قد أنكر هذا حُذَّاق المفسرين ونُقَّاد العلماء وقالوا: هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها وقيل: مانعا نفسه من الشهوات وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل كيحيى عليه السلام ثم هي في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه: درجة عليا وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال:{ حبب إلي من دنياكم } هذا لفظه. والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء بل معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال: { هب لي من لدنك ذرية طيبة } كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله { ونبيا من الصالحين } هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته وهى أعلى من الأولى كقوله لأم موسى { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ
    +/- -/+  
الأية
40
 
فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة وأخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر { قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال } أي الملك { كذلك الله يفعل ما يشاء } أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ
    +/- -/+  
الأية
41
 
{ قال رب اجعل لي آية } أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني { قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح كما في قوله { ثلاث ليال سويا } ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال فقال تعالى { اذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم إن شاء الله تعالى.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
    +/- -/+  
الأية
42
 
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس واصطفاها ثانيا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين. قال عبدالرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى { إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين } قال: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط } ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد كلاهما عن عبدالرزاق به. وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن جعفر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى يقول: { خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد }. أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام به مثله وقال الترمذي: حدثنا أبو بكر بن زنجويه حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون } تفرد به الترمذي صححه. وقال عبدالله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه قال: كان ثابت البناني يحدث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخـديجة بنت خويلد وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه ابن مردويه أيضا ومن طريق شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال سول الله صلى الله عليه وسلم { كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام } وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا آدم العسقلاني حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة سمعت مرة الهمداني يحدث عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون }. وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود من طريق عن شعبة به ولفظ البخاري } كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام } وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليه السلام في كتابنا البداية والنهاية ولله الحمد المنة ثم أخبرنا تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة حيث خلق منها ولدا من غير أب فقال تعالى { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
    +/- -/+  
الأية
43
 
{ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى { وله من السموات والأرض كل له قانتون } وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة } ورواه ابن جرير من طريق ابن لهيعة عن دراج به وفيه نكارة. وقال مجاهد: كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها والقنوت هو طول الركوع في الصلاة يعني امتثالا لقول الله تعالى { يا مريم اقنتي لربك } قال الحسن: يعني اعبدي لربك { واسجدي واركعي مع الراكعين } أي كوني منهم وقال الأوزاعي: ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة حتى نزل ماء الأصفر في قدميها رضي الله عنها وأرضاها. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكديمي وفيه مقال: ثنا علي بن بحر بن بري ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير في قوله: { يا مريم اقنتي لربك واسجدي } قال: سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها وذكر ابن أبي الدنيا ثنا الحسن ابن عبدالعزيز ثنا ضمرة عن أبي شوذب قال: كانت مريم عليها السلام تغتسل في كل ليلة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
    +/- -/+  
الأية
44
 
ثم قال لرسوله بعدما أطلعه على جلية الأمر: { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } أي نقصه عليك { وما كنت لديهم } أي ما كنت عندهم يا محمد فتخبرهم عن معاينة عما جرى بل أطلعك الله على ذلك كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكلفها وذلك لرغبتهم في الأجر قال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني حجاج عن ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر عن عكرمة قال: ثم خرجت بها يعني مريم في خرقها إلى بني الكاهن بن هرون أخي موسى عليهما السلام قال: وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحَجَبَة من الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فإني حررتها وهي أنثى ولا يدخل الكنيسة حائض وأنا لا أردها إلى بيتي فقالوا: هذه ابنة إمامنا وكان عمران يؤمهم في الصلاة وصاحب قرباننا فقال زكريا: ادفعوها لي فإن خالتها تحتي فقالوا: لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكريا فكفلها وقد ذكر عكرمة أيضا والسدي وقتادة والربيع بن أنس وغير واحد دخل حديث بعضهم في بعض: أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت ويقال: إنه ذهب صاعدا يشق جرية الماء وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
    +/- -/+  
الأية
45
 
هذه بشارة من الملائكة لمريم عليها السلام بأن سيوجد منها وله عظيم له شأن كبير قال الله تعالى { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله أي يقول له كن فيكون وهذا تفسير قوله { مصدقا بكلمة من الله } كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } أي يكون هذا مشهورا في الدنيا يعرفه المؤمنون بذلك وسمي المسيح قال بعض السلف: لكثرة سياحته وقيل: لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما وقيل: لأنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى وقوله تعالى { عيسى ابن مريم } نسبة إلى أمه حيث لا أب له { وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين } أي له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ
    +/- -/+  
الأية
46
 
قوله { ويكلم الناس في المهد وكهلا } أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره معجزة وآية وفي حال كهولته حين يوحى الله إليه { ومن الصالحين } أي في قوله وعمله له علم صحيح وعمل صالح قال محمد بن إسحق: عن يزيد بن عبدالله بن قسيط عن محمد بن شرحبيل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما تكلم أحد في صغره إلا عيسى وصاحب جريج } وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حدثنا أبو الصقر يحيى بن محمد بن قزعة حدثنا الحسين يعني المروزي حدثنا جرير يعني ابن أبي حازم عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لم يتكلم في المهد إلا ثلاث: عيسى وصبي كان في زمن جريج وصبي آخر }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
    +/- -/+  
الأية
47
 
فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عز وجل قالت في مناجاتها: { رب أني يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } تقول كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ولا من عزمي أن أتزوج ولست بغيا حاشا لله فقال لها الملك عن الله عز وجل في جواب ذلك السؤال { كذلك الله يخلق ما يشاء } أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيئا وصرح ههنا بقوله { يخلق ما يشاء } ولم يقل يفعل كما في قصة زكريا بل نص ههنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة وأكد ذلك بقوله { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } أي فلا يتأخر شيئا بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة كقوله { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } أي إنما نأمر مرة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشيء سريعا كلمح البصر.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
    +/- -/+  
الأية
48
 
يقول تعالى مخبرا عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام: إن الله { يعلمه الكتاب والحكمة } الظاهر المراد بالكتاب ههنا الكتابة والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة والتوراة والإنجيل: فالتوراة الكتاب الذي نزل على موسى بن عمران والإنجيل الذي أنزل على عيسى ابن مريم عليهما السلام. وقد كان عيسى عليه السلام يحفظ هذا وهذا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
49
 
قوله { ورسولا إلى بني إسرائيل } قائلا لهم { أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله } وكذلك كان يفعل يصور من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عيانا بإذن الله عز وجل الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله { وأبرئ الأكمه } قيل: إنه الذي يبصر نهارا ولا يبصر ليلا وقيل بالعكس وقيل: الأعشى وقيل: الأعمش وقيل: هو الذي يولد أعمى وهو أشبه لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي { والأبرص } معروف { وأحيي الموتى بإذن الله } قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سَحَّار فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد أو على مداواة الأكمه والأبرص وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله عز وجل فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بعَشْر سور من مثله أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا وما ذلك إلا أن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدا وقوله { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن وما هو مدخر له في بيته لغد { إن في ذلك } أي في ذلك كله { لآية لكم } أي على صدقي فيما جئتكـم به.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ
    +/- -/+  
الأية
50
 
{ إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من التوراة } أي مقرا لهم ومثبتا { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئا وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك كما قال في الآية الأخرى { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } والله أعلم. ثم قال { وجئتكم بآية من ربكم } أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
51
 
{ فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه } أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه { هذا صراط مستقيم }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
    +/- -/+  
الأية
52
 
يقول تعالى { فلما أحس عيسى } أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال قال: { من أنصاري إلى الله } قال مجاهد: أي من يتبعني إلى الله وقال سفيان الثوري وغيره: أي من أنصاري مع الله وقول مجاهد أقرب. والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر { من رجل يؤويني حق أبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي } حتى وجد الأنصار فأووه ونصروه وهاجر إليهم فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر رضي الله عنهم وأرضاهم. وهكذا عيسى ابن مريم عليه السلام انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ولهدا قال تعالى مخبرا عنهم { قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } الحواريون قيل: كانوا قصارين وقيل سموا بدلك لبياض ثيابهم وقيل: صيادين. والصحيح أن الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم { لكل نبي حواري وحواري الزبير }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
    +/- -/+  
الأية
53
 
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { فاكتبنا مع الشاهدين } قال: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا إسناد جيد.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ۖ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
54
 
ثم قال تعالى مخبرا عن ملإ بني إسرائيل فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه السلام وإرادته بالسوء والصلب حين تمالئوا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان وكان كافرا أن هنا رجلا يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك ويفسد الرعايا ويفرق بين الأب وابنه إلى غير ذلك مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب وأنه ولد زنية حتى استثاروا غضب الملك فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به نجاه الله تعالى من بينهم ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى فأخذوه وأهانوه وصلبوه ووضعوا على رأسه الشوك. وكان هذا من مكر الله بهم فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم وتركهم في ضلالهم يعمهون يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعنادا للحق ملازما لهم وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد ولهذا قال تعالى { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
    +/- -/+  
الأية
55
 
اختلف المفسرون في قوله تعالى { إني متوفيك ورافعك إلي } فقال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر تقديره إني رافعك إلي ومتوفيك يعني بعد ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إني متوفيك أي مميتك. وقال محمد بن إسحق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه قال: توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه قال ابن إسحق: والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه قال إسحق بن بشر عن إدريس عن وهب: أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعها قال مطر الوراق: إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت وكذا قال ابن جرير توفيه هو رفعه. وقال الأكثرون: المراد بالوفاة ههنا النوم كما قال تعالى { وهو الذي يتوفاكم بالليل } الآية. وقال تعالى { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها } الآية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من النوم: { الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا } الحديث وقال تعالى: { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم -إلى قوله- وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } والضمير في قوله قبل موته عائد على عيسى عليه السلام أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدالرحمن حدثنا عبدالله بن أبي جعفر عن أبيه حدثنا الربيع بن أنس عن الحسن أنه قال في قوله تعالى { إني متوفيك } يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود { إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة } وقوله تعالى { ومطهرك من الذين كفروا } أي برفعي إياك إلى السماء { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة }. وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام لما رفعه الله إلى السماء تفرفت أصحابه شيعا بعده فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبدالله ورسوله وابن أمته ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله وآخرون قالوا هو الله وآخرون قالوا هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالتهم في القرآن ورد على كل فريق فاستمروا على ذلك قريبا من ثلثمائة سنة ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له قسطنطين فدخل في دين النصرانية قيل: حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفا وقيل: جهلا منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه وزاد فيه ونقص منه ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة وأحل في زمانه لحم الخنزير وصلوا إلى المشرق وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد وبنى المدينة المنسوبة إليه واتبعه طائفة الملكية منهم وهم في هذا كله قاهرون لليهود أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم وإن كان الجميع كفارا عليهم لعائن الله فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق الذي لا يبدل ولا يغير إلى قيام الساعة ولا يزال قائما منصورا ظاهرا على كل دين فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها واحتازوا جميع الممالك ودانت لهم جميع الدول وكسروا كسرى وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم عز وجل في قوله { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهـم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } الآية فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا سلبوا النصارى بلاد الشام وألجئوهم إلى الروم فلجئوا إلى مدينتهم القسطنطينية ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جدا لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها وقد جمعت في هذا جزءا مفردا ولهذا قال تعالى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
56
 
وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق { وما لهم من الله من واق }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
    +/- -/+  
الأية
57
 
{ وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } أي في الدنيا والآخرة في الدنيا بالنصر والظفر وفي الآخرة بالجنات العاليات { والله لا يحب الظالمين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
    +/- -/+  
الأية
58
 
ثم قال تعالى { ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره هو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ فلا مرية فيه ولا شك كما قال تعالى في سورة مريم { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } وههنا قال تعالى: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
    +/- -/+  
الأية
59
 
يقول جل وعلا { إن مثل عيسى عند الله } في قدرة الله حيث خلقه من غير أب { كمثل آدم } حيث خلقه من غير أب ولا أم بل { خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقا من غير أب فجوز ذلك في آدم بالطريق الأولى ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل فدعواه في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ولهذا قال تعالى في سورة مريم { ولنجعله آية للناس{ وقال ههنا { الحق من ربك فلا تكن من الممترين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
    +/- -/+  
الأية
60
 
{ الحق من ربك فلا تكن من الممترين } أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه وماذا بعد الحق إلا الضلال.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
    +/- -/+  
الأية
61
 
ثم قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } أي نحضرهم في حال المباهلة { ثم نبتهل } أي نلتعن { فنجعل لعنة الله على الكاذبين } أي منا ومنكم. وكان سبب نزول هذه المباهله وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: إن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية فأنزل الله صدر في هذه السورة ردا عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم: العاقب واسمه عبدالمسيـح والسيد وهو الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل وأويس بن الحارث وزيد وقيس ويزيد وابناه وخويلد وعمرو وخالد وعبدالله ومحسن وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم وأبو حارثه بن علقمة وكان أسقفهم صاحب مدارستهم وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وشأنه ما علمه من الكتب المتقدمة ولكن حمله ذلك على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية من جمال رجال بني الحارث بن كعب قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { دعوهم } فصلوا الى المشرق قال: فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة والعاقب عبدالمسيح والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله ويقولون: هو ولد الله ويقولون: هو ثالث ثلاثة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وكذلك النصرانية فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتي ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا وذلك كله بأمر الله وليجعله الله آية للناس ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله يقولون: لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله. ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم - تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا - وفي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن. فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم { أسلما } قالا قد أسلمنا قال { إنكما لم تسلما فأسلما } قالا: بلى قد أسلمنا قبلك قال { كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير } قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبيتهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم أن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ثم انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبدالمسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم. ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكـم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين } فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها فرحت إلى الظهر مهجرا فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال { اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه } قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج: أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه إلا أنه قال في الأشراف: كانوا اثني عشر وذكر بقيته بأطول من هذا السياق وزيادات أخر. وقال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين حدثنا يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحق عن صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال { لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين } فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { قم يا أبا عبيدة بن الجراح } فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { هذا أمين هذه الأمة }. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث إسرائيل عن أبي إسحق عن صلة عن حذيفة بنحوه وقد رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث إسرائيل عن أبي إسحق عن صلة عن ابن مسعود بنحوه. وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن خالد عن أبي قلابة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح }. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد حدثنا قرة عن عبدالكريم بن مالك الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو جهل قبحه الله إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته قال: فقال { لو فعل لأخذتة الملائكة عيانا ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا } وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث عبدالرزاق عن معمر عن عبدالكريم به وقال الترمذي: حسن صحيح وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جدا ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة وفيه غرابة وفيه مناسبة لهذا المقام قال البيهقي: حدثنا أبو عبدالله الحافظ أبو سعيد ومحمد بن موسى بن الفضل قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبدالجبار حدثنا يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده قال يونس- وكان نصرانيا فأسلم - أن رسول الله صلي الله تعالى عليه وعلى آله وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان { باسم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران أسلم أنتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام } فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به وذعره ذعرا شديدا وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة وكان من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى إلى شرحبيل فقرأه فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما مؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل ليس لي في أمر النبوة رأي ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي واجتهدت لك فقال الأسقف: تنح فاجلس فتنحى شرحبيل فجلس ناحية فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبدالله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقراه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال مثل قول شرحبيل فقال له الأسقف: تنح فاجلس فتنحى عبدالله فجلس ناحية فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه؟ فقال له مثل قول شرحبيل و عبدالله فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحية فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ورفعت النيران والمسوح في الصوامع وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله وطول الوادي مسيرة يوم للراكـب السريع وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمدانى و عبدالله بن شرحبيل الأصبحي وجبار بن فيض الحارثي فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فلم يرد عليهم وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا يا عثمان ويا عبدالرحمن إن نبيكم كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا وتصديقنا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما أترون أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبدالرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم يعودون إليه ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم ثم قال { والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم } ثم سألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى } فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الآية { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم - إلى قوله - الكاذبين } فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل مبعوثا فكنا أول العرب طعنا في عينيه وردا عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبنا بجائحة وأنا لأدنى العرب منهما جوارا ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك فقال صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقال: أرى أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له: أنت وذاك قال: فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك فقال { وما هو؟ } فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لعل وراءك أحدا يثرب عليك { ؟ فقال شرحبيل: سل صاحبي فسألهما فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي صلى الله عليه وسلم لنجران - إن كان عليهم حكمه - في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر ألف حلة } وذكر تمام الشروط وبقية السياق والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لأن الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح وهي قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن داود المكي حدثنا بشر بن مهران حدثنا محمد بن دينار عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن جابر قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { والذي بعثني بالحق لو قالا: لا لأمطر عليهم الوادي نارا } قال جابر: وفيهم نزلت { ندع أبناءك وأبناءكم ونساءك ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } قال جابر { أنفسنا وأنفسكم } رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب { وأبناءنا } الحسن والحسين { ونساءنا } فاطمة. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى عن أحمد بن محمد بن الأزهري عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند به بمعناه. ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه هكذا. قالا: وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا وهذا أصح وقد روى عن ابن عباس والبراء نحو ذلك.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ۚ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللهُ ۚ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
    +/- -/+  
الأية
62
 
ثم قال الله تعالى { إن هذا لهو القصص الحق } أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد { وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا }. أي عن هذا إلى غيره.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
    +/- -/+  
الأية
63
 
{ فإن الله عليم بالمفسدين } أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به وسيجزيه على ذلك سر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
    +/- -/+  
الأية
64
 
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة } والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال ههنا ثم وصفها بقوله { سواء بيننا وبينكم } أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها ثم فسرها بقوله { أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شيئا بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له وهذه دعوة جميع الرسل قال الله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه إنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ثم قال تعالى { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله }. وقال ابن جريج: يعني يطيع بعضنا بعضا في معصية الله. وقال عكرمة: يسجد بعضنا لبعض { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فاشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم. وقد ذكرنا في شرح البخاري عند روايته من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر فسأله عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه فأخبره بجميع ذلك على الجلية مع أن أبا سفيان إذ ذاك كان مشركا لم يسلم إلا بعد وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح كما هو مصرح به في الحديث ولأنه لما سأله: هل يغدر؟ قال: فقلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال: ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئا سوى هذه والغرض أنه قال ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم وأسلم يؤتك أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. وقد ذكر محمد بن إسحق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران. وقال الزهري: هم أول من بذل الجزية ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل الفتح إلى هرقل في جملة الكتاب وبين ما ذكره محمد بن إسحق والزهري؟ والجواب من وجوه. { أحدها } يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين مرة قبل الحديبية ومرة بعد الفتح. { الثاني } يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى هذه الآية وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك ويكون قول ابن إسحق إلى بضع وثمانين آية ليس بمحفوظ لدلالة حديث أبي سفيان. { الثالث } يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية وأن الذي بذلوه مصالحة عن المباهلة لا على وجه الجزية بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك كما جاء فرض الخمس والأربعة أخماس وفق ما فعله عبدالله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك. { الرابع } يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكتب هذا في كتابه إلى هرقل لم يكن نزل بعد ثم أنزل القرآن موافقة له صلى الله عليه وسلم كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب في الحجاب وفي الأسارى وفي عدم الصلاة على المنافقين وفي قوله { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وفي قوله { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } الآية.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
    +/- -/+  
الأية
65
 
ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل عليه السلام ودعوى كل طائفة منهم أنه كان منهم كما قال محمد بن إسحق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم } الآية أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهوديا وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر ولهذا قال تعالى أفلا تعقلون.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ۚ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
    +/- -/+  
الأية
66
 
قال تعالى { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } الآية. هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم وإنما تكلموا فيما لا يعلمون فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهـادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها ولهذا قال تعالى { والله يعلم وأنتم لا تعلمون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
    +/- -/+  
الأية
67
 
قال تعالى { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما } أي متحنفا عن الشرك قاصدا إلى الإيمان { وما كان من المشركين } وهذه الآية كـالتي تقدمت في سورة البقرة { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا } الآية. ثم قال تعالى { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين } يقول تعالى: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه وهذا النبي يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. قال سعيد بن منصور حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عز وجل }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
68
 
{ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه } الآية. وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري عن أبيه به. ثم قال البزار: ورواه غير أبي أحمد عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن عبدالله ولم يذكر مسروقا وكذا رواه الترمذي من طريق وكيع عن سفيان ثم قال: وهذا أصح لكن رواه وكيع في تفسيره فقال: حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي إسحق عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل الله عز وجل إبراهيم عليه السلام } ثم قرأ { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } الآية وقوله { والله ولي المؤمنين } أي ولي جميع المؤمنين برسله.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
    +/- -/+  
الأية
69
 
يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين وبغيهم إياهم الإضلال وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
    +/- -/+  
الأية
70
 
قال تعالى منكرا عليهم { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون } أي تعلمون صدقها وتتحققون حقها.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
    +/- -/+  
الأية
71
 
{ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } أي تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
    +/- -/+  
الأية
72
 
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } الآية. هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين ولهذا قالوا { لعلهم يرجعون } وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد في قوله تعالى إخبارا عن اليهود بهذه الآية يعني يهودا صلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت لهم الضلالة منه بعد أن كانوا اتبعوه. وقال العوفي عن ابن عباس: قالت طائفة من أهل الكتاب إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا وهكذا روى عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ۗ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
73
 
وقوله تعالى { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } أي تطمئنوا وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم. قال الله تعالى { قل إن الهدى هدى الله } أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات والدلائل القاطعات والحجج الواضحات وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين وقوله { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم } يقولون لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم ويساوونكم فيه ويمتازون به عليكم لشدة الإيمان به أو يحاجوكم به عند ربكم أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وترتكب الحجة في الدنيا والآخرة قال الله تعالى { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } أي الأمور كلها تحت تصرفه وهو المعطي المانع يمن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته ويختم على قلبه وسمعه ويجعل على بصره غشاوة وله الحجة التامة والحكمة البالغة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
    +/- -/+  
الأية
74
 
{ والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم } أي اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يحد ولا يوصف بما شرف به نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وهداكم به إلى أكمل الشرائع.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
    +/- -/+  
الأية
75
 
يخبر تعالى عن اليهود بأن منهم الخونة ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم فإن منهم { من إن تأمنه بقنطار } أي من المال { يؤده إليك } أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤده إليك { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما } أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليك. وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة وأما الدينار فمعروف. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا سعيد بن عمرو السكوتي حدثنا بقية عن زياد بن الهيثم حدثني مالك بن دينار قال: إنما سمي الدينار لأنه دين ونار. وقيل: معناه من أخذه بحقه فهو دينه. ومن أخذه بغير حقه فله النار ومناسب أن يذكر ههنا الحديث الذي علقه البخاري في غير موضع من صحيحه ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال: وقال الليث حدثني جعفر بن ربيعة عن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا من بني اسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم فقال: كفى بالله شهيدا فقال: ائتني بالكفيل قال: كفى بالله كفيلا قال: صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يركبها ليقدم عليه في الأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أنى استسلفت فلانا ألف دينار فسألني شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا وسألني كفيلا فقلت كفى بالله كفيلا فرضى بك وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له فلم أقدر وإني استودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي كان سلفه لينظر لعل مركبا يجيئه بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال: هل كنت بعثت إلى بشيء؟ قال: ألم أخبرك أنى لم أجد مركبا قبل هذا قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بألف دينار راشدا } هكذا رواه البخاري في موضع معلقا بصيغة الجزم وأسنده في بعض المواضع من الصحيح عبدالله بن صالح كاتب الليث عنه.ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا مطولا عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث به. ورواه البزار في مسنده عن الحسن بن مدرك عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ثم قال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد كذا قال وهو خطأ لما تقدم وقوله { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميين وهم العرب فإن الله قد أحلها لنا قال الله تعالى { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } أي وقد اختلقوا هذه المقالة وائتفكوها بهذه الضلالة فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما هم قوم بهت. قال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن أبي إسحق الهمداني عن أبي صعصعة بن يزيد أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة قال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا بذلك بأس قال: هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكـم أموالهم إلا بطيب أنفسهم. وكذا رواه الثوري عن أبي إسحق بنحوه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا يعقوب حدثنا جعفر عن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل قال نبي الله صلى الله عليه وسلم { كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلة إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
    +/- -/+  
الأية
76
 
قال تعالى { بلى من أوفى بعهده واتقى } أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك واتقى محارم الله واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم فإن الله يحب المتقين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
77
 
يقول تعالى إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة } أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة } أي برحمة منه لهم يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة { ولا يزكيهم } أي من الذنوب والأدناس بل يأمر بهم إلى النار { ولهم عذاب أليم }. وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر { الحديث الأول } قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا شعبة قال علي بن مدرك أخبرني قال: سمعت أبا زرعة عن خرشة بن الحر عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر اليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم؟ خسروا وخابوا قال: وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال { المسبل والمنفِّق سلعته بالحلف الكاذب والمنان }. ورواه مسلم وأهل السنن من حديث شعبة به { طريق أخرى } قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي العلاء بن الشخير عن أبي الأحمس قال: لقيت أبا ذر فقلت له بلغني عنك أنك تحدث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنه لا يخالني أن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعته منه فما الذي بلغك عني؟ قلت بلغني أنك تقول: ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يشنؤهم الله قال: قلته سمعته قلت: فمن هؤلاء الذين يحبهم الله؟ قال: { الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن } قلت: ومن هؤلاء الذين يشنؤهم الله؟ قال { التاجر الحلاف - أو قال البائع الحلاف - والفقير المحتال والبخيل المنان } . غريب من هذا الوجه. { الحديث الثاني } قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن جرير بن حازم حدثنا عدي بن عدي أخبرني رجاء بن حيوة والعرس بن عميرة عن أبيه عدي هو ابن عميرة الكندي قال: خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ القيس بن عامر رجلا من حضر موت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فقضى على الحضرمي بالبينة فلم يكن له بينة فقضى على امرئ القيس باليمين فقال الحضرمي: أمكنته من اليمين يا رسول الله؟ ذهبت ورب الكعبة أرضى فقال النبي صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان } قال رجاء: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال { الجنة } قال: فاشهد أني قد تركها له كلها ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي به. { الحديث الثالث } قال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان } فقال الأشعث: في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني أرضي فقدمته إلى رسول الله صلى فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألك بينة{ ؟ قلت: لا فقال لليهودي:{ احلف }.فقلت يا رسول الله إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله عز وجل إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية أخرجاه من حديث الأعمش { طريق أخرى } قال أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق بن سلمة حدثنا عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان } قال: فجاء الأشعث بن قيس فقال: ما يحدثكم أبو عبدالرحمن؟ فحدثناه فقال: كان في هذا الحديث خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر كانت لي في يده فجحدني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { بينتك إنها بئرك وإلا فيمينه } قال: قلت يا رسول الله مالي بينة وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم { من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان } قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية. { الحديث الرابع } قال أحمد: حدثنا يحيى بن غلان قال حدثنا رشيدين عن زياد عن سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إن لله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم } قيل: ومن أولئك يا رسول الله؟ قال { متبرئ من والديه راغب عنهما ومتبرئ من ولده ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم }. { الحديث الخامس } قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا هشيم أنبأنا العوام يعني ابن حوشب عن إبراهيم بن عبدالرحمن يعني السكسكي عن عبدالله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية. ورواه البخاري من غير وجه عن العوام. { الحديث السادس } قال الإمام أحمد حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده ورجل حلف على سلعة بعد العصر يعني كاذبا ورجل بايع إماما فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له { ورواه أبو داود والترمذي من حديث وكيع وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
    +/- -/+  
الأية
78
 
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ولهذا قال الله تعالى { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } وقال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس: { يلوون ألسنتهم بالكتاب } يحرفونه وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله لكنهم يحرفونه ويتأولونه على غير تأويله. وقال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله } فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول رواه ابن أبي حاتم فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص. وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم فاحش وهو من باب تفسير المعرب المعبر وفهم كثير منهم بل أكثرهم بل جميعهم فاسد وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
    +/- -/+  
الأية
79
 
قال محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس:أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ أو كما قال: فقال رسول الله صلى الله علليه وسلم { معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرنى } أو كما قال صلى الله عليه وسلم فأنزل الله في ذلك من قولهما { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة - إلى قوله - بعد إذ أنتم مسلمون } فقوله { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة أن يقول للناس اعبدوني من دون الله أي مع الله فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته قال: ذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم كما قال الله تعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } الآية. وفي المسند والترمذي كما سيأتي أن عدي بن حاتم قال: يا رسول الله ما عبدوهم قال { بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم { فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام. فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة فقاموا بذلك أتم القيام ونصحوا الخلق وبلغوهم الحق وقوله { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } أي ولكن يقول الرسول للناس كونوا ربانيين قال ابن عباس وأبو رزين وغير واحد أي حكماء علماء حلماء وقال الحسن وغير واحد: فقهاء وكذا روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني وعطية العوفي والربيع بن أنس. وعن الحسن أيضا يعني أهل عبادة وأهل تقوى. وقال الضحاك في قوله { بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيها تعلمون أي تفهمون معناه وقرئ تعلمون بالتشديد من التعليم { وبما كنتم تدرسون } تحفظون ألفاظه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ۗ أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
    +/- -/+  
الأية
80
 
ثم قال الله تعالى { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } أي ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله لا نبي مرسل ولا ملك مقرب { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } الآية وقال { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الله آلهة يعبدون } وقال إخبارا عن الملائكة { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
    +/- -/+  
الأية
81
 
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام لمهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ثم جاء رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ولهذا قال تعالى وتقدس { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة } أي لمهما أعطيتكم من كتاب وحكمة } ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري { وقال ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة والسدي: يعني عهدي وقال محمد بن إسحق { إصري } أي ثقل ما حملتم من عهدي أي ميثاقى الشديد المؤكد { قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
    +/- -/+  
الأية
82
 
{ فمن تولى بعد ذلك { أي عن هذا العهد والميثاق{ فأولئك هم الفاسقون }. قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. وقال طاووس والحسن البصري وقتادة:أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه ولهذا روى عبدالرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مثل قول على وابن عباس وقد قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق أنبأنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن عبدالله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أمرت بأخ لي يهودي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبدالله بن ثابت قلت له ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا قال: فسرى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال { والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين } { حديث آخر } قال الحافظ أبو يعلى حدثنا إسحق حدثنا حماد عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق وإنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني } وفي بعض الأحاديث { لو كان موسى وعيسى حين لما وسعهما إلا اتباعي } فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس: وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهى النوبة إليه فيكون هو المخصوص به صلوات الله وسلامه عليه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
    +/- -/+  
الأية
83
 
يقول تعالى منكرا على من أراد دينا سوى دين الله الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو عبادة الله وحده لا شريك له الذي له أسلم من في السموات والأرض أي استسلم له من فيهما طوعا وكرها كما قال تعالى { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها } الآية وقال تعالى { أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله والكافر مستسلم لله كرها فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع. وقد ورد حديث في تفسير هذه الآية على معنى آخر فيه غرابة فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن النضر العسكري حدثنا سعيد بن حفص النفيلي حدثنا محمد بن محصن العكاشي حدثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه وسلم { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } { أما من في السموات فالملائكة وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام وأما كرها فمن أتى به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون } وقد ورد في الصحيح } عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل { وسيأتي له شاهد من وجه آخر ولكن المعنى الأول للآية أقوى. وقد قال وكيع في تفسيره: حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } قال: هو كقوله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } وقال أيضا: حدثنا سفيان عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } قال: حين أخذ الميثاق { وإليه يرجعون } أي يوم المعاد فيجازي كلا بعمله.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
    +/- -/+  
الأية
84
 
قال تعالى { قل آمنا بالله وما أنزل علينا } يعني القرآن { وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب } أي من الصحف والوحي { والأسباط } وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب الاثنى عشر { وما أوتي موسى وعيسى } يعني بذلك التوراة والإنجيل { والنبيون من ربهم } وهذا يعم جميع الأنبياء جملة { لا نفرق بين أحد منهم } يعني بل نؤمن بجميعهم { ونحن له مسلمون } فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل وبكل كتاب أنزل لا يكفرون بشيء من ذلك بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله وبكل نبي بعثه الله.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
85
 
ثم قال تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } الآية. أي من سلك طريقا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه { وهو في الآخرة من الخاسرين } كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عباد بن راشد حدثنا الحسن حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن بالمدينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة فيقول إنك على خير وتجيء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول إنك على خير ثم يجيء الصيام فيقول يا رب أنا الصيام فيقول إنك على خير ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله إنك على خير ثم يجيء الإسلام فيقول يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله تعالى إنك على خير بك اليوم آخذ وبك أعطي. قال الله في كتابه { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } تفرد به أحمد قال أبو عبدالرحمن عبدالله بن الإمام أحمد: عباد بن راشد ثقة ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
    +/- -/+  
الأية
86
 
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبدالله بن بزيع البصري حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم - إلى قوله - فإن الله غفور رحيم } فأرسل إليه قومه فأسلم وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان من طريق داود بن أبي هند به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد يخرجاه. وقال عبدالرزاق أنبأنا جعفر بن سليمان حدثنا حميد الأعرج عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه { كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم- إلى قوله- غفور رحيم }. قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأ عليه فقال الحارث: إنك - والله ما علمت - لصدوق وإن رسول الله لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه فقوله تعالى { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات } أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعد ما تلبسوا به العماية؟ ولهذا قال تعالى { والله لا يهدي القوم الظالمين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
    +/- -/+  
الأية
87
 
ثم قال تعالى { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } أي يلعنهم الله ويلعنهم خلقه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ
    +/- -/+  
الأية
88
 
{ خالدين فيها } أي في اللعنة { لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
89
 
ثم قال تعالى { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه أن من تاب إليه تاب عليه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ
    +/- -/+  
الأية
90
 
يقول تعالى متوعدا ومهددا لمن كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا أي استمر إلى الممات ومخبرا بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات كما قال تعالى { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت } الآية ولهذا قال ههنا { لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون } أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي. قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيع حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس: أن قوما أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم } هكذا رواه وإسناده جيد.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
91
 
ثم قال تعالى { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن جدعان وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام هل ينفعه ذلك؟ فقال { لا إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين } وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضا ذهبا ما قبل منه كما قال تعالى { ولا يقبل منها عدل ولا ينفعها شفاعة } وقال { لا بيع فيه ولا خلال } وقال { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم } ولهذا قال تعالى ههنا { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } فعطف ولو افتدى به على الأول فدل على أنه غيره. وما ذكرناه أحسن من أن يقال إن الواو زائدة والله أعلم ويقتضي ذلك أن لا ينقذه من عذاب الله شيء ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهبا ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهبا بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها. وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني عن أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول نعم فيقول نعم فيقول الله قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم ان لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك }. وهكذا أخرجه البخاري ومسلم { طريق أخرى } وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب خير منزل فيقول: سل وتمن فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار لما يرى من فضل الشهادة ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب شر منزل فيقول له أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول أي رب نعم فيقول: { كذبت قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار } ولهذا قال { أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين } أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
92
 
روى وكيع في تفسيره عن شريك عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون { لن تنالوا البر } قال الجنة وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا مالك عن أبي إسحق بن عبدالله بن أبي طلحة سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما نزلت { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى يا رسول الله حيث أراك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم بخ بخ ذاك مال رابح ذاك مال رابح وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه أخرجاه وفي الصحيحين أن عمر قال: يا رسول الله لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر فما تأمرني به؟ قال { حبس الأصل وسبل الثمرة } وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني حدثنا يزيد بن هرون حدثنا محمد بن عمرو عن أبي عمرو بن حماس عن حمزة بن عبدالله بن عمر قال: قال عبدالله حضرتني هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحب إلى من جارية لي رومية فقلت: هي حرة لوجه الله فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها يعني تزوجتها.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
    +/- -/+  
الأية
93
 
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبدالحميد حدثنا شهر قال: قال ابن عباس: حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي قال { سلوني عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الإسلام } قالوا فذلك لك قالوا: أخبرنا على أربع خلال أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه فقال { أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديد وطال سقمه فنذر لله نذرا لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها } فقالوا: اللهم نعم فقال { اللهم اشهد عليهم } وقال { أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله } قالوا: نعم قال { اللهم اشهد عليهم } قال { وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه } قالوا: اللهم نعم قاله { اللهم اشهد } قال { وإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه } قالوا: فعند ذلك نفارقك ولو كان وليك غيره لتابعناك فعند ذلك قال الله تعالى { قل من كان عدوا لجبريل } الآية ورواه أحمد أيضا عن حسين بن محمد عن عبدالحميد به } طريق أخرى } قال أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيرى حدثنا عبدالله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال { والله على ما نقول وكيل } قال { هاتوا } قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ قال { تنام عيناه ولا ينام قلبه } قالوا: أخبرك كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر قال { يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت وإذا علا ماء المراة أنثت { قالوا أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال { كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا - قال أحمد: قال بعضهم يعني الإبل- فحرم لحومها { قالوا: صدقت قالوا: أخبرك ما هذا الرعد ؟ قال { ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيده - أو في يديه - مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله عز وجل { قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال { صوته { قالوا: صدقت إنما بقيت واحدة وهي التي فتابعك إن أخبرتنا بها: إنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال { جبريل عليه السلام } قالوا: جبريل ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فأنزل الله تعالى { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين } والآية بعدها وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث عبدالله بن الوليد العجلي به نحوه وقال الترمذي حسن غريب. وقال ابن جريج والعوفي عن ابن عباس: كان إسرائيل عليه السلام- وهو يعقوب - يعتريه عرق النسا بالليل. وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ويقلع الوجع عنه بالنهار فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عرقا ولا يأكل ولد ماله عرق وهكذا قال الضحاك والسدي كذا رواه وحكاه ابن جرير في تفسيره قال: فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استنانا به واقتداء بطريقه قال: وقوله { من قبل أن تنزل التوراة } أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قلت: ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان. { إحداهما } أن إسرائيل عليه السلام حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله وكان هذا سائغا في شريعتهم فله مناسبة بعد قوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }.فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة الله مما يحبه العبد ويشتهيه كما قال تعالى { وآتى المال على حبه } وقال تعالى { ويطعمون الطعام على حبه } الآية { المناسبة الثانية } لما تقدم بيان الرد على النصارى واعتقادهم الباطل في المسيح وتبيين زيف ما ذهبوا إليه وظهور الحق واليقين في عيسى وأمه كيف خلقه الله بقدرته ومشيئته وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تبارك وتعالى شرع في الرد على اليهود قبحهم الله تعالى وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع فإن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وألبانها فاتبعه بنوه في ذلك وجاءت التوراة بتحريم ذلك وأشياء أخرى زيادة على ذلك وكان الله عز وجل قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك بعد ذلك وكان التسري على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم عليه السلام وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة. وقد حرم مثل هذا في التوراة عليهم وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغا وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين ثم حرم عليهم ذلك في التوراة. وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم وهذا هو النسخ بعينه. فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح عليه السلام في إحلاله بعض ما حرم في التوراة فما بالهم لم يتبعوه بل كذبوه وخالفوه؟ وكذلك ما بعث الله به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين القويم والصراط المستقيم وملة أبيه إبراهيم فما بالهم لا يؤمنون؟ ولهذا قال تعالى { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } أي كان حلا لهم جميع الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرمه إسرائيل ثم قال تعالى { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } فإنها ناطقة بما قلناه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
    +/- -/+  
الأية
94
 
أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائما وإنه لم يبعث نبيا آخر يدعو إلى الله تعالى بالبراهين والحجج بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرنا { فأولئك هم الظالمون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ صَدَقَ اللهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
    +/- -/+  
الأية
95
 
قال تعالى { قل صدق الله } أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم كما قال تعالى { قل إنني هدانى ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين } وقال تعالى { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ
    +/- -/+  
الأية
96
 
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده للذي ببكة } يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ومنهجه ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه ولهذا قال تعالى { مباركا } أي وضع مباركا { وهدى للعالمين } وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال { المسجد الحرام { قلت: ثم أي؟ قال{ المسجد الأقصى } قلت: كم بينهما؟ قال { أربعون سنة { قلت: ثم أي قال { ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد { وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان عن شريك عن مجالد عن الشعبي عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } قال: كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله. وحدثنا أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: ألا تحدثني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت وقد ذكرنا ذلك مستقصى في أول سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا. وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقا والصحيح قول علي رضي الله عنه. فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعا { بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فأمرهما ببناء الكعبة فبناه آدم ثم أمر بالطواف به وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت وضع للناس } فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف والأشبه والله أعلم أن يكون هذا موقوفا على عبدالله بن عمرو ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب. وقوله تعالى { للذي ببكة } بكة من أسماء مكة على المشهور قيل: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها وقيل: لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون. قال قتادة: إن الله بك به الناس جميعا فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها. وكذا روى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعمرو بن شعيب ومقاتل بن حيان. وذكر حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: مكة من الفج إلى التنعيم وبكة من البيت إلى البطحاء. وقال شعبة عن المغيرة عن إبراهيم: بكة البيت والمسجد وكذا قال الزهري. وقال عكرمة في رواية وميمون بن مهران: البيت وما حوله بكة وما وراء ذلك مكة وقال أبو مالك وأبو صالح وإبراهيم النخعي وعطية العوفي ومقاتل بن حيان: بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة. وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة مكة وبكة والبيت العتيق والبيت الحرام والبلد الأمين والمأمون وأم رحم وأم القرى وصلاح والعرش على وزن بدر والقادس لأنها تطهر من الذنوب والمقدسة والناسة بالنون وبالباء أيضا والباسة والحاطمة والرأس وكوثاء والبلدة والبنية والكعبة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
    +/- -/+  
الأية
97
 
قوله تعالى { فيه آيات بينات } أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم وإن الله عظمه وشرفه ثم قال تعالى { مقام إبراهيم } يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف. لأن الله تعالى قد أمرك بالصلاة عنده حيث قال { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة وقال العوفي عن ابن عباس في قوله { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } أي فمنهن مقام إبراهيم والمشاعر وقال مجاهد أثر قدميه في المقام آية بينة وكذا روى عن عمر بن عبدالعزيز والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم.وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة: وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد وعمرو الأودي قالا: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى { مقام إبراهيم } قال: الحرم كله مقام إبراهيم ولفظ عمرو: الحجر كله مقام إبراهيم: وروى عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج مقام إبراهيم هكذا رأيته في النسخة ولعله الحجر كله مقام إبراهيم. وقد صرح بذلك مجاهد وقوله تعالى { ومن دخله كان آمنا } يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو يحيى التميمي عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى { ومن دخله كان آمنا } قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى فإذا خرج أخذ بذنبه. وقال الله تعالى { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم } الآية. وقال تعالى { فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفا. ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة { لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا } وقال يوم فتح مكة { إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها } فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال { إلا الإذخر } ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه ولهما واللفظ لمسلم أيضا عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة:ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به: أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال { إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب { فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة }. رواه مسلم. وعن عبدالله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحروره بسوق مكة يقول { والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت } . رواه الإمام أحمد وهذا لفظه والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي: حسن صحيح وكذا صحح من حديث ابن عباس نحوه. وروى أحمد عن أبي هريرة نحوه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان حدثنا بشر بن عاصم عن زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم حدثني زياد بن أبي عياش عن يحيى بن جعدة بن هبيرة في قوله تعالى { ومن دخله كان آمنا } قال: آمنا من النار وفي معنى هذا القول الحديث الذي رواه البيهقي. أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان حدثنا أحمد بن عبيد حدثنا محمد بن سليمان بن الواسطي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا ابن المؤمل عن ابن محيصن عن عطاء عن عبدالله بن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة وخرج مغفورا له } ثم قال: تفرد به عبد بن المؤمل وليس بالقوي. وقوله { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } هذه آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } والأولى أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال:خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا } فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم } ثم قال { ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه }. ورواه مسلم عن زهير بن حرب عن يزيد بن هارون به نحوه. وقد روى سفيان بن حسين وسليمان بن كثير وعبدالجليل بن حميد ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري عن أبي سنان الدءولي واسمه يزيد بن أمية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج } فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال { لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فهو تطوع } رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث الزهري به ورواه شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس بنحوه. وروى من حديث أسامة بن زيد. وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وردان عن عبدالأعلى بن عبدالأعلى عن أبيه عن البختري عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فسكت قالوا يا رسول الله فى كل عام؟ قال { لا ولو قلت نعم لوجبت } فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } وكذا رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث منصور بن وردان به ثم قال الترمذي: حسن غريب. وفيما قال نظر لأن البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من على وقال ابن ماجه: حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا محمد بن أبي عبيدة عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك قال: قالوا: يا رسول الله الحج في كل عام؟ قال { لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تقوموا بها ولولم تقوموا بها لعذبتم } . وفي الصحيحين من حديث ابن جريج عن عطاء عن جابر عن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ قال { لا بل للأبد { وفي رواية { بل لأبد الأبد } . وفى مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته { هذه ثم ظهور الحصر } يعني ثم الزمن ظهر الحصر ولا تخرجن من البيوت وأما الاستطاعة فأقسام تارة يكون الشخص مستطيعا بنفسه وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الأحكام. قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبدالرحمن بن حميد حدثنا عبدالرزاق أخبرنا إبراهيم بن يزيد قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله؟ قال { الشعث التفل } فقام آخر فقال أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال { العج والثج { فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال { الزاد والراحلة { هكذا رواه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الجوزي قال الترمذي: ولا يرفعه إلا من حديثه وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه كذا قال ههنا وقال في كتاب الحج: هدا حديث حسن لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الجوزي هذا وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث لكن قد تابعه غيره فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله العامري حدثنا محمد بن عبدالله بن عبيد بن عمير الليثي عن محمد بن عباد بن جعفر قال: جلست إلى عبدالله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما السبيل؟ قال { الزاد والراحلة } وهكذا رواه ابن مردويه من رواية محمد بن عبدالله بن عبيد بن عمير به ثم قال ابن أبي حاتم: وقد روى عن ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك وقد روى هذا الحديث من طرق أخرى من حديث أنس وعبدالله بن عباس وابن مسعود وعائشة كلها مرفوعة ولكن في أسانيدها مقال كما هو مقرر في كتاب الأحكام والله أعلم. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث. ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل { من استطاع إليه سبيلا } فقيل ما السبيل؟ قال { الزاد والراحلة } ثم قال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فقالوا: يا رسول الله ما السبيل؟ قال { الزاد والراحلة { ورواه وكيع في تفسيره عن سفيان عن يونس به وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق أنبانا الثوري عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي عن فضيل يعني ابن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له } وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي عن مهران ابن أبي صفوان عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أراد الحج فليتعجل } ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي معاوية الصرير به. وقد روى وكيع وابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى { من استطاع إليه سبيلا } قال: من ملك ثلثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلا. وعن عكرمة مولاه أنه قال: السبيل الصحة وروى وكيع بن الجراح عن أبي جناب يعني الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: { من استطاع إليه سبيلا } قال: قال الزاد والبعير وقوله تعالى { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. وقال سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن عكرمة قال: لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } قالت اليهود: فنحن مسلمون قال الله عز وجل فأخصمهم فحجهم يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله فرض على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا قال الله تعالى { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد نحوه. وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبدالله بن جعفر حدثنا إسماعيل بن عبدالله بن مسعود حدثنا مسلم بن إبراهيم وشاذ بن فياض قالا: حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي رضي الله عنه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من ملك زادا وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهوديا أو نصرانيا وذلك بأن الله قال { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } ورواه ابن جرير من حديث مسلم بن إبراهيم به وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة الرازي حدثنا هلال بن الفياض حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني فذكره بإسناده مثله ورواه الترمذي عن محمد بن علي القطعي عن مسلم بن إبراهيم عن هلال بن عبدالله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي به وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وهلال مجهول والحارث يضعف في هذا الحديث. وقال البخاري: هلال هذا منكر الحديث. وقال ابن عدي: هذا الحديث ليس بمحفوظ. وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث أبي عمرو الأوزاعي حدثني إسماعيل بن عبدالله بن أبي المهاجر حدثني عبدالرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه. وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ
    +/- -/+  
الأية
98
 
هذا تعنيف من الله تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق وكفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله وبما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين والسادة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وما بشروا به ونوهوا به من ذكر النبي الأمي الهاشمي العربي المكي سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء ورسول رب الأرض والسماء وقد توعدهم الله على ذلك وأخبرهم بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ومعاملتهم الرسول المبشر به بالتكذيب والجحود والعناد فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون أي وسيجزيهم على ذلك { يوم لا ينفع مال ولا بنون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ ۗ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
    +/- -/+  
الأية
99
 
هذا تعنيف من الله تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق وكفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله من أراده من أهل الإيمان بجهدهم وطاقتهم مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله وبما عندهم من العلم عن الأنبياء الأقدمين والسادة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وما بشروا به ونوهوا به من ذكر النبي الأمي الهاشمي العربي المكي سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء ورسول رب الأرض والسماء وقد توعدهم الله على ذلك وأخبرهم بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ومعاملتهم الرسول المبشر به بالتكذيب والجحود والعناد فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون أي وسيجزيهم على ذلك { يوم لا ينفع مال ولا بنون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
100
 
يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله وما منحهم من إرسال رسوله كما قال تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم الآية وهكذا قال ههنا { إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
    +/- -/+  
الأية
101
 
قال تعالى وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله يعني أن الكفر بعيد منكم وحاشاكم منه فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلا ونهارا وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم وهذا كقوله تعالى وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين الآية بعدها. وكما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوما } أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا { ؟ قالوا: الملائكة قال { وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم { قالوا: فنحن قال { وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ { قالوا: فأي الناس أعجب إيمانا؟ قال { قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها { وقد ذكرت سند هذا الحديث والكلام عليه في أول شرح البخاري ولله الحمد. ثم قال تعالى { ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } أي ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية والعدة في مباعدة الغواية والوسيلة إلى الرشاد وطريق السداد وحصول المراد.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
    +/- -/+  
الأية
102
 
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن سنان حدثنا عبدالرحمن بن سفيان وشعبة عن زبيد اليامي عن مرة عن عبدالله هو ابن مسعود { اتقوا الله حق تقاته } قال:أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر وهذا إسناد صحيح موقوف وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن عبدالأعلى عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن زبيد عن مرة عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { اتقوا الله حق تقاته } أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى { وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث مسعر عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود مرفوعا فذكره ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال. والأظهر أنه موقوف والله أعلم. وثم قال ابن أبي حاتم: وروى نحوه عن مرة الهمداني والربيع بن خثيم وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي وطاووس والحسن وقتادة وأبي سنان والسدي نحو ذلك. وروي عن أنس أنه قال: لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى { اتقوا الله حق تقاته } قال: لم تنسخ ولكن { حق تقاته } أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وقوله تعالى { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه فعياذا بالله من خلاف ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا شعبة قال: سمعت سليمان عن مجاهد: إن الناس كانوا يطوفون بالبيت وإن ابن عباس جالس معه محجن فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ولو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن ليس له طعام إلا من الزقوم } وكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من طريق عن شعبة به وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه }. وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موت بثلاث { لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل } ورواه مسلم من طريق الأعمش به وقال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا يونس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن الله قال أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن بي خيرا فله فإن ظن بي شرا فله } وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقول الله أنا عند ظن عبدي بي }. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبدالملك القرشي حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت وأحسبه عن أنس قال: كان رجل من الأنصار مريضا فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فوافقه في السوق فسلم عليه فقال له { كيف أنت يا فلان؟ } قال: بخير يا رسول الله أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف } ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان. وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديثه ثم قال الترمذي غريب وكذا رواه بعضهم عن ثابت مرسلا. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أخر إلا قائما ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن شعبة به وترجم عليه فقال: { باب كيف يخر للسجود } ثم ساقه مثله فقيل معناه أن لا أموت إلا مسلما وقيل: معناه أن لا أقتل إلا مقبلا غير مدبر وهو يرجع إلى الأول.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
    +/- -/+  
الأية
103
 
قوله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } قيل { بحبل الله } أي بعهد الله كما قال في الآية بعدها { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس } أي بعهد وذمة وقيل { بحبل من الله } يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعا في صفة القرآن { هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم }. وقد ورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثنا أسباط بن محمد عن عبدالملك بن سليمان العزرمي عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض }. وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن عبدالله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين وهو الشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه } وروى من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك وقال وكيع حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال: قال عبدالله: إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين: يا أبا عبدالله هذا الطريق هلم إلى الطريق فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن. وقوله { ولا تفرقوا } أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة. وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والإئتلاف كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم ثلاثا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال } وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا. وخيف عليهم الافتراق والاختلاف فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقوله تعالى { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } إلى آخر الآية وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلي وعدواة شديدة وضغائن وإحن وذحول طال بسببها قتالهم والوقائع بينهـم فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخوانا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله متعاونين على البر والتقوى قال الله تعالى { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } إلى آخر الآية وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان. وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم في القسمة بما أراه الله فخطبهم فقال { يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهد اكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي؟ } فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ. وقد ذكر محمد بن إسحق بن يسار وغيره:أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج. وذلك أن رجلا من اليهود مر بملإ من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ففعل فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى الحرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول } أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ { وتلا عليهم هذه الآية فندموا على ما كان منهم فاصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم وذكر عكرمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفك والله أعلم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
    +/- -/+  
الأية
104
 
يقول تعالى: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأولئك هم المفلحون قال الضحاك: هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء وقال أبو جعفر الباقر: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } ثم قال { الخير اتباع القرآن وسنتي } رواه ابن مردويه والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } وفي رواية { وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل }. وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان الهاشمي أنبأنا إسماعيل بن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن عبدالله بن عبدالرحمن الأشهلي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم { ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن أبي عمرو به وقال الترمذي: حسن والأحاديث في هذا الباب كثيرة مع الآيات الكريمة كما سيأتي تفسيرها في أماكنها.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
105
 
قال تعالى { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } الآية ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضية في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قيام الحجة عليهم. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثني أزهر بن عبدالله الهروي عن أبي عامر عبدالله بن يحيى قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله } والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى كلاهما عن أبي المغيرة واسمه عبدالقدوس بن الحجاج الشامي به وقد ورد هذا الحديث من طرق.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
    +/- -/+  
الأية
106
 
وقوله تعالى { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة قاله ابن عباس رضي الله عنهما { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } قال الحسن البصري: وهم المنافقون { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } وهذا الوصف يعم كل كافر.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
    +/- -/+  
الأية
107
 
يعني الجنة ماكثون فيها أبدا لا يبغون عنها حولا وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن الربيع بن صبيح وحماد بن سلمة عن أبي غالب قال: رأى أبو أمامة رءوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } إلى آخر الآية قلت: لأبي أمامة أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا ـ حتى عد سبعا - ما حدثتكموه ثم قال هذا حديث حسن وقد رواه ابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب وأخرجه أحمد في مسنده عن عبدالرزاق عن معمر عن أبي غالب بنحوه. وقد روى ابن مردويه عند تفسير هذه الآية عن أبي ذر حديثا مطولا غريبا عجيبا جدا ثم قال تعالى { تلك آيات الله نتلوها عليك }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
تِلْكَ آيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۗ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ
    +/- -/+  
الأية
108
 
قال تعالى { تلك آيات الله نتلوها عليك } أي هذه آيات الله وحججه وبيناته نتلوها عليك يا محمد { بالحق } أي نكشف ما الأمر عليه في الدنيا والآخرة { وما الله يريد ظلما للعالمين } أي ليس بظالم لهم بل هو الحاكم العدل الذي لا يجور لأنه القادر على كل شيء العالم بكل شيء فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
    +/- -/+  
الأية
109
 
ولهذا قال تعالى { ولله ما في السموات وما في الأرض } أي الجميع ملك له وعبيد له وإلى الله ترجع الأمور أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ
    +/- -/+  
الأية
110
 
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف عن سفيان بن ميسرة عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وعطية العوفي وعكرمة وعطاء والربيع بن أنس { كنتم خير أمة أخرجت للناس } يعني خير الناس للناس: والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ولهذا قال { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبدالملك حدثنا شريك عن سماك عن عبدالله بن عميرة عن درة بنت أبي لهب قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال يا رسول الله أي الناس خير؟ قال { خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم { ورواه أحمد في مسنده والنسائي في سننه والحاكم في مستدركه من حديث سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما قال في الآية الأخرى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } أي خيارا { لتكونوا شهداء على الناس } الآية. وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل } وهو حديث مشهور وقد حسنه الترمذي.ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه. وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل. فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه كما قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن حدثنا ابن زهير عن عبدالله يعني ابن محمد بن عقيل عن محمد بن علي وهو ابن الحنفية أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء } فقلنا يا رسول الله ما هو؟ قال { نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم { تفرد به أحمد من هذا الوجه إسناده حسن. وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا أبو العلاء الحسن بن سوار حدثنا ليث عن معاومة بن أبي حبيش عن يزيد بن ميسرة قال: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها يقول { إن الله تعالى يقول يا عيسى إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ولا حلم ولا علم قال: يا رب كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي } وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها ههنا قال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم حدثنا المسعودي حدثنا بكير بن الأخنس عن رجل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله { أعطيت سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر قلوبهم على قلب رجل واحد فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفا { فقال أبو بكر رضي الله عنه: فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافات البوادي. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن بكر السهمي حدثنا هشام بن حسان عن القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد عن ميمون بن مهران عن عبدالرحمن بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إن ربي أعطاني سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب } فقال عمر: يا رسول الله فهلا استزدته فقال استزدته فأعطاني مع كل ألف سبعين ألفا } قال عمر: فهلا استزدته قال { قد استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفا } قال عمر: فهلا استزدته قال { قد استزدته فأعطاني هكذا } وفرج عبدالرحمن ابن أبي بكر بين يديه وقال عبدالله وبسط باعيه وحثا عبدالله وقال هاشم: وهذا من الله لا يدرى ما عدده. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة قال: قال شريح بن عبيدة: مرض ثوبان بحمص وعليها عبدالله بن قرط الأزدي فلم يعده فدخل على ثوبان رجل من الكلاعيين عائدا له فقال له ثوبان:أتكتب؟ قال: نعم قال: اكتب فكتب للأمير عبدالله بن قرط من ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد فإنه لو كان لموسى وعيسى عليهما السلام بحضرتك خادم لعدته ثم طوى الكتاب وقال له: أتبلغه إياه؟ قال نعم فانطلق الرجل بكتابه فدفعه إلى ابن قرط فلما رآه قام فزعا فقال الناس ما شأنه أحدث أمر؟ فأتى ثوبان فدخل عليه فعاده وجلس عنده ساعة ثم قام فأخذ ثوبان بردائه وقال: اجلس حتى أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا } تفرد به أحمد من هذا الوجه وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حمصيون فهو حديث صحيح ولله الحمد والمنة. { طريق أخرى } قال الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن زريق الحمصي حدثنا محمد بن إسماعيل يعني ابن عياش حدثني أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إن ربي عز وجل وعدني من أمتي سبعين ألفا لا يحاسبون مع كل ألف سبعون ألفا } هذا لعله هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي بين شريح وبين ثوبان والله أعلم. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ثم غدونا إليه فقال { عرضت علي الأنبياء الليلة بأممها فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة والنبي ومعه العصابة والنبي ومعه النفر والنبي وليس معه أحد حتى مر على موسى عليه السلام ومعه كبكبة من بني إسرائيل فأعجبوني فقلت من هؤلاء؟ قيل: هذا أخوك موسى ومعه بنو إسرائيل فقلت: فأين أمتي؟ فقيل انظر عن يمينك فنظرت فإذا الضراب قد سد بوجوه الرجال فقيل لي أرضيت: فقلت: رضيت يا رب - قال: فقيل لي إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب } فقال النبي صلى الله عليه وسلم { فداكم أبي وأمي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفا فافعلوا فإن قصرتم فكونوا من أهل الضراب فإن قصرتم فكونوا من أهل الأفق فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون } فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم أي من السبعين فدعا له فقام رجل آخر فقال: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فقال } سبقك بها عكاشة { قال: ثم تحدثنا فقلنا من ترون هؤلاء السبعين الألف قوم ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا حتى ماتوا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال { هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون } هكذا رواه أحمد بهذا السند وهذا السياق ورواه أيضا عن عبدالصمد عن هشام عن قتادة بإسناده مثله وزاد بعد قوله { رضيت يا رب رضيت يا رب: قال رضيت؟ قلت: نعم قال: انظر عن يسارك - قال: فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال فقال: رضيت؟ قلت: رضيت } وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه تفرد به أحمد ولم يخرجوه. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن منيع حدثنا عبدالملك بن عبدالعزيز حدثنا حماد عن عاصم عن زرعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم { عرضت علي الأمم بالموسم فراثت علي أمتي ثم رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم قد ملؤا السهل والجبل فقال أرضيت يا محمد؟ فقلت: نعم قال: فإن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون } فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال { أنت منهم } فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال { سبقك بها عكاشة } رواه الحافظ الضياء المقدسي وقال: هذا عندي على شرط مسلم. { حديث آخر } قال الطبراني: حدثنا محمد بن محمد الجذوعي القاضي حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا محمد بن أبي عدي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب } قيل: من هم؟ قال { هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون } ورواه مسلم من طريق هشام بن حسان وعنده ذكر عكاشة. { حديث آخر } ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر } قال أبو هريرة. فقام عكاشة بن محض الأسدي يرفع نمرة عليه فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { اللهم اجعله منهم } ثم قام رجل من الأنصار فقال مثله فقال { سبقك بها عكاشة }. { حديث آخر } قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو غسان عن أبي حازم عن السهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا -أو سبعمائة ألف - آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر } أخرجه البخاري ومسلم جميعا عن قتيبة عن عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل به. { حديث آخر } قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم أنبأنا حصين بن عبدالرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب انقض البارحة؟ قلت أنا ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال فما صنعت؟ قلت استرقيت قال: فما حملك على ذلك قلت حديث حدثناه الشعبي قال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال { لا رقية إلا من عين أو حمة } قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب { ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى فقال { ما الذي تخوضون فيه ؟ } فأخبروه فقال { هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون } فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال { أنت منهم } ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم قال { سبقك بها عكاشة } وأخرجه البخاري عن أسيد بن زيد عن هشيم وليس عنده: لايسترقون. { حديث آخر } قال أحمد: حدثنا روح بن عبادة حدثنا ابن جرير أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه: { فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر لا يحاسبون ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء } ثم كذلك وذكر بقيته رواه مسلم من حديث روح غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم { حديث آخر } قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد سمعت أبا أمامة الباهلي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي عز وجل } وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد. { طريق أخرى } عن أبي أمامة قال ابن أبي عاصم: حدثنا دحيم حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبي اليمان الهروي واسمه عامر بن عبدالله بن يحيى عن أبي أمامة عن رسول الله صلى قال { إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب { فقال يزيد بن الأخنس: والله ما أولئك في أمّتك يا رسول الله إلا مثل الذباب الأصهب في الذباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإن الله وعدني سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا وزادني ثلاث حثيات } وهذا أيضا إسناد حسن. { حديث آخر } قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن خليد حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية بن سلام عن يزيد بن سلام الله سمع أبا سلام يقول: حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن ربي عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ثم يشفع كل ألف لسبعين ألفا ثم يحثي ربي عز وجل بكفيه ثلاث حثيات } فكبر عمر وقال: إن السبعين الأول يشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشيرتهم وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر.قال الحافظ الضياء أبو عبدالله المقدسي في كتاب صفة الجنة: لا أعلم لهذا الإسناد علة والله أعلم. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام يعني الدستوائي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة حدثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد - أو قال بقديد - فذكر حديثا وفيه ثم قال { وعدني ربي عز وجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة } قال الضياء: وهذا عندي على شرط مسلم. { حديث آخر } قال عبدالرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس قال: قال رسول الله صلى { إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف } قال أبو بكر رضي الله عنه: زدنا يا رسول الله قال { والله هكذا { قال عمر: حسبك يا أبا بكر فقال أبو بكر: دعني وما عليك أن يدخلنا الجنة كلنا. قال عمر: إن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم { صدق عمر } هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبدالرزاق. قال الضياء: وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني قال: حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا أبو هلال عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة ألف } فقال أبو بكر: يا رسول الله زدنا قال { وهكذا } وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك قلت: يا رسول الله زدنا فقال عمر: إن الله قادر على أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { صدق عمر } هذا حديث غريب من هذا الوجه وأبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي بصري. { طريق أخرى } عن أنس قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن بكير حدثنا عبدالقاهر بن السري السلمي حدثنا حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا } قالوا: زدنا يا رسول الله قال { لكل رجل سبعون ألفا } قالوا: زدنا وكان على كثيب فقالوا فقال { هكذا } وحثا بيديه قالوا: يا رسول الله أبعد الله من دخل النار بعد هذا؟ وهذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات ما عدا عبدالقاهر بن السري وقد سئل عنه ابن معين فقال صالح. { حديث آخر } روى الطبراني من حديث قتادة عن أبي بكر بن عمر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن الله وعدني أن يدخل من أمتي ثلثمائة ألف الجنة بغير حساب } فقال عمر: يا رسول الله زدنا فقال: وهكذا بيده فقال عمر يا رسول الله زدنا فقال عمر: حسبك إن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بحفنة أو بحثية واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم { صدق عمر }. { حديث آخر } قال الطبراني: حدثنا أحمد بن خليد حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية بن سلام عن يزيد بن سلام يقول: حدثني عبدالله بن عامر أن قيسا الكندي حدثه أن أبا سعيد الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إن ربي وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ويشفع كل ألف لسبعين ألفا ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه } كذا قال قيس فقلت لأبي سعيد: آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم بأذني ووعاه قلبي قال أبو سعيد قال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم { وذلك إن شاء الله يستوعب مهاجري أمتي ويوفي الله بقيته من أعرابنا } وقد روى هذا الحديث محمد بن سهل بن عسكر عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناده مثله وزاد: قال أبو سعيد: فحسب ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألفا. { حديث آخر } قال أبو القاسم الطبراني حدثنا هشيم بن مرثد الطبراني حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أما والذي نفس محمد بيده ليبعثن منكم يوم القيامة إلى الجنة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض تقول الملائكة لم جاء مع محمد أكثر مما جاء مع الأنبياء } وهذا إسناد حسن. { حديث آخر } من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله عز وجل وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول { إني لأرجو أن يكون من يتبعني من أمتي يوم القيامة ربع أهل الجنة } قال: فكبرنا ثم قال: { أرجو أن يكونوا ثلث الناس } قال: فكبرنا ثم قال { أرجو أن يكونوا الشطر } وهكذا رواه عن روح عن ابن جريج به وهو على شرط مسلم وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى { أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة } فكبرنا ثم قال { أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة } فكبرنا ثم قال { إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة } { طريق أخرى } عن ابن مسعود قال الطبراني: حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور حدثنا عفات بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حصين حدثني القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كيف أنتم وربع الجنة لكم ولسائر الناس ثلاثة أرباعها } قالوا الله ورسوله أعلم قال { كيف أنتم وثلثها } قالوا: ذاك أكثر قال { كيف أنتم والشطر لكم } قالوا ذاك أكثر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أهل الجنة عشرون ومائة صف لكم منها ثمانون صفا } قال الطبراني: تفرد به الحارث بن حصين } حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالصمد حدثنا عبدالعزيز بن مسلم حدثنا ضرار بن مرة أبو سنان الشيباني عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أهل الجنة عشرون ومائة صف: هذه الأمة من ذلك ثمانون صفا } وكذا رواه عن عفان عن عبدالعزيز به وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان به وقال: هذا حديث حسن ورواه ابن ماجه من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه به. { حديث آخر } روى الطبراني من حديث سليمان بن عبدالرحمن الدمشقي حدثنا خالد بن يزيد البجلي حدثنا سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن جده عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال { أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من أمتي { تفرد به خالد بن يزيد البجلي وقد تكلم فيه ابن عدي. { حديث آخر } قال الطبراني حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل حدثنا موسى بن غيلان حدثنا هاشم بن مخلد حدثنا عبدالله بن المبارك عن سفيان عن أبي عمرو عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنتم ربع أهل الجنة أنتم ثلث أهل الجنة أنتم نصف أهل الجنة أنتم ثلثا أهل الجنة }. وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { نحن الآخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه الناس لنا فيه تبع غدا لليهود وللنصارى بعد غد }. رواه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه ورواه مسلم أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة } وذكر تمام الحديث. { حديث آخر } روى الدارقطني في الأفراد من حديث عبدالله بن محمد بن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أَدْخُلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمّتي { ثم قال انفرد به ابن عقيل عن الزهري ولم يرو عنه سواه وتفرّد به زهير بن محمد عن ابن عقيل وتفرد به عمرو بن أبي سلمة عن زهير. وقد رواه أبو أحمد بن عدي الحافظ فقال: حدثنا أحمد بن الحسين بن إسحق حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي غياث حدثنا أبو حفص التنيسي حدثنا صدقة الدمشقي عن زهير بن محمد عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن الزهري. ورواه الثعلبي حدثنا أبو عباس المخلدي أنبأنا أبو نعيم عبدالملك بن محمد أنبأنا أحمد بن عيسى التنيسي حدثنا عمرو بن سلمة حدثنا صدقة بن عبدالله عن زهير بن محمد بن عقيل به. فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى { كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } فمن اتصف من هذه الأمّة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح كما قال قتادة: بلغنا أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس دعة فقرأ هذه الآية { كنتم خير أمّة أخرجت للناس } ثم قال من سره أن يكون من هذه الأمّة فليؤدّ شرط الله فيها رواه ابن جرير. ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمّهم الله بقوله تعالى { كانوا لا يتناهون عن منكر } فعلوه الآية: ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمّة على هذه الصفات شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم فقال تعالى { ولو آمن أهل الكتاب } أي بما أنزل على محمد { لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } أي قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ۖ وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ
    +/- -/+  
الأية
111
 
ثم قال تعالى مخبرا عباده المؤمنين ومبشرا لهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى { لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون } هكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم الله. وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ
    +/- -/+  
الأية
112
 
قال تعالى { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس } أي ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون { إلا بحبل من الله } أي بذمّة من الله وهو عقد الذمة لهم وضرب الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة { وحبل من الناس } أي أمان منهم لهم كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمَّنه واحد من المسلمين ولو امرأة وكذا عبد على أحد قولي العلماء قال ابن عباس { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } أي بعهد من الله وعهد من الناس وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي والربيع بن أنس. وقوله { وباءوا بغضب من الله } أي ألزموا فالتزموا بغضب من الله وهم يستحقونه { وضربت عليهم المسكنة } أي ألزموها قدرا وشرعا. ولهذا قال { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق } أي إنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبدا متصلا بذل الآخرة ثم قال تعالى { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } أي إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله وقيضوا لذلك أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله والغشيان لمعاصي الله والاعتداء في شرع الله فعياذا بالله من ذلك والله عز وجل المستعان. قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن سليمان الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر الأزدي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلثمائة نبي ثم يقوم سوق بقلهم في آخر النهار.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
    +/- -/+  
الأية
113
 
قال ابن أبي نجيح: زعم الحسن بن أبي يزيد العجلي عن ابن مسعود في قوله تعالى { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا قال السدي. ويؤيد هذا القول الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا أبو النضر وحسن بن موسى قالا: حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: { أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم } قال فنزلت هذه الآيات { ليسوا سواء من أهل الكتاب - إلى قوله - والله عليم بالمتقين } والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحق وغيره. ورواه العوفي عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة وغيرهم. أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب وهؤلاء الذين أسلموا ولهذا قال تعالى { ليسوا سواء } أي ليسوا كلهم على حد سواء بل منهم المؤمن ومنهم المجرم ولهذا قال تعالى { من أهل الكتاب أمة قائمة } أي قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه متبعة نبي الله فهي قائمة يعني مستقيمة { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } أي يقيمون الليل ويكثرون التهجد ويتلون القرآن في صلواتهم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ
    +/- -/+  
الأية
114
 
{ يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله الآية.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
    +/- -/+  
الأية
115
 
قال تعالى ههنا { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } أي لا يضيع عند الله بل يجزيهم به أوفر الجزاء { والله عليم بالمتقين } أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۚ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
    +/- -/+  
الأية
116
 
قال تعالى مخبرا عن الكفرة المشركين بأنه { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } أي لا ترد عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار في هذه الدار قاله مجاهد والحسن والسدي.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَٰذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
    +/- -/+  
الأية
117
 
قال تعالى { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيه صر } أي برد شديد قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم. وقال عطاء: برد وجليد وعن ابن عباس أيضا ومجاهد { فيها صر } أي نار وهو يرجع إلى الأول فإن البرد الشديد ولا سيما الجليد يحرق الزروع والثمار كما يحرق الشيء بالنار { أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } أي فأحرقته يعني بذلك السعفة إذا نزلت على حرث قد آن جذاذه أو حصاده فدمرته وأعدمت ما فيه من ثمر أو زرع فذهبت به وأفسدته فعدمه صاحبه أحوج ما كان إليه. فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا وثمرها كما يذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه. وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل وعلى غير أساس { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
    +/- -/+  
الأية
118
 
يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن وبما يستطيعون من المكر والخديعة ويودّون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم وقوله تعالى { لا تتخذوا بطانة من دونكم } أي من غيركم من أهل الأديان وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره وقد روى البخاري والنسائي وغيرهما من حديث جماعة منهم يونس ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وابن أبي عتيق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه والمعصوم من عصمة الله } وقد رواه الأوزاعي ومعاوية بن سلام عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه فيحتمل أنه عند الزهري عن أبي سلمة عنهما وأخرجه النسائي عن الزهري أيضا وعلقه البخاري في صحيحه فقال: وقال عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا فذكره فيحتمل أنه عند أبي سلمة عن ثلاثة من الصحابة والله أعلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان حدثنا عيسى بن يونس عن أبي حيان التيمي عن أبي الزنباع عن ابن أبي الدهقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ولهذا قال تعالى { لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم } وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا إسحاق بن إسرائيل حدثنا هشيم حدثنا العوام عن الأزهر بن راشد قال: كانوا يأتون أنسا فإذا حدثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يعني البصري فيفسره لهم قال: فحدث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا { فلم يدروا ما هو فأتوا الحسن فقالوا له: إن أنسا حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا } فقال الحسن: أما قوله { لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا } محمد صلى الله عليه وسلم وأما قوله { لا تستضيئوا بنار المشركين } يقول لا تستشيروا المشركين في أموركم ثم قال الحسن: تصديق ذلك في كتاب الله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم } هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله تعالى وقد رواه النسائي عن مجاهد بن موسى عن هشيم ورواه الإمام أحمد عن هشيم بإسناده مثله من غير ذكر تفسير الحسن البصري وهذا التفسير فيه نظر ومعناه ظاهر { لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا } أي بخط عربي لئلا يشابه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان نقشه محمد رسول الله ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن ينقش أحد على نقشه وأما الاستضاءة بنار المشركين فمعناه لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم بل تباعدوا منهم وهاجروا من بلادهم ولهذا روى أبو داود { لا تتراءى ناراهما } وفي الحديث الآخر { من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله } فحمل الحديث على ما قاله الحسن رحمه الله والاستشهاد عليه بالآية فيه نظر والله أعلم. ثم قال تعالى { قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر { أي قد لاح على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ما لا يخفي مثله علي لبيب عامل ولهذا قال تعالى { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
    +/- -/+  
الأية
119
 
قوله تعالى { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرون لكم من الإيمان فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم لا باطنا ولا ظاهرا { وتؤمنون بالكتاب كله } أي ليس عندكم في شيء منه شك ولا ريب وهم عندهم الشك والريب والحيرة وقال محمد بن إسحق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { وتؤمنون بالكتاب كله } أي بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم رواه ابن جرير { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } والأنامل أطراف الأصابع قاله قتادة. وقال الشاعر: وما حملت كفاي أناملي العشرا وقال ابن مسعود والسدي والربيع بن أنس: الأنامل الأصابع وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الإيمان والمودة وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه كما قال تعالى { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ وذلك أشد الغيظ والحنق } قال الله تعالى { قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور } أي مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه ومُعْلٍ كلمته ومظهر دينه فموتوا أنتم بغيظكم { إن الله عليم بذات الصدور } أي هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تأملون وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها لا محيد لكم عنها ولا خروج لكم منها.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ۗ إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
    +/- -/+  
الأية
120
 
قال تعالى { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم ساء ذلك المنافقين وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب أو أديل عليهم الأعداء لما لله تعالى في ذلك من الحكمة كما جرى يوم أحد- فرح المنافقون بذلك قال الله تعالى مخاطبا المؤمنين: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } الآية يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم فلا حول ولا قوة لهم إلا به وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ومن توكل عليه كفاه. ثم شرع تعالى في ذكر قصة أحد وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين والتمييز بين المؤمنين والمنافقين وبيان الصابرين فقال تعالى.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ۗ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
121
 
المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغير واحد وعن الحسن البصري المراد بذلك يوم الأحزاب. ورواه ابن جرير وهو غريب لا يعول عليه وكانت وقعة أحد يوم السبت من شوّال سنة ثلاث من الهجرة قال قتادة: لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال وقال عكرمة: يوم السبت للنصف من شوال فالله أعلم. وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان قال أبناء من قتل ورؤساء من بقي لأبي سفيان: ارصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك فجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في نحو من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريبا من أحد تلقاء المدينة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فلما فرغ منها صلى على رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس { أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة{ ؟ فأشار عبدالله بن أبي بالمقام بالمدينة فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وأن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لامته وخرج عليهم وقد ندم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إن شئت أن نمكث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يرجع حتى يحكم الله له } فسار صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه فلما كانوا بالشوط رجع عبدالله بن أبيّ بثلث الجيش مغضبا لكونه لم يرجع إلى قوله وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالا لاتبعناكم ولكنا لا نراكم تقاتلون. واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي: وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال { لا يقاتلنّ أحد حتى نأمره بالقتال } وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه. وأمر على الرماة عبدالله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف. والرماة يومئذ خمسون رجلا فقال لهم { انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين من قبلكم والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أوعلينا وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم } وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين. وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبدالدار. وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغلمان يومئذ وأخر آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين. وتهيأت قريش وهم ثلاثة آلاف. ومعهم مائة فرس قد جنبوها. فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل. ودفعوا اللواء إلى بني عبدالدار ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى. ولهذا قال تعالى { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } أي تنزلهم منازلهم وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم { والله سميع عليم } أي سميع لما تقولون عليم بضمائركم. وقد أورد ابن جرير ههنا سؤالا حاصله كيف تقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة وقد قال الله تعالى { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } الآية. ثم كان جوابه عنه أن غدوه ليبوأهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
    +/- -/+  
الأية
122
 
قوله تعالى { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } الآية. قال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله حدثنا سفيان قال: قال عمر سمعت جابر بن عبدالله يقول: فينا نزلت { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } الآية. قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما نحب - وقال سفيان مرة - وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى { والله وليهما }. وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وكذا قال غير واحد من السلف إنهم بنو حارثة وبنو سلمة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
    +/- -/+  
الأية
123
 
قوله تعالى { ولقد نصركم الله ببدر } أي يوم بدر وكان يوم جمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ودمغ فيه الشرك وخرب محله وحزبه هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ فإنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا فيهم فارسان وسبعون بعيرا والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه. وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله وبيض وجه النبي وقبيله وأخزى الشيطان وجيله ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } أي قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العَدد والعُدد ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا -إلى - غفور رحيم } وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك قال: سمعت عياضا الأشعري قال: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وابن حسنة وخالد بن الوليد وعياض- وليس عياض هذا الذي حدث سماكا - قال: وقال عمر: إذا كان قتالا فعليكم أبو عبيدة قال: فكتبنا إليه أنه قد جأش إلينا الموت واستمددناه فكتب إلينا إنه قد جاءني كتابكم تستمدونني وإني أدلكم على من هو أعز نصرا وأحصن جندا الله عز وجل فاستنصروه فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد نصر في يوم بدر في أقل من عدتكم فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني قال: فقاتلناهم فهزمناهم أربع فراسخ قال: وأصبنا أموالا فتشاورنا فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة قال: وقال أبو عبيدة: من يراهنني؟ فقال شاب أنا إن لم تغضب قال: فسبقه فرأيت عقيصتَيْ أبي عبيدة ينفران وهو خلفه على فرس أعرابي وهذا إسناد صحيح وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث بندار عن غندر بنحوه واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه وبدر محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها منسوبة إلى رجل حفرها يقال له بدر بن النارين قال الشعبي. بدر بئر لرجل يسمى بدرا: وقوله { فاتقوا الله لعلكم تشكرون } أي تقومون بطاعته.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ
    +/- -/+  
الأية
124
 
اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد؟ على قولين { أحدهما } أن قوله { إذ تقول للمؤمنين } متعلق بقوله { ولقد نصركم الله ببدر } وهذا عن الحسن البصري وعامر الشعبي والربيع بن أنس وغيرهم واختاره ابن جرير قال عباد بن منصور عن الحسن في قوله { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة } قال: هذا يوم بدر رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا داود عن عامر يعني الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين - إلى قوله - مسومين } قال: فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين ولم يمد اللّه المسلمين بالخمسة. وقال الربيع بن أنس:أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف فإن قيل فما الجمع بين هذه الآية على هذا القول وبين قوله في قصة بدر { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين - إلى قوله - إن الله عزيز حكيم{ ؟ فالجواب أن التنصيص على الألف ههنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله { مردفين } بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم. وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر والله أعلم. وقال سعيد بن أبي عروبة أمد اللّه المسلمين يوم بدر بخمسة آلاف { القول الثاني } أن هذا الوعد متعلق بقوله { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } وذلك يوم أحد وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم. لكن قالوا لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف لأن المسلمين فروا يومئذ زاد عكرمة ولا بالثلاثة الآلاف لقوله تعالى { إن تصبروا وتتقوا } فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا بملك واحد.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
بَلَىٰ ۚ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
    +/- -/+  
الأية
125
 
قوله تعالى { بلى إن تصبروا وتتقوا } يعني تصبروا على مصابرة عدوكم وتتقوني وتطيعوا أمري. وقوله تعالى { ويأتوكم من فورهم هذا } قال الحسن وقتادة والربيع والسدي: أي من وجههم هذا. وقال مجاهد وعكرمة وأبو صالح أي من غضبهم هذا. وقال الضحاك: من غضبهم ووجههم. وقال العوفي عن ابن عباس: من سفرهم هذا ويقال من غضبهم هذا. وقوله تعالى { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } أي معلمين بالسيما. وقال أبو إسحق السبيعي عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض وكان سيماهم أيضا في نواصي خيولهم رواه ابن أبي حاتم. ثم قال حدثنا أبو زرعة حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه في هذه الآية { مسومين } قال: بالعهن الأحمر وقال مجاهد: { مسومين } أي محذفة أعرافها معلمة نواصيها بالصوف الأبيض في أذناب الخيل وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتت الملائكة محمدا صلى الله عليه وسلم مسوّمين بالصوف فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف وقال قتادة وعكرمة { مسومين } أي بسيما القتال. وقال مكحول: مسومين بالعمائم. وروى ابن مردويه من حديث عبدالقدوس بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله { مسوّمين } قال { معلمين } وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم حمر. وروي من حديث حسين بن مخارق عن سعيد عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر وقال ابن إسحق حدثني من لا أتهم عن مقسم عن ابن عباس قال: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمر. ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر وكانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون ثم رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس فذكر نحوه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا الأحمسي حدثنا وكيع حدثنا هشام بن عروة عن يحيي بن عباد: أن الزبير رضي الله عنه كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر رواه ابن مردويه من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن الزبير فذكره.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
    +/- -/+  
الأية
126
 
قوله تعالى { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به } أي وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال { ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل اللّه فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم { ولهذا قال ههنا { وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } أي هو ذو العزة التي لا ترام والحكمة في قدره والإحكام.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ
    +/- -/+  
الأية
127
 
قال تعالى { ليقطع طرفا من الذين كفروا } أي أمركم بالجهاد والجلاء لماله في ذلك من الحكمة في كل تقدير ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين فقال { ليقطع طرفا } أي ليهلك أمة { من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا } أي يرجعوا { خائبين } أي لم يحصلوا على ما أملوا. ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
    +/- -/+  
الأية
128
 
قال تعالى { ليس لك من الأمر شيء } أي بل الأمر كله إلي كما قال تعالى { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } وقال ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } وقال { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } وقال محمد بن إسحق في قوله { ليس لك من الأمر شيء } أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. ثم ذكر بقية الأقسام فقال { أو يتوب عليهم } أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم بعد الضلالة { أو يعذبهم } أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم ولهذا قال { فإنهم ظالمون } أي يستحقون ذلك. وقال البخاري حدثنا حبان بن موسى أنبأنا عبدالله أنبأنا معمر عن الزهري حدثني سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر { اللهم العن فلانا وفلانا { بعد ما يقول { سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد } فأنزل الله تعالى { ليس لك من الأمر شيء } الآية. وهكذا رواه النسائي من حديث عبدالله بن المبارك وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو عقيل - قال أحمد: وهو عبد الله بن عقيل صالح الحديث ثقة - حدثنا عمر بن حمزة عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { اللهم العن فلانا وفلانا اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية } فنزلت هذه الآية { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } فتيب عليهم كلهم. وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية العلائي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو على أربعة قال: فأنزل الله ليس لك من الأمر شيء إلى آخر الآية قال: وهداهم الله للإسلام قال البخاري: قال محمد بن عجلان عن نافع عن ابن رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم حتى أنزل الله تعالى { ليس لك من الأمر شيء } الآية. وقال البخاري أيضا: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع وربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف } يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر { اللهم العن فلانا وفلانا } لأحياء من أحياء العرب حتى أنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } الآية. وقال البخاري: قال حميد وثابت عن أنس بن مالك: شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال { كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ } فنزلت { ليس لك من الأمر شيء } وقد أسند هذا الحديث الذي علقه البخاري في صحيحه فقال في غزوة أحد: حدثنا يحيى بن عبدالله السلمي أخبرك عبدالله أخبرك معمر عن الزهري حدثني سالم بن عبدالله عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر { اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا } بعد ما يقول { سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد } فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } الآية. وعن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } هكذا ذكر هذه الزيادة البخاري معلقة مرسلة وقد تقدمت مسندة متصلة في مسند أحمد آنفا. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم حدثنا حميد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رَبَاعِيَتُه يوم أحد وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال { كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل } فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } انفرد به مسلم فرواه عن القعنبي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فذكره. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا الحسين بن واقد عن مطر عن قتادة قال: أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رَبَاعِيَتُه وفرق حاجبه فوقع وعليه درعان والدم يسيل فمر به سالم مولى أبي حذيفة فأجلسه ومسح عن وجهه فأفاق وهو يقول { كيف بقوم فعلوا هذا نبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟ } فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } الآية وكذا رواه عبدالرزاق عن معمر عن قتادة بنحوه ولم يقل فأفاق.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
129
 
قال تعالى { ولله ما في السموات وما في الأرض } الآية. أي الجميع ملك له وأهلهما عبيد بين يديه { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون والله غفور رحيم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
    +/- -/+  
الأية
130
 
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل أجل الدين إما أن تَقضي وإما أن تُربي فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخر في القدر وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى وفي الآخرة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
131
 
ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها فقال تعالى { واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
    +/- -/+  
 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
    +/- -/+  
الأية
133
 
ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات فقال تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } أي كما أعدت النار للكافرين وقد قيل إن معنى قوله عرضها السموات والأرض تنبيها على اتساع طولها كـما قال في صفة فرش الجنة { بطائنها من إستبرق } أي فما ظنك بالظهائر وقيل بل عرضها كطولها لأنها قبة فيه تحت العرش والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح { إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن } وهذه الآية كقوله في سورة الحديد { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } الآية. وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم { سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار }. وقد رواه ابن جرير فقال حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني مسلم بن خالد عن أبي خيثمة عن سعيد بن أبي راشد عن يعلى بن مرة قال لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخا كبيرا قد فسد فقال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل فتناول الصحيفة رجل عن يساره قال: قلت من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار }. وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل وإذا جاء الليل أين النهار فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة رواه ابن جرير من ثلاثة طرق. ثم قال: حدثنا أحمد بن حازم حدثنا أبو نعيم حدثنا جعفر بن برقان أنبأنا يزيد بن الأصم: أن رجلا من أهل الكتاب قال: يقولون جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه أين يكون الليل إذا جاء النهار وأين يكون النهار إذا جاء الليل. وقد روى هذا مرفوعا فقال البزار حدثنا محمد بن معمر حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام حدثنا عبدالواحد بن زياد عن عبيد الله بن عبدالله بن الأصم عن عمه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قوله تعالى { جنة عرضها السموات والأرض } فأين النار؟ قال { أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء فأين النهار{ ؟ قال: حيث شاء الله قال { وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل }. وهذا يحتمل معنيين { أحدهما } أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان وإن كنا لا نعلمه: وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة عن البزار { الثاني } أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب فإن الليل يكون من الجانب الآخر فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش وعرضها كما قال الله عز وجل { كعرض السموات والأرض } والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار والله أعلم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
134
 
ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال { الذين ينفقون في السراء والضراء } أي في الشدة والرخاء والمنشط والمكره والصحة والمرض. وفي جميع الأحوال كما قال { الذين ينفقون بالليل والنهار سرا وعلانية } والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر وقوله تعالى { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم: وقد ورد في بعض الآثار } يقول الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك } رواه ابن أبي حاتم. وقد قال أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الزمن حدثنا عيسى بن شعيب الضرير أبو الفضل حدثني الربيع بن سليمان النميري عن أبي عمرو بن أنس بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من كف غضبه كف الله عنه عذابه ومن خزن لسانه ستر الله عورته ومن اعتذر إلي قبل الله عذره }. وهذا حديث غريب وفي إسناده نظر. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرحمن حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال { ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } وقد رواه الشيخان من حديث مالك. وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبدالله وهو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله{ ؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال { اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله مالَك من مالِك إلا ما قدمت وما لوارثك إلا ما أخرت }. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما تعدون الصرعة فيكم؟ } قلنا الذي لا تصرعه الرجال قال { لا ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب } قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أتدرون ما الرقوب؟ } قلنا الذي لا ولد له قال { لا ولكن الرقوب الذي لا يقدم من ولده شيئا }. أخرج البخاري الفضل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش به { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت عروة بن عبدالله الجعفي يحدث عن أبي حصبة أو ابن أبي حصين عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال { أتدرون ما الرقوب؟ } قلنا الذي لا ولد له قال { الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئا } قال { أتدرون من الصعلوك{ ؟ قالوا الذي ليس له مال فقال النبي صلى الله عليه وسلم { الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئا } قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم { ما الصرعة{ ؟ قالوا: الصريع الذي لا تصرعه الرجال فقال صلى الله عليه وسلم { الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه } { حديث آخر }. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا هشام هو ابن عروة عن أبيه عن الأحنف بن قيس عن عم له يقال له حارثة بن قدامة السعدي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قل لي قولا ينفعني وأقلل عليَّ لعلّي أعيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لا تغضب } فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا كل ذلك يقول { لا تغضب } وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام به ورواه أيضا عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام به: أن رجلا قال يا رسول الله قل لي قولا وأقلل عليّ لعلي أعقله فقال { لا تغضب }. الحديث انفرد به أحمد { حديث آخر }. قال أحمد حدثنا عبدالرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل يا رسول الله أوصني قال { لا تغضب } قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله انفرد به أحمد { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن أبي حرب ابن أبي الأسود عن أبي الأسود عن أبي ذر صلى الله عليه وسلم قال: كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على أبي ذر ويحسب شعرات من رأسه؟ فقال رجل: أنا فجاء فأورد على الحوض فدقه وكان أبو ذر قائما فجلس ثم اضطجع فقيل له يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا { إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع }. ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده إلا أنه وقع في روايته عن أبي حرب عن أبي ذر والصحيح ابن أبي حرب عن أبيه عن أبي ذر كما رواه عبدالله بن أحمد عن أبيه { حديث آخر } قال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا أبو وائل الصنعاني قال: كنا جلوسا عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه فلما أن أغضبه قام ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي - وقد كانت له صحبة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وانما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ }. وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنعاني عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني قال أبو داود: أراه عبدالله بن بحير { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن يزيد حدثنا نوح بن معاوية السلمي عن مقاتل بن حيان عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ثلاثا ألا إن عمل النار سهل بسهوة. والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبدالله إلا ملأ الله جوفه إيمانا }. انفرد به أحمد وإسناده حسن ليس فيه مجروح ومتنه حسن { حديث آخره في معناه } قال أبو داود حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا عبدالرحمن يعني ابن مهدي عن بشر يعني ابن منصور عن محمد بن عجلان عن سويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله جوفه أمنا وإيمانا ومن ترك لبس ثوب جمال وهو قادر عليه - قال بشر: أحسبه قال تواضعا - كساه الله حلة الكرامة ومن توج لله كساه الله تاج الملك }. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن يزيد قال حدثنا سعيد حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى قال { من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء. ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن أبي أيوب به وقال الترمذي: حسن غريب { حديث آخر } قال عبدالرزاق أنبأنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن رجل من أهل الشام يقال له عبدالجليل عن عم له عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى { والكاظمين الغيظ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله جوفه أمنا وإيمانا } { حديث آخر } قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد أنبأنا يحيي ابن طالب أنبأنا علي بن عاصم أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله }. رواه ابن جرير وكذا رواه ابن ماجه عن بشر بن عمر عن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد به فقوله تعالى { والكاظمين الغيظ } أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل ثم قال تعالى { والعافين عن الناس } أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقي في أنفسهم موجدة على أحد وهذا أكمل الأحوال ولهذا قال { والله يحب المحسنين }. فهذا من مقامات الإحسان وفي الحديث { ثلاث أقسم عليهن ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ومن تواضع لله رفعه الله }. روى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة عن إسحق بن يحيي بن أبي طلحة القرشي عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه }. ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك وروي من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ
    +/- -/+  
الأية
135
 
قوله تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار قال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا همام بن يحيى عن إسحق بن عبدالله بن أبي طلحة عن عبدالرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن رجلا أذنب ذنبا فقال: رب إني أذنبت ذنبا فاغفره لى فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره فقال تبارك وتعالى علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره لي فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء }. أخرجاه في الصحيحين من حديث إسحق بن أبي طلحة بنحوه { حديث آخر } قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا حدثنا زهير حدثنا سعد الطائي حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين سمع أبا هريرة قلنا يا رسول الله: إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد فقال: { لو أنتم تكونون على كل حال على الحال التي كنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم. ولزارتكم في بيوتكم ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم } قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال { لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم لا ييأس ويخلد لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول له الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين }. ورواه الترمذي وابن ماجه من وجه آخر من حديث سعد به. ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة لما رواه الإمام أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا مسعر وسفيان الثوري عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدثني عنه غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ ويحسن الوضوء- قال مسعر- فيصلي - وقال سفيان ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له }. وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والبزار والدارقطني من طرق عن عثمان بن المغيرة به وقال الترمذي: هو حديث حسن وقد ذكرنا طرفه والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ومما يشهد بصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء } وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول { من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه } فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين عن سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين وقد قال عبدالرزاق أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } الآية بكى وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا محرز بن عون حدثنا عثمان بن مطر حدثنا عبدالغفور عن أبي نضرة عن أبي رجاء عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون } عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان وروى الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهما ما استغفروني } وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عمر بن خليفة سمعت أبا بدر يحدث عن ثابت عن أنس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أذنبت ذنبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أذنبت فاستغفر ربك قال فإني أستغفر ثم أعود فأذنب قال فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك فقالها في الرابعة وقال استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور } وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقوله تعالى { ومن يغفر الذنوب إلا الله } أي لا يغفرها أحد سواه كما قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن مصعب حدثنا سلام ابن مسكين والمبارك عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأسير فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم { عرف الحق لأهله } وقوله { ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها ولو تكرر منهم الذنب تابوا منه كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا: حدثنا أبو يحيي عبدالحميد الحماني عن عثمان بن واقد عن أبي نضرة عن مولى لأبي بكر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة } ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى بن معين به - وشيخه أبو نصر المقاسطي واسمه سالم بن عبيد وثقه الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ويكفيه نسبته إلى أبي بكر فهو حديث حسن والله أعلم. وقوله { وهم يعلمون } قال مجاهد وعبدالله بن عبيد بن عمير وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه وهذا كقوله تعالى { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } وكقوله { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } ونظائر هذا كثيرة جدا. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أنبأنا جرير حدثنا حبان هو ابن زيد الشرعبي عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر { ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون }. تفرد به أحمد.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
    +/- -/+  
الأية
136
 
ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم } أي جزاؤهم على هذه الصفات { مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار } أي من أنواع المشروبات { خالدين فيها } أي ماكثين فيها { ونعم أجر العاملين } يمدح تعالى الجنة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
    +/- -/+  
الأية
137
 
يقول تعالى مخاطبا عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون { قد خلت من قبلكم سنن } أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين ولهذا قال تعالى { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
    +/- -/+  
الأية
138
 
قال تعالى { هذا بيان للناس } يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم { وهدى وموعظة } يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم وهدى لقلوبكم وموعظة أي زاجر عن المحارم والمآثم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
139
 
قال تعالى مسليا للمؤمنين { ولا تهنوا } أي لا تضعفوا بسبب ما جرى { ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
    +/- -/+  
الأية
140
 
أي إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح { وتلك الأيام نداولها بين الناس } أي نديل عليكم الأعداء تارة وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة ولهذا قال تعالى { وليعلم الله الذين آمنوا } قال ابن عباس: في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء { ويتخذ منكم شهداء } يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
141
 
أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به. وقوله { ويمحق الكافرين } أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
142
 
ثم قال تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد.كما قال تعالى في سورة البقرة { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا } الآية. وقال تعالى { الم.أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } الآية. ولهذا قال ههنا { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقاومة الأعداء.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
    +/- -/+  
الأية
143
 
أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتحترقون عليه وتودون مناجزتهم ومصابرتهم فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه فدونكم فقاتلوا وصابروا. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف }. ولهذا قال تعالى { فقد رأيتموه } يعني الموت شاهدتموه وقت حد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرجال للقتال والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخيل وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
144
 
لما انهزم ما انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم نادى الشيطان: ألا إن محمدا قد قتل ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدا وإنما كان قد ضرب رسول الله فشجه في رأسه فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله تعالى { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه. قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم فنزل { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل }. رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } أي رجعتم القهقرى { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله حيا وميتا. وكذلك ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها. وقال الزهري: وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس وقال: اجلس يا عمر قال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - إلى قوله - وسيجزي الله الشاكرين } قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها. وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقت حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا علي بن عبدالعزيز حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس أن عليا كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
145
 
قوله تعالى { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا } أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له ولهذا قال { كتابا مؤجلا } كقوله { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } وكقوله { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده { وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتم حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن ظبيان قال: قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة - { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا } ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدو قالوا: ديوان فهربوا. وقوله { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } أي من كان عمله للدنيا فقد ناله منها ما قدره الله له ولم يكن له في الآخرة من نصيب ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها وما قسم له في الدنيا كما قال تعالى { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة نصيب } وقال تعالى { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } ولهذا قال ههنا { وسنجزي الشاكرين } أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
146
 
قال تعالى مسليا للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير } قيل: معناه كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير وهذا القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال: وأما الذين قرءوا { قتل معه ربيون كثير } فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل قال: ومن قرأ } قاتل } فإنه اختار ذلك لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله { فما وهنوا } وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا ثم اختار قراءة من قرأ { قتل معه ربيون كثير } لأن الله عاتب بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدا قد قتل فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال فقال لهم { أفإن مات أو قتل } أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و { انقلبتم على أعقابكم } وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير. وكلام ابن إسحق في السيرة يقتضي قولا آخر فإنه قال وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم وذلك الصبر { والله يحب الصابرين } فجعل قوله { معه ربيون كثير } حالا وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه وله اتجاه لقوله { فما وهنوا لما أصابهم } الآية وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره وقرأ بعضهم { قاتل معه ربيون كثير } أي ألوف وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة وقال عبدالرزاق عن معمر عن الحسن { ربيون كثير } أي علماء كثير وعنه أيضا: علماء صبر أي أبرار أتقياء. وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل قال ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل الربيون بفتح الراء وقال ابن زيد: الربيون الأتباع والرعية والربانيون الولاة { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } قال قتادة والربيع بن أنس: { وما ضعفوا } بقتل نبيهم { وما استكانوا } يقول: فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله وقال ابن عباس { وما استكانوا } تخشعوا وقال ابن زيد: وما ذلوا لعدوهم وقال محمد بن إسحق والسدي وقتادة: أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
147
 
أي لم يكن لهم هِجِّيرٌ إلا ذلك ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
148
 
أي النصر والظفر والعاقبة { وحسن ثواب الآخرة } أي جمع لهم ذلك مع هذا { والله يحب المحسنين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
149
 
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة ولهذا قال تعالى { إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين } ثم أمرهم بطاعته وموالاته والاستعانة به والتوكل عليه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
بَلِ اللهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
    +/- -/+  
الأية
150
 
قال تعالى { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين } ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ
    +/- -/+  
الأية
151
 
قال { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين } وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لى الغنائم وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة }. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن سيار عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { فضلني الله على الأنبياء - أو قال على الأمم - بأربع أرسلت إلى الناس كافة وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ونصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي وأحلت لي الغنائم } ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي عن سيار القرشي الأموي مولاهم الدمشقي سكن البصرة عن أبي أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه به وقال: حسن صحيح وقال سعيد بن منصور: أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { نصرت بالرعب على العدو }. ورواه مسلم من حديث ابن وهب: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أعطيت خمسا بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئا } تفرد به أحمد. وروى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } قال: قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا. وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب } رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } قال ابن عباس: وعدهم الله النصر وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله تعالى { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين } أن ذلك كان يوم أحد لأن عدوهم كان ثلاثه آلاف مقاتل فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام فلما حصل ما حصل من عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ۗ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
152
 
قال { ولقد صدقكم اللّه وعده } أي أول النهار { إذ تحسونهم } أي تقتلونهم { بإذنه } أي بتسليطه إياكم عليهم { حتى إذا فشلتم } وقال ابن جريج قال ابن عباس الفشل الجبن { وتنازعتم في الأمر وعصيتم } كما وقع للرماة { من بعد ما أراكم ما تحبون } وهو الظفر بهم { منكم من يريد الدنيا } وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة { ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم { ولقد عفا عنكم } أي غفر لكم ذلك الصنيع وذلك والله أعلم لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم قال ابن جريج: قوله { ولقد عفا عنكم } قال: لم يستأصلكم وكذا قال محمد بن إسحق رواهما ابن جرير { والله ذو فضل على المؤمنين } قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبدالرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله عن ابن عباس أنه قال: ما نصر الله النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصره يوم أحد فأنكرنا ذلك! فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله إن الله يقول في يوم أحد { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } يقول ابن عباس والحسن الفشل { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } الآية. وإنما عنى بهذا الرماة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع وقال: { احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا } فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأناخوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعا في العسكر ينهبون ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم هكذا - وشبك بين يديه - وانتشبوا فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة وجال المشركون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار إنما كانوا تحت المهراس وصاح الشيطان قتل محمد فلم يشكوا به أنه حق فلا زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين نعرفه بكتفيه إذا مشى قال: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا قال: فرقي نحونا وهو يقول { اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله } ويقول مرة أخري { ليس لهم أن يعلونا } حتى انتهى إلينا فمكث ساعة فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: أعل هبل - مرتين يعني إلهه -أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب؟ فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ألا أجيبه قال { بلى } فلما قال: أعل هبل قال عمر: الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان: قد أنعمت قال: عنها فقال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وهذا أنا عمر قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر الأيام دول وإن الحرب سجال قال: فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار قال: إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا وخسرنا إذن. فقال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلا ولم يكن ذلك على رأي سراتنا قال: ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه هذا حديث غريب وسياق عجيب وهو من مرسلات ابن عباس فإنه لم يشهد أحدا ولا أبوه وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النضر الفقيه عن عثمان بن سعيد عن سليمان بن داود بن علي بن عبدالله بن عباس به وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة من حديث سليمان بن داود الهاشمي به ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها - فقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن مسعود قال: إن النساء كنّ يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر إنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل الله { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم فلما أرهقوه قال { رحم الله رجلا ردهم عنا } قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل فلما أرهقوه أيضا قال { رحم الله رجلا ردهم عنا } فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه { ما أنصفنا أصحابنا } فجاء أبو سفيان فقال أعل هُبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قولوا الله أعلى وأجل } فقالوا: الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قولوا: الله مولانا والكافرون لا مولى لهم } فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُساءُ ويوم نُسَرّ حنظلة بحنظلة وفلان بفلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا سواء أما قتلانا فأحياء يرزقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون } فقال أبو سفيان: لقد كان في القوم مثلة وإن كانت لعن غير ملامنا ما أمرت ولا نهيت ولا أحببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرني قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { أكلت شيئا{ ؟ قالوا: لا قال { ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار } قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة تفرد به أحمد أيضا. وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبدالله بن جبير وقال { لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا }. فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن وقد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة فقال عبدالله بن جبير: عهد إلي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلا فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال { لا تجيبوه } فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: { لا تجيبوه } فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال له: كذبت يا عدو الله أبقى الله لك ما يحزنك قال أبو سفيان: أعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم { أجيبوه } قالوا: ما نقول؟ قال { قولوا } الله أعلى وأجل } قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم { أجيبوه } قالوا: ما نقول؟ قال { قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم } قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني تفرد به البخاري من هذا الوجه ثم رواه عن عمرو بن خالد عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه: وسيأتي بأبسط من هذا - وقال البخاري أيضا: حدثنا عبدالله بن سعيد حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركين فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم فرجعت أولاهم فاجتلدت هى وأخراهم فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أى عباد الله أبي أبي قال: قالت فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه فقال حذيفة: يغفر الله لكم قال عروة: فوالله ما زلت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله عز وجل. وقال محمد بن إسحاق حدثني يحيي بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن جده أن الزبير بن العوام قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل فأوتينا من أدبارنا وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم. قال محمد بن إسحاق: فلم يزل لواء المشركين صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فدفعته لقريش فلاثوا بها وقال السدي عن عبد خير عن علي بن عبدالله بن مسعود قال: ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا حثى نزل فينا ما نزل يوم أحد { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود وكذا روي عن عبدالرحمن بن عوف وأبي طلحة رواه ابن مردويه في تفسيره وقوله تعالى { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } قال ابن إسحق: حدثني القاسم بن عبدالرحمن بن رافع أحد بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدة في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما يخليكم؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه - وقال البخاري: حدثنا حسان بن حسان حدثنا محمد بن طلحة حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن عمه يعني أنس بن النضر غاب عن بدر فقال: غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى ليرين الله ما أجد فلقي يوم أحد فهزم الناس فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء- يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به المشركون فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته بشاما أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم هذا لفظ البخاري وأخرجه مسلم من حديث ثابت بن أنس بنحوه. وقال البخاري أيضا: حدثنا عبدان حدثنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر فأتاه فقال إني سائلك عن شيء فحدثني قال: سل قال: أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها قال: نعم قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها قال: نعم فكبر فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه: وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه } وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى { هذه يد عثمان } فضرب بها على يده فقال { هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك } ثم رواه البخاري من وجه آخر عن أبي عوانة عن عثمان بن عبدالله بن موهب.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
    +/- -/+  
الأية
153
 
قوله تعالى { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد } أي صرفكم عنهم إذ تصعدون أي في الجبل هاربين من أعدائكم وقرأ الحسن وقتادة { إذ تصعدون } أي في الجبل { ولا تلوون على أحد } أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب { والرسول يدعوكم في أخراكم } أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى الرجعة والعودة والكرة: قال السدي لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس { إلي عباد الله إلي عباد الله } فذكر الله صعودهم إلى الجبل ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم } وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد. قال عبدالله بن الزبعرى: قد يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها. يا غراب البين أسمعت فقـ إنما تنطق شيئا قد فعــــل إن للخير وللشر مــــــدى وكلا ذلك وجه وقبـــــــل إلى أن قال: ليت أشياخي ببدر يشهـدوا جزع الخزرج من وقع الأســل حين حلت بقباء بركـــــه واستحر القتل في عبد الأشل ثم خفوا عند ذاكم رقصــا رقص الحفان يعلو في الجبـل فقتلنا الضعف من أشرافهم وعدلنا ميل بدر فاعتــــدل الحقان صغار النعم. كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلا من أصحابه كما قال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا أبو إسحق عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا- عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعا وقال { إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم } قال فهزموهم قال: فلقد والله رأيت النساء يشتدون على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبدالله: الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فأصابوا منا سبعين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين سبعين أسيرا وسبعين قتيلا قال أبو سفيان: أفي القوم محمد أفي القوم محمد أفي القوم محمد؟ ثلاثًا - قال: فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد أبقى الله لك ما يسوؤك فقال: يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز يقول أعل هبل أعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألا تجيبوه } قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال { قولوا الله أعلى وأجل } قال: لنا العزى ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألا تجيبوه؟ { قالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال { قولوا الله مولانا ولا مولى لكم } وقد رواه البخاري من حديث زهير بن معاوية مختصرا ورواه من حديث إسرائيل عن أبي إسحق بأبسط من هذا كما تقدم والله أعلم - وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غزية عن أبي الزبير عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل فلحقهم المشركون فقال } ألا أحد لهؤلاء } فقال طلحة: أنا يا رسول الله فقال { كما أنت يا طلحة } فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله فقاتل عنه وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه ثم قتل الأنصاري فلحقوه فقال { ألا رجل لهؤلاء } فقال طلحة مثل قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل قوله فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله فقاتل عنه وأصحابه يصعدون ثم قتل فلحقوه فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول طلحة فأنا يا رسول الله فيحبسه فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذن له فيقاتل مثل من كان قبله حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من لهؤلاء؟ } فقال طلحة: أنا فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله فقال:حس فقال رسول الله { لو قلت بسم الله أوذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء } ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون. وقد روى البخاري عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال:رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يعني يوم أحد. وفي الصحيحين من حديث معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا طلحة بن عبدالله وسعد عن حديثهما. وقال الحسن بن عرفة حدثنا مروان بن معاوية عن هشام بن هشام الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: نثل لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كنانته يوم أحد وقال { ارم فداك أبي وأمي } وأخرجه البخاري عن عبدالله بن محمد عن مروان بن معاوية وقال محمد بن إسحق حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد عن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال سعد: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يناولني النبل ويقول { ارم فداك أبي وأمي } حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به- وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده } يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام - وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار واثنين من قريش } فلما أرهقوه قال { من يردهم عنا وله الجنة - أو هو رفيقي في الجنة } فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل } ثم أرهقوه أيضا فقال { من يردهم عنا وله الجنة } فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل: فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه { ما أنصفنا أصحابنا }. رواه مسلم عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة به نحوه. وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال: كان أبيّ بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال { بل أنا أقتله إن شاء الله }. فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعا وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { بل أنا أقتل أبيا } ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون فمات إلى النار { فسحقا لأصحاب السعير } وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب بنحوه _ وذكر محمد بن إسحق قال: لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجوت فقال القوم: يا رسول الله يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { دعوه } فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فقال بعض القوم كما ذكر لي فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انفض ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأد منها عن فرسه مرارا - وذكر الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحق عن عاصم بن عمرو بن قتادة عن عبدالله بن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك: وقال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل فإذا أنا بنار تتأجج لي فهبتها وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش وإذا رجل يقول لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبي بن خلف - وثبت في الصحيحين من رواية عبدالرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حينئذ يشير إلى رباعيته - وأشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله } وأخرجه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس: قال اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في سبيل الله واشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال ابن إسحق: أصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وجنته وكلمت شفته وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. فحدثني صالح بن كيسان عن من حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال: ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص وإن كان ما علمته لسيء الخلق مبغضا في قومه ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم } - وقال عبدالرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن عثمان الحريري عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته وأدمى وجهه فقال { اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا } فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار- وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة عن إسحق بن عبدالله بن أبي فروة عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطها كل ذلك يصرف عنه: ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يومئذ يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته أحلف بالله أنه منا ممنوع خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى لك. قال الواقدي: والذي ثبت عندنا أن الذي أدمى وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قميئة والذي دمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص: وقال أبو داود الطيالسي حدثنا ابن المبارك عن إسحق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة: ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه وأراه قال: حمية فقلت: كن طلحة حيث فاتني ما فاتني فقلت يكون رجلا من قومي أحب إلي وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وهو يخطف المشي خطفا لا أعرفه فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { عليكما صاحبكما } يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله قال: وذهبت لأنزع ذلك من وجهه فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتما فأصحلنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار فإذا به بضع وسبعون أو أقل أوأكثر من طعنة ورمية وضربة وإذا قد قطعت أصبعه فأصلحنا من شأنه ورواه الهيثم بن كليب والطبراني من حديث إسحق بن يحيى به. وعند الهيثم قال أبو عبيدة أنشدك الله يا أبا بكر إلا تركتني؟ فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبي عبيدة وذكر تمامه واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه وقد ضعف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم - وقال ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن مالكا أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مص الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له مجه فقال لا والله لا أمجه أبدا ثم أدبر يقاتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم { من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا } فاستشهد. وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم فكانت فاطمة تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك الدم وقوله تعالى { فأثابكم غما بغم } أي فجزاكم غما على غم كما تقول العرب نزلت ببني فلان ونزلت على بني فلان. وقال ابن جرير: وكذا قوله { ولأصلبنكم في جذوع النخل } أي على جذوع النخل قال ابن عباس: الغم الأول بسبب الهزيمة وحين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل وقال النبي صلى الله عليه وسلم { اللهم ليس لهم أن يعلونا }. وعن عبدالرحمن بن عوف: الغم الأول بسبب الهزيمة والثاني حين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة رواهما ابن مردويه. وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك وذكر ابن أبي حاتم عن قتادة نحو ذلك أيضا وقال السدي: الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح والثاني بإشراف العدو عليهم. وقال محمد بن إسحق { فأثابكم غما بغم } أي كربا بعد كرب قتل من قتل من إخوانكم وعلوا عدوّكم عليكم وما وقع في أنفسكم من قول: قتل نبيكم فكان ذلك متتابعا عليكم غما بغم وقال مجاهد وقتادة: الغم الأول سماعهم قتل محمد والثاني ما أصابهم من القتل والجراح وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه. وعن السدي: الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والثاني إشراف العدو عليهم وقد تقدم هذا القول عن السدي. قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال { فأثابكم غما بغم } فأثابكم بغمكم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم أمر ربكم وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم ظنكم أن نبيكم قد قتل وميل العدو عليكم ونبوكم منهم: وقوله تعالى { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم { ولا ما أصابكم من الجراح والقتل قاله ابن عباس وعبدالرحمن بن عوف والحسن وقتادة والسدي { والله خبير بما تعملون } سبحانه وبحمده لا إله إلا هو جل وعلا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِنْكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
    +/- -/+  
الأية
154
 
يقول تعالى ممتنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } الآية. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو نعيم ووكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين عن عبدالله بن مسعود قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان وقال البخاري وقال لي خليفة حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة من أنس عن أبي طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه. هكذا رواه في المغازي معلقا ورواه في كتاب التفسير مسندا عن شيبان عن قتادة عن أنس عن أبي طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس لفظ الترمذي وقال حسن صحيح ورواه النسائي أيضا عن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث عن قتيبة عن ابن أبي عدي كلاهما عن حميد عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس الحديث وهكذا رواه عن الزبير وعبدالرحمن بن عوف وقال البيهقي حدثنا أبو عبدالله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحق الثقفي حدثنا محمد بن عبدالله بن المبارك المخزومي حدثنا يونس بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة حدثنا أنس بن مالك أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه قال والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } أي إنما هم أهل شك وريب في الله عز وجل هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه الله وهو كما قال الله فإن الله عز وجل يقول { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله ولهذا قال { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } كما قال في الآية الأخرى { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا } إلى آخر الآية وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإسلام قد باد وأهله وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة ثم أخبر تعالى عنهم أنهم { يقولون } في تلك الحال { هل لنا من الأمر من شيء } فقال تعالى { قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحق فحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن عبدالله بن الزبير قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره قال فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } لقول معتب رواه ابن أبي حاتم قال الله تعالى { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } أي هذا قدر قدره الله عز وجل وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه وقوله { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال { والله عليم بذات الصدور } أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
155
 
قال تعالى { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } أي ببعض ذنوبهم السالفة كما قال بعض السلف إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها ثم قال تعالى { ولقد عفا الله عنهم } أي عما كان منهم من الفرار { إن الله غفور حليم } أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد وأن الله عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله { ولقد عفا عنكم } ومناسب ذكره ههنا قال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن عاصم عن شقيق قال لقي عبدالرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد مالي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له عبدالرحمن أبلغه أني لم أفر يوم حنين قال عاصم يقول يوم أحد ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر قال فانطلق فأخبر بذلك عثمان قال: فقال عثمان أما قوله إني لم أفر يوم حنين فكيف يعيرنى بذلك ولقد عفا الله عنه فقال تعالى { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم } وأما قوله إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد وأما قوله إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو فأته فحدثه بذلك.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۗ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
156
 
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } أي عن إخوانهم { إذا ضربوا في الأرض } أي سافروا للتجارة ونحوها { أو كانوا غزى } أي كانوا في الغزو { لو كانوا عندنا } أي في البلد { ما ماتوا وما قتلوا } أي ما ماتوا في السفر وما قتلوا في الغزو وقوله تعالى { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم ثم قال تعالى ردا عليهم { والله يحيي ويميت } أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره { والله بما تعملون بصير } أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه لا يخفى عليه من أمورهم شيء.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
    +/- -/+  
الأية
157
 
قوله تعالى { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون } تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضا وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه وذلك خير من البقاء في الدنيا وجميع حطامها الفاني.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ
    +/- -/+  
الأية
158
 
ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله عز وجل فيجزيه بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر فقال تعالى { ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
    +/- -/+  
الأية
159
 
يقول تعالى مخاطبا رسوله ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره وأطاب لهم لفظه { فبما رحمة من الله لنت لهم } أي بأي شيء جعلك الله لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم. وقال قتادة { فبما رحمة من الله لنت لهم } يقول: فبرحمة من الله لنت لهم وما صلة والعرب تصلها بالمعرفة كقوله { فبما نقضهم ميثاقهم } وبالنكرة كقوله { عما قليل } وهكذا ههنا قال { فبما رحمة من الله لنت لهم } أي برحمة من الله. وقال الحسن البصري: هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } وقال الإمام أحمد حدثنا حيوة حدثنا بقية حدثنا محمد بن زياد حدثني أبو راشد الحراني قال: أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: { يا أبا أمامة إن من المؤمنين من يلين له قلبي }. تفرد به أحمد ثم قال تعالى { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } والفظ الغليظ المراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك { غليظ القلب } أي لو كنت سيء الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ولكن الله جمعهم عليك وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم كما قال عبدالله بن عمرو إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح. وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي أنبأنا بشر بن عبيد حدثنا عمار بن عبدالرحمن عن المسعودي عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض } حديث غريب. ولهذا قال تعالى { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر }. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييبا لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا: يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن نقول اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون. وشاورهم أيضا أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم. وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم. وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك. وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين؟ فقال له الصديق: إنا لم نجيء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال: وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك { أشيروا عليَّ معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليه إلا خيرا } واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها وقد اختلف الفقهاء هل كان واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ على قولين وقد روى الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر حدثنا سعيد بن أبي مريم أنبأنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله تعالى { وشاورهم في الأمر } قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر وكانا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبوي المسلمين. وقد روى الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا عبدالحميد عن شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر { لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما }. وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم؟ فقال { مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم }. وقد وقال ابن ماجه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن بكير عن سفيان عن عبدالملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { المستشار مؤتمن }. ورواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي من حديث عبدالملك بأبسط من هذا. ثم قال ابن ماجه حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر عن شريك عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { المستشار مؤتمن } تفرد به. وقال أيضا حدثنا أبو بكر حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه } تفرد به أيضا وقوله تعالى { فإذا عزمت فتوكل على الله } أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه { إن الله يحب المتوكلين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
    +/- -/+  
الأية
160
 
قوله تعالى { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وهذه الآية كما تقدم من قوله { وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم } ثم أمرهم بالتوكل عليه فقال { وعلى الله فليتوكل المؤمنون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ۚ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
    +/- -/+  
الأية
161
 
قوله تعالى { وما كان لنبي أن يغل } قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا أبو إسحق الفزاري عن سفيان بن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله { وما كان لنبي أن يغل } أي يخون. وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب حدثنا عبدالواحد بن زياد حدثنا خصيف حدثنا مقسم حدثني ابن عباس أن هذه الآية { وما كان لنبي أن يغل } نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها فأكثروا في ذلك فأنزل الله { وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وكذا رواه أبو داود والترمذي جميعا عن قتيبة عن عبدالواحد بن زياد به وقال الترمذي حسن غريب ورواه بعضهم عن خصيف عن مقسم يعني مرسلا ورواه ابن مردويه من طريق أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال: اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فُقد فأنزل الله تعالى { وما كان لنبي أن يغل } وروي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك. وقال العوفي عن ابن عباس { وما كان لنبي أن يغل } أي بأن يقسم لبعض السرايا ويترك بعضا وكذا قال الضحاك. وقال محمد بن إسحق { وما كان لنبي أن يغل } بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغ أمته وقرأ الحسن البصري وطاووس ومجاهد والضحاك { وما كان لنبي أن يغل } بضم الياء أي يخان. وقال قتادة والربيع بن أنس: نزلت هذه الآية يوم بدر وقد غل بعض أصحابه ورواه ابن جرير عنهما ثم حكى بعضهم أنه فسر هذه القراءة بمعنى يتهم بالخيانة ثم قال تعالى { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضا في أحاديث متعددة. قال الإمام أحمد حدثنا عبدالملك حدثنا زهير يعني ابن محمد عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن عطاء بن يسار عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض تجدون الرجلين جارين في الأرض - أو في الدار- فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا فإذا قطعه طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة } { حديث آخر } قال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن نمير حدثنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة والحارث بن يزيد عن عبدالرحمن بن جبير قال سمعت المستورد بن شدّاد يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا أو ليست له زوجة فليتزوج أو ليس له خادم فليتخذ خادما أو ليس له دابة فليتخذ دابة ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال }. هكذا رواه الإمام أحمد وقد رواه أبو داود بسند آخر وسياق آخر فقال: حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا المعافي حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد عن جبير بن نفير عن المستورد بن شدّاد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا } قال: قال أبو بكر أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من اتخذ غير ذلك فهو غال -أو سارق }. قال شيخنا الحافظ المزي رحمه الله: رواه أبو جعفر محمد الفريابي عن موسى بن مروان فقال: عن عبدالرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير وهو أشبه بالصواب. { حديث آخر } قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا حفص بن بشر حدثنا يعقوب القمي حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى لله عليه وسلم { لأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رغاء يقول: يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قسما من أدم ينادي يا محمد يا محمد فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك }. لم يروه أحد من أهل الكتب الستة. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري سمع عروة يقول: حدثنا أبو حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال { ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي: أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إذ كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر } ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه: ثم قال { اللهم هل بلغت } ثلاثا وزاد هشام بن عروة فقال أبو حميد: بصرته بعيني وسمعته أذني واسألوا زيد بن ثابت أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة وعند البخاري واسألوا زيد بن ثابت وغير وجه عن الزهري ومن طرق عن هشام بن عروة كلاهما عن عروة به. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { هدايا العمال غلول } وهذا الحديث من أفراد أحمد وهو ضعيف الإسناد وكأنه مختصر من الذي قبله والله أعلم { حديث آخر } قال أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة عن داود بن يزيد الأودي عن المغيرة بن شبل عن قيس بن أبي حازم عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال { أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } لهذا دعوتك فامض لعملك } هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي الباب عن عدي بن عميرة وبريدة والمستورد بن شداد وأبي حميد وابن عمر { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي عن أبي زرعة عن ابن عمر وابن جرير عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال { لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك } أخرجاه من حديث أبي حيان به { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد حدثني قيس عن عدي بن عميرة الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملا فكتمنا منه مخيطا فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة } قال: فقام رجل من الأنصار أسود- قال مجاهد: هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه - فقال يا رسول الله اقبل مني عملك قال { وما ذاك؟ } قال سمعتك تقول كذا وكذا قال وأنا أقول ذاك الآن من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذه وما نهى عنه انتهى } وكذا رواه مسلم وأبو داود من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد به { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن أبي إسحق الفزاري عن ابن جريج حدثني منبوذ رجل من آل أبي رافع عن الفضل بن عبدالله بن أبي رافع عن أبي رافع قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبدالأشهل فيتحدّث معهم حتى ينحدر إلى المغرب قال أبو رافع: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا إلى المغرب إذ مرّ بالبقيع فقال { أف لك أف لك } فلزق في درعي وتأخرت وظننت أنه يريدني فقال { مالك؟ } قلت أحدثت حدثا يا رسول الله! قال { وما ذاك{ ؟ قال: إنك قلت لي قال: لا ولكن هذا قبر فلان بعثته ساعيا على آل فلان فغل نمرة فدرع الآن مثلها من نار } { حديث آخر } قال عبدالله بن الإمام أحمد: حدثنا عبدالله بن سالم الكوفي المفلوج - وكان ثقة - حدثنا عبيد بن الأسود عن القاسم بن الوليد عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجية عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من ظهر البعير من المغنم ثم يقول { مالي فيه إلا مثل ما لأحدكم إياكم والغلول فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة أدّوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر فإن الجهاد باب من أبواب الجنة إنه لينجي الله به من الهم والغم وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم } وقد روى ابن ماجه بعضه عن المفلوج به. { حديث آخر } عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ردّوا الخياط والمخيط فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم القيامة } { حديث آخر } قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن مطرف عن أبي الجهم عن أبي مسعود الأنصاري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا ثم قال انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته } قال: إذا لا أنطلق قال { إذا لا أكرهك } تفرد به أبو داود. { حديث آخر } قال أبو بكر بن مردويه: أنبأنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أنبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أنبأنا عبدالحميد بن صالح أنبأنا أحمد بن أبان عن علقمة عن مرثد عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن الحجر يرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا ما يبلغ قعرها ويؤتى بالغلول فيقذف معه ثم يقال لمن غل به: ائت به فذلك قوله { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة بن عمار حدثني سماك الحنفي أبو زميل حدثني عبدالله بن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد حتى أتوا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كلا إني رأيته في النار في بردة غلها - أو عباءة } ثم قال رسول الله صلى الله عيه وسلم { اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون } قال: فخرجت فناديت إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وكذا رواه مسلم والترمذي من حديث عكرمة بن عمار به وقال الترمذي: حسن صحيح { حديث آخر عن عمر رضي الله عنه } قال ابن جرير. حدثني أحمد بن عبدالرحمن بن وهب حدثني عبدالله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن موسى بن جبير حدثه أن عبدالله بن عبدالرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه أن عبدالله بن أنيس حدثه أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوما الصدقة فقال: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة { من غل منها بعيرا أو شاة فإنه يحمله يوم القيامة{ ؟ قال عبدالله بن أنيس: بلى ورواه ابن ماجه عن عمرو بن سوار عن عبدالله بن وهب به { حديث آخر } قال ابن جرير: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي حدثنا أبي حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدقا فقال { يا سعد إياك أن تجيء يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء } قال: لا آخده ولا أجيء به فأعفاه. ثم رواه من طريق عبيد الله عن نافع به نحوه { حديث آخر } قال أحمد: حدثنا أبو سعيد حدثنا عبدالعزيز بن محمد حدثنا صالح بن محمد بن زائدة عن سالم بن عبدالله أنه كان مع مسلمة بن عبدالملك في أرض الروم فوجد في متاع رجل غلولا قال: فسأل سالم بن عبدالله فقال حدثني أبي عبدالله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من وجدتم في متاعه غلولا فأحرقوه - قال. وأحسبه قال واضربه } قال. فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفا فسأل سالما؟ فقال: بعه وتصدق بثمنه. وكذا رواه علي بن المديني وأبو داود والترمذي من حديث عبدالعزيز بن محمد الدراوردي زاد أبو داود وأبو إسحق الفزاري كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة به. وقال علي بن المديني والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا وقال الدارقطني: الصحيح أنه من فتوى سالم فقط وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل ومن تابعه من أصحابه وقد رواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحق عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه: ثم روى عن معاوية عن أبي إسحق عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي قال: الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد المملوك ويحرم نصيبه وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال بل يعزر تعزير مثله: وقد قال البخاري وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال ولم يحرق متاعه والله أعلم - وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحق من جبير بن مالك قال: أمر بالمصاحف أن تغير قال: فقال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغله فإنه من غل شيئا جاء به يوم القيامة. ثم قال: قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين مرة أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم - وروى وكيع في تفسير عن شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم قال لما أمر بتحريق المصاحف قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: أيها الناس غلوا المصاحف فإنه من غل يأت بما غل يوم القيامة ونعم الغل المصحف يأتي أحكم يوم القيامة - وقال أبو داود: عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوز بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا كان مما أصبناه من الغنيمة فقال { أسمعت بلالا ينادي } ثلاثا قال: نعم قال { فما منعك أن تجيء } فاعتذر إليه فقال { كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
    +/- -/+  
الأية
162
 
قوله تعالى { أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } أي لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه وأجير من وبيل عقابه ومن استحق غضب الله وألزم به فلا محيد له عنه ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن كقوله تعالى { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } وقوله { أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } الآية.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ ۗ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
    +/- -/+  
الأية
163
 
ال تعالى { هم درجات عند الله } قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: يعني أهل الخير وأهل الشر درجات وقال أبو عبيدة والكسائي: منازل يعني متفاوتون في منازلهم درجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار كقوله تعالى { ولكل درجات مما علموا } الآية ولهذا قال تعالى { والله بصير بما يعملون } أي وسيوفيهم إياها لا يظلمهم خيرا ولا يزيدهم شرا بل يجازي كل عامل بعمله.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
    +/- -/+  
الأية
164
 
قوله تعالى { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به كما قال تعالى { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها } أي من جنسكم وقال تعالى { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } الآية وقال تعالى { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } وقال تعالى { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى } وقال تعالى { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسل إليهم منهم بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه. ولهذا قال تعالى { يتلو عليهم آياته } يعني القرآن { ويزكيهم } أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم { ويعلمهم الكتاب والحكمة } يعني القرآن والسنة { وإن كانوا من قبل } أي من قبل هذا الرسول { لفي ضلال مبين } أي لفي غي وجهل ظاهر جلي بين لكل أحد.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
165
 
يقول تعالى { أولما أصابتكم مصيبة } وهي ما أصيب منهم يوم أحد من قتلى السبعين منهم { قد أصبتم مثليها } يعني بوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلا وأسروا سبعين أسيرا { قلتم أنى هذا } أي من أين جرى علينا هذا { قل هو من عند أنفسكم } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا قراد بن نوح حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } بأخذكم الفداء وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن غزوان وهو قراد بن نوح بإسناده ولكن بأطول منه وهكذا قال الحسن البصري وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون ح قال سنيد وهو حسين وحدثني حجاج عن جريج عن محمد عن عبيدة عن علي قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك فى أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا ألا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس في ذلك ما نكره؟ قال فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر وهكذا رواه النسائي والترمذي من حديث أبي داود الحفري عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن سفيان بن سعيد عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين به ثم قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. وروى أبو أسامة عن هشام نحوه. وروى عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وقال محمد بن إسحق وابن جرير والربيع بن أنس والسدي { قل هو من عند أنفسكم } أي بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم يعني بذلك الرماة { إن الله على كل شي قدير } أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
166
 
قال تعالى { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } أي فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين كان بقضاء الله وقدره وله الحكمة فى ذلك { وليعلم المؤمنين } أي الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
    +/- -/+  
الأية
167
 
{ وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } يعني بذلك أصحاب عبدالله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في أثناء الطريق فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الإتيان والقتال والمساعدة ولهذا قال { أو ادفعوا } قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو صالح والحسن والسدي: يعني كثروا سواد المسلمين وقال الحسن بن صالح ادفعوا بالدعاء وقال غيره رابطوا فتعللوا { قائلين لو نعلم قتالا لاتبعناكم } قال مجاهد يعنون لو نعلم أنكم تلقون حربا لجئناكم ولكن لا تلقون قتالا. قال محمد بن إسحق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبدالرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا كلهم قد حدث قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة انحاز عنه عبدالله بن أبي ابن سلول بثلث الناس فقال: أطاعهم فخرج وعصاني ووالله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر وفي حال أقرب إلى الإيمان لقوله { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } ثم قال تعالى { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } يعني أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته ومنه قولهم هذا { لو نعلم قتالا لاتبعناكم فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسب ما أصيب من أشرافهم يوم بدر وهم أضعاف المسلمين أنه كائن بينهم قتالا لا محالة ولهذا قال تعالى { والله أعلم بما يكتمون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ۗ قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
    +/- -/+  
الأية
168
 
قال تعالى { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } أي لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل قال الله تعالى { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أي إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون والموت لابد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبدالله: نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي ابن سلول وأصحابه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
    +/- -/+  
الأية
169
 
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار. قال محمد بن جرير: حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة حدثنا إسحق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل بئر معونه قال: لا أدري أربعين أو سبعين وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غارا مشرفا على الماء فقعدوا فيه ثم قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء فقال - أراه أبو ملحان الأنصاري ـ أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج حتى أتى حول بيتهم فاجتثى أمام البيوت ثم قال يا أهل بئر معونة إني رسول الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجميعن عامر بن الطفيل وقال ابن إسحق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زمانا وأنزل الله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } وقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبدالله بن مرة عن مسروق قال: إنا سألنا عبدالله عن هذه الآية. { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم إطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا } وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد { حديث آخر } قال الإمام أحمد حدثنا عبدالصمد حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة } تفرد به مسلم من طريق حماد. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبدالله المديني حدثنا سفيان بن محمد بن علي بن ربيعة السلمي عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم { أعلمت أن الله أحيا أباك فقال له: تمن فقال له أردّ الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون } تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر وهو عبدالله بن عمر وبن حرام الأنصاري رضي الله عنه قتل يوم أحد شهيدا. قال البخاري: وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر سمعت جابرا قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم { لا تبكه- أو ما تبكيه - ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع } وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي وذكر تمامة بنحوه { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن أبي إسحق حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد عن أبي الزبير المكي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هذه الآيات { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } وما بعدها }. وهكذا رواه أحمد ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحق به. ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبدالله بن إدريس عن محمد بن إسحق به ورواه أبو داود والحاكم عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحق الفزاري عن سفيان بن إسماعيل بن أبي خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وكذا قال قتادة والربيع والضحاك أنها نزلت في قتلى أحد. { حديث آخر } قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبدالله بن جعفر حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبدالله المديني أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري سمعت طلحة بن خراش بن عبدالرحمن بن خراش بن الصمت الأنصاري قال: سمعت جابر بن عبدالله قال: نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال { يا جابر مالي أراك مهتما؟ } قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك دينا وعيالا قال: فقال { ألا أخبرك ما كلم الله أحد قط إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا } قال علي: والكفاح المواجهة { قال سلني أعطك قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عز وجل إنه قد سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون قال أي رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } الآية. ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري عن أبيه عن جابر به نحوه وكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق علي بن المديني به وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري وهو عيسى بن عبدالله إن شاء الله عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر { يا جابر ألا أبشرك } قال: بلى بشرك الله بالخير قال { شعرت بأن الله أحيا أباك فقال تمن علي عبدي ما شت أعطكه قال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى قال إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع }. { حديث آخر } قال الإمام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحق حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فيه قبة خضراء يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية } تفرد به أحمد وقد رواه ابن جريج عن أبي كريب حدثنا عبدالرحمن بن سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحق وبه وهو إسناد جيد وكأن الشهداء أقسام منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح والله أعلم - وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه } قوله { يعلق } أي يأكل وفي هذا الحديث { إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة } وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
    +/- -/+  
الأية
170
 
قوله تعالى { فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } إلى آخر الآية أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم نسأل الله الجنة وقال محمد بن إسحق { ويستبشرون } أي ويسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم قال السدي يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم قال سعيد بن جبير: لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة وأخبرهم أي ربهم أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشروا بذلك فذلك قوله { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } الآية وقد ثبت في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع { أن بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
171
 
قال تعالى { يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } قال محمد بن إسحق: استبشروا أي سروا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب. وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآيات جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم وقلما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم الله إياه إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
172
 
قوله تعالى { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح }. هذا كان يوم حمراء الأسد وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لاتمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلدا ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبدالله رضي الله عنه لما سنذكره فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيد حدثنا سفيان بن عينة عن عمرو عن عكرمة قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم: بئس ما صنعتم ارجعوا فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد - أو بئر أبي عيينة - الشك من سفيان - فقال المشركون: نرجع من قابل فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تعد غزوة فأنزل الله تعالى { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم }. وروى ابن مردويه من حديث محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس فذكره- وقال محمد بن إسحق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام فقال يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. قال محمد بن إسحق: فحدثني عبدالله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبدالأشهل كان قد شهد أحدا قال: شهدنا أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخى فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو وفلت لأخي -أو قال لي -: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جراحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وقال البخاري: حدثنا محمد بن سلام حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها { الذين استجابوا لله والرسول } الآية. قلت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال { من يرجع في أثرهم } فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير هكذا رواه البخاري منفردا به بهذا السياق وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصم عن أبي العباس الدوري عن أبي النضر عن أبى سعيد المؤدب عن هشام بن عروة به: ثم قال صحيح الإسناد ولم يخرجاه كذا قال: ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار وهدبة بن عبدالوهاب عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان به وقد رواه الحاكم أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن التيمي عن عروة وقال: قالت لي عائشة إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه- وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبدالله بن جعفر من أصل كتابه أنبأنا سمويه أنبانا عبدالله بن الزبير أنبأنا سفيان أنبأنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنهما قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أبو بكر والزبير } ورفع هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة رضي الله عنها كما قدمناه ومن جهة معناه فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة وإنما قالت ذلك عائشة لعروة بن الزبير لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم - وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعدما كان منه ما كان فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم { إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا وقد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب } وكانت وقعة أحد في شوال وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة وإنهم قدموا بعد وقعة أحد وكان أصاب المؤمنين القرح واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتد عليهم الذي أصابهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين وقال { إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل } فجاء الشيطان يخوف أولياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه وقال { إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد لأحضض الناس } فانتدب معه الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبدالرحمن بن عوف وعبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان فطلبوه حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله تعالى { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } الآية. ثم قال ابن إسحق فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة وقد مر به كما حدثني عبدالله بن أبي بكر معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ كان مشركا فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا أصبنا محمدا وأصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟ لنكرن على بقيتهم ثم لنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فهم من الحنق عليكم بشيء لم أر مثله قط قال: ويلك ما تقوله؟ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال فإني أنهاك عن ذلك ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر قال وما قلت؟ قال قلت: كادت تهد من الأصوات راحلتـي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل تردى بأسد كرام لا تنابـــلة عند اللقاء ولا ميل معازيــــل فظلت أعدو أظن الأرض مائلـــة لما سموا برئيس غير مخــــذول فقلت ويل ابن حرب من لقائكــم إذا تغطمت البطحاء بالخيــــل إني نذير لأهل السيل ضاحيـــة لكل ذي إربة منهم ومعقــــــول من جيش أحمد لا وخش تنابلـــة وليس يوصف ما أنذرت بالقيــــل قال فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ومر به ركب من عبدالقيس فقال أين تريدون؟ قالوا نريد المدينة قال ولم؟ قالوا نريد الميرة؟ قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا نعم قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنه قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقالوا { حسبنا الله ونعم الوكيل } وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو أصبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب } وقال الحسن البصري في قوله { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب فمن ينتدب فى طلبه فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعوهم فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال ردوا محمدا ولكم من الجعل كذا وكذا وأخبروهم أني قد جمعت جموعا وأني راجع إليهم فجاء التجار فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم { حسبنا الله ونعم الوكيل { فأنزل الله هذه الآية وهكذا قال عكرمة وقتادة وغير واحد إن هذا السياق نزل في شأن غزوة حمراء الأسد وقيل نزلت في بدر الموعد والصحيح الأول.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
    +/- -/+  
الأية
173
 
{ قوله تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا } الآية أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } وقال البخاري حدثنا أحمد بن يونس قال أراه قال حدثنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس { حسبنا الله ونعم الوكيل } قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد رواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبدالله كلاهما عن يحيى بن أبي بكر عن أبي بكر وهو ابن عياش به والعجب أن الحاكم أبا عبدالله رواه من حديث أحمد بن يونس به ثم قال صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ثم رواه البخاري عن أبي غسان مالك بن إسماعيل عن إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس قال كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار { حسبنا الله ونعم الوكيل } وقال عبدالرزاق قال ابن عيينة وأخبرني زكريا عن الشعبي عن عبدالله بن عمرو وقال هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار. رواه ابن جرير وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن معمر حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري حدثنا عبدالرحيم بن محمد بن زياد السكري أنبأنا أبو بكر بن عياش عن حميد الطويل عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم أحد إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فأنزل الله هذه الآية وروى أيضا بسنده عن محمد بن عبدالله الرافعي عن أبيه عن جده أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال إن القوم قد جمعوا لكم فقالوا { حسبنا الله ونعم الوكيل } فنزلت فيهم هذه الآية ثم قال ابن مردويه حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا الحسن بن سفيان أنبأنا أبو خيثمة بن مصعب بن سعد أنبأنا موسى بن أعين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا { حسبنا الله ونعم الوكيل } هذا حديث غريب من هذا الوجه وقد قال الإمام أحمد حدثنا حيوة بن شريح وإبراهيم بن أبي العباس قالا حدثنا بقية حدثنا يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن سيف عن عوف بن مالك أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم { ردوا على الرجل فقال: ما قلت؟ } قال: قلت حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل } وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن يحيى بن خالد عن سيف وهو الشامي ولم ينسب عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال الإمام أحمد حدثنا أسباط حدثنا مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر فينفخ } فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نقول؟ قال { قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا }. وقد روي هذا من غير وجه وهو حديث جيد وقد روينا عن أم المؤمنين زينب وعاثشة رضي الله عنهما أنهما تفاخرتا فقالت زينب زوجني الله وزوجكن أهاليكن وقالت عائشة نزلت براءتي من السماء في القرآن فسلمت لها زينب ثم قالت كيف قلت حين ركبت راحلة صفوان بن المعطل قالت: قلت حسبي الله ونعم الوكيل قالت زينب قلت كلمة المؤمنين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ ۗ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
    +/- -/+  
الأية
174
 
قال تعالى { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم { بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } مما أضمر لهم عدوهم { واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } وقال البيهقي حدثنا أبو عبدالله الحافظ حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد حدثنا محمد بن نعيم حدثنا بشر بن الحكم حدثنا مبشر بن عبدالله بن رزين حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل } قال النعمة أنهم سلموا والفضل أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } قال هذا أبو سفيان قال لمحمد صلى الله عليه وسلم موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا فقال محمد صلى الله عليه وسلم { عسى } فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرا فوافقوا السوق فيها فابتاعوا فذلك قول الله عز وجل { فانقلبوا بنعمة الله وفضل لم يمسسهم سوء } الآية. قال وهي غزوة بدر الصغرى رواه ابن جرير وروى أيضا عن القاسم عن الحسين عن حجاج عن ابن جريج قال: لما عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك يريدون أن يرعبوهم فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم الوكيل حتى قدموا بدرا فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد قال فقدم رجل من المشركين فأخبر أهل مكة بخيل محمد وقال في ذلك. نفرت قلوصي من خيول محمــــد وعجوة منثورة كالعنجــــــد واتخذت ماء قديد موعدي قال ابن جرير هكذا أنشدنا القاسم وهو خطأ إنما هو: قد نفرت من رفقتي محمــــــد وعجوة من يثرب كالعنجـــــد فهي على دين أبيهـا الأتلــد قد جعلت ماء قديد موعـد وماء ضجنان لها ضحى الغد .

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
    +/- -/+  
الأية
175
 
قال تعالى { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة قال الله تعالى { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي وألجاءوا إلي فإني كافيكم وناصركم عليهم كما قال تعالى { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه } إلى قوله { قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى { فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا } وقال تعالى { أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } وقال { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } وقال { ولينصرن الله من ينصره } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } الآية. وقال تعالى { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ۚ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا ۗ يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
176
 
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق فقال تعالى ولا يحزنك ذلك { إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة } أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة { ولهم عذاب عظيم }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
177
 
قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررا { إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي استبدلوا هذا بهذا { لن يضروا الله شيئا } أي ولكن يضرون أنفسهم { ولهم عذاب أليم }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
    +/- -/+  
الأية
178
 
قال تعالى { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } كقوله { أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون } وكقوله { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وكقوله { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
179
 
قال تعالى { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } أي لابد أن يعقد شيء من المحنة يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين فذكر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهتك به ستار المنافقين فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } قال مجاهد: ميز بينهم يوم أحد وقال قتادة: ميز بينهم بالجهاد والهجرة وقال السدي: قالوا إن كان محمد صادقا فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر به فأنزل الله تعالى { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } أي حتى يخرج المؤمن من الكافر روى ذلك كله ابن جرير- ثم قال تعالى { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك. ثم قال تعالى { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } كقوله تعالى { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } ثم قال تعالى { فآمنوا بالله ورسله } أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم { وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
180
 
قوله تعالى { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم } أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه وربما كان في دنياه. ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } قال البخاري: حدثنا عبدالله بن منير سمع أبا النضر حدثنا عبدالرحمن هو ابن عبدالله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول: أنا مالك أنا كنزك } ثم تلا هذه الآية { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم } إلى آخر الآية. تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح به. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ثم يلزمه يطوقه يقول: أنا مالك أنا كنزك } وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة به ثم قال النسائي: ورواية عبدالعزيز عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر أثبت من رواية عبدالرحمن عن أبيه عن عبدالله بن دينار عن أبي صالح عن أبى هريرة { قلت } ولا منافاة بين الروايتين فقد يكون عند عبدالله بن دينار من الوجهين والله أعلم وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه عن أبي صالح عن أبي هريرة. ومن حديث محمد بن حميد عن زياد الخطمي عن أبي هريرة به. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن جامع عن أبي وائل عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه فيتبعه فيقول أنا كنزك } ثم قرأ عبدالله مصداقه من كتاب الله { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة }.وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد زاد الترمذي: وعبدالملك بن أعين كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن عبدالله بن مسعود به وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري كلاهما عن أبي إسحق السبيعي عن أبي وائل عن ابن مسعود به ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود موقوفا. { حديث آخر } قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من ترك بعده كنزا مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول: من أنت ويلك فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبع سائر جسده } إسناده جيد قوي ولم يخرجوه. وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبدالله البجلي ورواه ابن جرير وابن مردويه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إلا دعا له يوم القيامة شجاعا يتلمظ فضله الذي منع } لفظ ابن جرير وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا داود عن أبي قزعة عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله الله عنده فيبخل به عليه إلا خرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه }. ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزعة واسمه حجر بن بيان عن أبي مالك العبدي موقوفا ورواه من وجه آخر عن أبي قزعة مرسلا. وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها رواه ابن جرير والصحيح الأول وإن دخل هذا في معناه وقد يقال: إن هذا أولى بالدخول والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تعالى { ولله ميراث السموات والأرض } أي فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عز وجل: فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم { والله بما تعملون خبير } أي بنياتكم وضمائركم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
    +/- -/+  
الأية
181
 
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة } قالت اليهود: يا محمد: افتقر ربك فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } الآية رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم. وقال محمد بن إسحق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق بيت المدارس فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال له أشيع فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر وإنه إلينا لفقير ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا ما أعطاك الربا فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله فأكذبوك ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر } فقال: يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه فجحد فنحاص ذلك وقال: ما قلت ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } الآية. رواه ابن أبي حاتم وقوله { سنكتب ما قالوا } تهديد ووعيد ولهذا قرنه تعالى بقوله { وقتلهم الأنبياء بغير حق } أي هذا قولهم في الله وهذه معاملتهم رسل الله وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
    +/- -/+  
الأية
182
 
قال تعالى { ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد } أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ۗ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
    +/- -/+  
الأية
183
 
قوله تعالى { الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } يقول تعالى تكذيبا لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فتقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله عز وجل { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات } أي بالحجج والبراهين { وبالذي قلتم } أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة { فلم قتلتموهم } أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم { إن كنتم صادقين } أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
    +/- -/+  
الأية
184
 
قال تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } أي لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك فلك أسوة بمن قبلك من الرسل الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة { والزبر } وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين والكتاب المنير أي الواضح الجلي.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
    +/- -/+  
الأية
185
 
يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت كقوله تعالى { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } فهو تعالى وحده الذي لا يموت والجن والإنس يموتون وكذلك الملائكة وحملة العرش وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخرا كما كان أولا وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت فإذا انقضت العدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها قليلها وكثيرها كبيرها وصغيرها فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ولهذا قال تعالى { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } قال ابن أبي حاتم حدثنا عبدالعزيز الأويسي حدثنا علي بن أبي علي الهاشمي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته قال جعفر بن محمد فأخبرني أبي أن على بن أبي طالب قال:أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام. وقوله { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن عبدالله الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئم { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة. وقد رواه بهذه الزيادة أبو حاتم وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن عمرو. هذا ورواه ابن مردويه من وجه آخر فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن يحيى أنبأنا حميد بن مسعدة أنبأنا عمرو بن علي عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها } ثم تلا هذه الآية { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } وتقدم عند قوله تعالى { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ما رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبدالرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه }. وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن وكيع به وقوله تعالى { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة كما قال تعالى { بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى } وقال { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى }. وفي الحديث { والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع إليه } وقال قتادة في قوله تعالى { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } قال: هي متاع متروكة أوشكت والله الذي لا إله إلا هو أن تضمحل عن أهلها فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ولا قوة إلا بالله.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
    +/- -/+  
الأية
186
 
قوله تعالى { لتبلون في أموالكم وأنفسكم } كقوله تعالى { ولنبلونكم بشي من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات } إلى آخر الآيتين. أي لابد أن يبتلي المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ويبتلي المؤمن على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسليا لهم عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين وآمرا لهم بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله فقال تعالى { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله تعالى { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم هكذا ذكره مختصرا. وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال: حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر على مجلس فيه عبدالله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم ابن أبي وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين وفي المجلس عبدالله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبدالله بن أبي أنفة بردائه وقال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن فقال عبدالله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه بلى يا رسول الله فاغشنا به فى مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم { يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب } يريد عبدالله بن أبي قال كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك فذلك الذي فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله تعالى { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } الآية - وقال تعالى { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } الآية. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله له فيهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال عبدالله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام فبايعوا وأسلموا - فكل من قام بحق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر فلابد أن يؤذى فماله دواء إلا الصبر في الله والاستعانة بالله والرجوع إلى الله.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
    +/- -/+  
الأية
187
 
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره فإذا أرسله الله تابعوه فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والحظ الدنيوي السخيف فبئست الصفقة صفقتهم وبئست البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ويسلك بهم مسلكهم فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
    +/- -/+  
الأية
188
 
قوله تعالى { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } الآية يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم { من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة } وفي الصحيحين أيضا { المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور } وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبدالرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال: اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امريء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعين فقال ابن عباس ما لكم وهذه إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } الآية. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه وهكذا رواه البخاري في التفسير ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم في مستدركه وابن مردويه كلهم من حديث عبدالملك بن جريج بنحوه. ورواه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فذكره- وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } الآية. كذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: قال أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت: كنا عند مروان فقال: يا أبا سعيد أرأيت قوله تعالى { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل؟ فقال أبو سعيد: إن هذا ليس من ذاك إنما ذاك أن ناسا من المنافقين يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا فإن كان فيه نكبة فرحوا بتخلفهم وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم وحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح فقال مروان: أين هذا من هذا؟ فقال أبو سعيد: وهذا يعلم هذا؟ فقال مروان: أكذلك يا زيد؟ قال: نعم صدق أبو سعيد. ثم قال أبو سعيد وهذا يعلم ذاك - يعني رافع بن خديج - ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري: ألا تحمدني على ما شهدت لك؟ فقال له أبو سعيد: شهدت الحق فقال زيد: أولا تحمدني على ما شهدت الحق؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم عن رافع بن خديج أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد رضي الله عنهم وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم؟ فقال له ما ذكرناه. ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء لأن الآية عامة في جميع ما ذكر والله أعلم. وقد روى ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري عن محمد بن ثابت الأنصاري أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله والله لقد خشيت أن أكون هلكت قال { لم؟ } قال نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهير الصوت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة } فقال: بلى يا رسول الله فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب - وقوله تعالى { فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب } يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد وبالياء على الإخبار عنهم أي لا تحسب أنهم ناجون من العذاب: بل لابد لهم منه ولهذا قال تعالى { ولهم عذاب أليم }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
    +/- -/+  
الأية
189
 
قال تعالى { ولله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير } أي هو مالك كل شيء والقادر على كل شيء فلا يعجزه شيء فهابوه ولا تخالفوه واحذروا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه القدير الذي لا أقدر منه.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
    +/- -/+  
الأية
190
 
قال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا يحيى الحماني حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى؟ قالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت هذه الآية { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } فليتفكروا فيها. وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة والله أعلم. ومعنى الآية أن الله تعالى يقول { إن في خلق السموات والأرض } أي هذه في ارتفاعها واتساعها وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص { واختلاف الليل والنهار } أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر. فتارة يطول هذا ويقصر هذا ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز العليم ولهذا قال تعالى { لآيات لأولي الألباب } أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها. وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله فيهم { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
    +/- -/+  
الأية
191
 
وصف تعالى أولي الألباب فقال { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } كما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك } أي لايقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } أى يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وحكمته واختياره ورحمته. وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل والاعتبار. وعن الحسن البصري أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقال الفضيل: قال الحسن: الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك. وقال سفيان بن عيينة: الفكر نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت: إذا المرء كانت له فكـــرة ففي كل شي له عبــــرة وعن عيسى عليه السلام أنه قال: طوبي لمن كان قيله تذكرا وصمته تفكرا ونظره عبرا. قال لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألهم للفكرة وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة. قال وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرىء قط إلا فهم ولا فهم امرؤ قط إلا علم ولا علم امرؤ قط إلا عمل. وقال عمر بن عبدالعزيز: الكلام بذكر الله عز وجل حسن والفكرة في نعم الله أفضل العبادة. وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم وشاهدوا الموقف بقلوبكم وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامها وأطباقها وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعا من بين أصحابه قد ذهب عقله. وقال عبدالله بن المبارك: مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة فناداه فقال: يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر. كنز الرجال وكنز الأموال. وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: { كل شيء هالك إلا وجهه } وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تفكير خير من قيام ليلة والقلب ساه. وقال الحسن البصري: يا ابن آدم كل في ثلث بطنك واشرب في ثلثه ودع ثلثه الآخر تتنفس للفكرة. وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة. وقال بشر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه وقال الحسن عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر. وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت وكن في الدنيا ضعيفا واتخذ المساجد بيتا وعلم عينيك البكاء وجسدك الصبر وقلبك الفكر ولا تهتم برزق غد وعن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: أنه بكى يوما بين أصحابه فسئل عن ذلك؟ فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحسين بن عبدالرحمن: نزهة المؤمن الفكــــــر لذة المؤمن العبــــــــــر نحمد الله وحـــــــــده نحن كل على خطـــــــــــــر رب لاه وعمره قــــــــد تقضى وما شعــــــــــــــر رب عيش قد كان فـــــــو ق المنى مونق الزهــــــــر في خرير من العيـــــــو ن وظل من الشجــــــــــــر وسرور من النبـــــــــا ت وطيب من الثمـــــــــــر غيرته وأهلــــــــه سرعة الدهر بالغيــــــــــر نحمد الله وحـــــــــده إن في ذا المعتبــــــــــر إن في ذا لعبـــــــــرة للبيب إن اعتبــــــــــــر وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليهـا وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } ومدح عباده المؤمنين { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض } قائلين { ربنا ما خلقت هذا باطلا } أي ما خلقت هذا الخلق عبثا بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا { سبحانك } أي عن أن تخلق شيئا باطلا { فقنا عذاب النار } أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم وتجيرنا به من عذابك الأليم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
    +/- -/+  
الأية
192
 
قالوا { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع { وما للظالمين من أنصار } أي يوم القيامة لا مجير لهم منك ولا محيد لهم عما أردت بهم.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ
    +/- -/+  
الأية
193
 
{ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } أي داعيا يدعو إلى الإيمان وهو الرسول صلى الله عليه وسلم { أن آمنوا بربكم فآمنا } أي يقول آمنوا بربكم فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } أي بإيماننا واتباعنا نبيك أى استرها { وكفر عنا سيئاتنا } فيما بيننا وبينك { وتوفنا مع الأبرار } أي ألحقنا بالصالحين.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
    +/- -/+  
الأية
194
 
{ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } قيل: معناه على الإيمان برسلك. وقيل: معناه على ألسنة رسلك وهذا أظهر - وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن محمد عن أبي عقال عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفا لا حساب عليهم ويبعث منها خمسين ألفا شهداء وفود إلى الله وبها صفوف الشهداء رءوسهم مقطعة في أيديهم تثج أوداجهم دما يقولون: { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد } فيقول الله: صدق عبيدي اغسلوهم بنهر البيضة فيخرجون منه نقاء بيضا فيسرحون في الجنة حيث شاءوا } وهذا الحديث يعد من غرائب المسند ومنهم من يجعله موضوعا والله أعلم { ولا تخزنا يوم القيامة } أي على رءوس الخلائق { إنك لا تخلف الميعاد } أي لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك. وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحافظ أبو شريح حدثنا المعتمر حدثنا الفضل بن عيسى حدثنا محمد بن المنكدر أن جابر بن عبدالله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله عز وجل ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار } حديث غريب. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقال البخاري رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } الآيات ثم قام فتوضأ واستن ثم صلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح. وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحق الصنعاني عن ابن أبي مريم به ثم رواه البخاري من طرق عن مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته قال: فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر آيات الخواتيم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي قال ابن عباس رضي لله عنهما فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى ففتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح. وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن مالك به ورواه مسلم أيضا وأبو داود من وجوه أخر عن مخرمة بن سليمان به { طريق أخرى } لهذا الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي حدثنا أبو يحيى عن أبي ميسرة أنبأنا خلاد بن يحيى أنبأنا يونس عن أبي إسحق عن المنهال بن عمرو عن علي بن عبدالله بن عباس عن عبدالله بن عباس قال: أمرنى العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الأخيرة حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيري قام فمر بي فقال من هذا؟ عبدالله؟ قلت: نعم قال فمه؟ قلت: أمرنى العباس أن أبيت بكم الليلة قال { فالحق الحق } فلما دخل قال: افرش عبدالله؟ قال: فأتى بوسادة من مسوح قال فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه ثم استوى على فراشه قاعدا قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال { سبحان الملك القدوس } ثلاث مرات ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها. وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه حديثا في ذلك أيضا { طريق أخرى } رواها ابن مردويه من حديث عاصم بن بهدلة عن بعض أصحابه عن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } إلى آخر السورة. ثم قال: { اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا ومن بين يدي نورا ومن خلفي نورا ومن فوقي نورا ومن تحتي نورا وأعظم لي نورا يوم القيامة } وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه. ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا عصاه ويده البيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ فقالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه عز وجل فنزلت { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } قال: فليتفكروا فيها لفظ ابن مردويه. وقد تقدم هذا الحديث من رواية الطبراني في أول الآية وهذا يقتضي أن تكون هذه الآيات مكية والمشهور أنها مدنية ودليله الحديث الآخر قال ابن مردويه: حدثنا علي بن إسماعيل حدثنا أحمد بن على الحراني حدثنا شجاع بن أشرس حدثنا حشرج بن نباتة الواسطي حدثنا أبو مكرم عن الكلبي وهو ابن حباب عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال قول الشاعر: زر غبا تزدد حبا فقال ابن عمر ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت: كل أمره كان عجبا أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال { ذريني أتعبد لربي عز وجل } قالت: فقلت والله إني لأحب قربك وإني أحب أن تعبد ربك فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال { ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علي في هذه الليلة { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } ثم قال { ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها } وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عوف الكلبي عن أبي حباب عن عطاء قال: دخلت أنا وعبدالله بن عمر وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها فسلمنا عليها فقالت: من هؤلاء؟ قال: فقلنا هذا عبدالله بن عمر وعبيد بن عمير قالت: يا عبيد بن عمير ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: ما قال الأول: زر غبا تزدد حبا قالت: إنا لنحب زيارتك وغشيانك قال عبدالله بن عمر: دعينا من بطالتكما هذه أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكت ثم قالت: كل أمره كان عجبا أتاني في ليلتي` حتى دخل معي في فراشي حتى لصق جلده بجلدي ثم قال { يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي } قالت إني لأحب قربك وأحب هواك قالت فقام إلى قربة في البيت فما أكثر من صب الماء ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه قالت ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حجره قالت: ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده قالت ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر ثم قال: الصلاة يا رسول الله فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال { يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟ وما لي لا أبكي وقد نزل علي الليلة { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب } إلى قوله { سبحانك فقنا عذاب النار } ثم قال { ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها }. وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن يحيى بن زكريا عن إبراهيم بن سويد النخعي عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه. وهكذا رواه عبدالله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار عن شجاع بن أشرس به ثم قال: حدثني الحسن بن عبدالعزيز سمعت سنيدا يذكر عن سفيان هو الثوري رفعه قال { من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيها ويله } يعد عشرا - قال الحسن بن عبدالعزيز: فأخبرني عبيد بن السائب قال: قيل للأوزاعي ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرأهن وهو يعقلهن- قال ابن أبي الدنيا: وحدثني قاسم بن هاشم حدثنا علي بن عياش حدثنا عبدالرحمن بن سليمان قال: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل؟ فأطرق هنيهة ثم قال يقرؤهن وهو يعقلهن. { حديث آخر } فيه غرابة. قال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبدالرحمن بن بشير بن نمير حدثنا إسحق بن إبراهيم البستي { ح } قال وحدثنا إسحق بن إبراهيم بن زيد حدثنا أحمد بن عمر وقال: أنبأنا هشام بن عمار أنبأنا سليمان بن موسى الزهري أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ ۗ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
    +/- -/+  
الأية
195
 
يقول تعالى { فاستجاب لهم ربهم } أي فأجابهم ربهم كما قال الشاعر: وداع دعا: يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن سلمة رجل من آل أم سلمة قال قالت أم سلمة: يا سول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء. فأنزل الله تعالى { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } إلى آخر الآية: وقالت الأنصار هي أول ظعينة قدمت علينا وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة. ثم قال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الآية. { فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } إلى آخرها. رواه ابن مردويه ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب كما قال تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } وقوله تعالى { أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } هذا تفسير للإجابة أي قال لهم مخبرا أنه لا يضيع عمل عامل منكم لديه بل يوفي كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى وقوله { بعضكم من بعض } أي جميعكم في ثوابي سواء { فالذين هاجروا } أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران { وأخرجوا من ديارهم } أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجئوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ولهذا قال { وأوذوا فى سبيلي } أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده كما قال تعالى { يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } وقال تعالى { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } وقوله تعالى { وقاتلوا وقتلوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه. وقد ثبت في الصحيحين أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي؟ قال: نعم؟ ثم قال: كيف قلت فأعاد عليه ما قال فقال: { نعم إلا الذي قاله لي جبريل آنفا } ولهذا قال تعالى { لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار } أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقوله { ثوابا من عند الله } أضافه إليه ونسبة إليه ليدل على أنه عظيم لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا كما قال الشاعر: إن يعذب يكن غراما وإن يعــ ـط جزيلا فإنه لا يبالــي وقوله تعالى { والله عنده حسن الثواب } أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا. قال ابن أبى حاتم: ذكر عن دحيم بن إبراهيم قال الوليد بن مسلم أخبرني جرير بن عثمان أنا شداد بن أوس كان يقول: أيها الناس لا تتهموا الله في قضائه فالله لا يبغي على مؤمن فإذا أنزل بأحدكم شيئا مما يحب فليحمد الله وإذا أنزل به شيئا مما يكره فليصبر وليحتسب فإن الله عنده حسن الثواب.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ
    +/- -/+  
الأية
196
 
يقول تعالى لا تنظر إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
    +/- -/+  
الأية
197
 
فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا وجميع ما هم فيه { متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } وهذه الآية كقوله تعالى { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } وقال تعالى { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } وقال تعالى { نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ } وقال تعالى { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } أي قليلا وقال تعالى { أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ ۗ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ
    +/- -/+  
الأية
198
 
وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم النار قال بعده{ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار } وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن نصر حدثنا أبو طاهر سهل بن عبدالله أنبأنا هشام بن عمار أنبأنا سعيد أنبأنا يحيى أنبأنا عبدالله بن الوليد الرصافي عن محارب بن دثار عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إنما سموا الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقا كذا لولدك عليك حق } كذا رواه ابن مردويه عن عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعا وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن جناب حدثنا عيسى بن يونس عن عبدالله بن الوليد الرصافي عن محارب بن دثار عن عبدالله بن عمرو قال: إنما سماهم الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق وهذا أشبه والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي عن رجل عن الحسن قال: الأبرار الذين لا يؤذون الذر. وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة عن الأسود قال عبدالله يعني ابن مسعود ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها لئن كان برا لقد قال الله تعالى { وما عند الله خير للأبرار } وكذا رواه عبدالرزاق عن الثوري عن الأعمش به وقرأ { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا ابن أبي جعفر عن نوح بن فضالة عن لقمان عن أبي داود أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له وما من كافر إلا والموت خير له ومن لم يصدقني فإن الله يقول { وما عند الله خير للأبرار } ويقول { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين }.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ
    +/- -/+  
الأية
199
 
يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة أنهم خاشعون لله أي مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم سواء كانوا هودا أو نصارى. وقد قال تعالى في سورة القصص { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين صبروا } الآية. وقد قال تعالى { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به } الآية. وقد قال تعالى { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } وقال تعالى { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } وقال تعالى { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا } وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلا كما وجد في عبدالله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس وأما النصارى منهم يهتدون وينقادون للحق كما قال تعالى { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } إلى قوله تعالى { فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } الآية. وهكذا قال ههنا { أولئك لهم أجرهم عند ربهم } الآية. وقد ثبت فى الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ سورة كهيعص بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعنده البطاركة والقساوسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم. وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال { إن أخا لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه } فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه. وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { استغفروا لأخيكم } فقال بعض الناس يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة فنزلت { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله } الآية. ورواه عبد بن حميد وابن أبى حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم رواه ابن مردويه من طرق عن حميد عن أنس بن مالك نحو ما تقدم. ورواه أيضا ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي { إن أخاكم أصحمة قد مات } فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر أربعا. فقال المنافقون يصلي على علج مات بأرض الحبشة فأنزل الله { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } الآية. وقال أبو داود حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحق حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. وقد روى الحافظ أبو عبدالله الحاكم في مستدركه أنبأنا أبو العباس السياري بمرو حدثنا عبد الله بن علي الغزال حدثنا علي بن الحسن بن شقيق حدثنا ابن المبارك حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن عبدالله بن الزبير عن أبيه قال: نزل بالنجاشي عدو من أرضهم فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن تخرج نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا فقال: لداء بنصر الله عز وجل خير من دواء بنصرة الناس. وفيه نزلت { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله } الآية. ثم قال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { وإن من أهل الكتاب } يعني مسلمة أهل الكتاب وقال عباد بن منصور سألت الحسن البصري عن قول الله { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } الآية. قال هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فاتبعوه وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم واتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم رواه ابن أبي حاتم وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر منهم { رجلا من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي } وقوله تعالى { لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا } أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة منهم بل يبذلون ذلك مجانا ولهذا قال تعالى { أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب } قال مجاهد سريع الحساب يعني سريع الإحصاء.رواه ابن أبي حاتم وغيره.

 
Tafseer Ibn Katheer  تفسير ابن كثير
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
    +/- -/+  
الأية
200
 
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } قال الحسن البصري أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء حتى يموتوا مسلمين وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم وكذلك قال غير واحد من علماء السلف وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات وقيل انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم وروى ابن أبي حاتم ههنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي من حديث مالك بن أنس عن العلاء بن عبدالرحمن عن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط }. وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن أحمد حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي أنبأنا ابن أبي كريمة عن محمد بن يزيد عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال أقبل علي أبو هريرة يوما فقال أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } قلت لا. قال أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها فعليهم أنزلت { اصبروا } أي على الصلوات الخمس { وصابروا } أنفسكم وهواكم { ورابطوا } في مساجدكم { واتقوا الله } فيما عليكم { لعلكم تفلحون }. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور عن مصعب بن ثابت عن داود بن صالح عن أبي سلمة عن أبي هريرة بنحوه وقال ابن جرير حدثني أبو السائب حدثني ابن فضيل عن عبدالله بن سعيد المقبري عن جده عن شرحبيل عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا؟ إسباغ الوضوء على المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط } وقال ابن جرير أيضا حدثني موسى بن سهل الرملي حدثنا يحيى بن واضح حدثنا محمد بن مهاجر حدثني يحيى بن زيد عن زيد بن أبي أنيسة عن شرحبيل عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟ قلنا بلى يا رسول الله قال { إسباغ الوضوء في أماكنها وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط }. وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن علي أنبأنا محمد بن عبدالله بن سلام البرنوثي أنبأنا محمد بن غالب الإنطاكي أنبأنا عثمان بن عبدالرحمن أنبأنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي أيوب قال: وفد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال { هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم ب الأجر؟ قلنا نعم يا رسول الله وما هو؟ قال { إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة } قال { وهو قول الله { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } فذلك هو الرباط فى المساجد } وهذا حديث غريب من هذا الوجه جدا. وقال عبدالله بن المبارك عن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير حدثني داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمة بن عبدالرحمن يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية { اصبروا وصابروا ورابطوا } قال قلت لا قال: إنه لم يكن يا ابن أخى في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة رواه ابن جرير وقد تقدم سياق ابن مردويه له إنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه والله أعلم وقيل المراد بالمرابطة ههنا مرابطة الغزو في نحو العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها }. { حديث آخر } روى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان } { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا إسحق بن إبراهيم حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح أخبرني أبو هانئ الخولاني أن عمرو بن مالك الحيني أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول { كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر }. وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هانئ الخولاني وقال الترمذي حسن صحيح وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا. { حديث آخر } قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحق حدثنا حسن بن موسى وأبو سعيد وعبدالله بن يزيد كلهم عن عبدالله بن لهيعة حدثنا مشرح بن عاهان سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { كل ميت يختم له على عمله إلا المرابط في سبيل الله يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن الفتان }. رواه الحارث بن محمد بن أبي الهامة في مسنده عن المقري وهو عبدالله بن زيد إلى قوله { حتى يبعث } دون ذكر { الفتان } وابن لهيعة إذا صرح بالتحديث فهو حسن ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد. { حديث آخر } قال ابن ماجه في سننه حدثنا يونس بن عبدالأعلى حدثنا عبدالله بن وهب أخبرني الليث عن زهرة بن معبد عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من مات مرابطا في سبيل الله أجرى عليه عمله الصالح الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن عن الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع الأكبر } { طريق أخرى } قال الإمام أحمد حدثنا موسى أنبأنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من مات مرابطا وقى فتنة القبر وأمن من الفزع الأكبر وغدا عليه ريح برزقه من الجنة وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة } { حديث آخر } قال الإمام أحمد حدثنا إسحق ابن عيسى حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي عن أسحق بن عبدالله عن أم الدرداء ترفع الحديث قالت { من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة } { حديث آخر } قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا كهمس حدثنا مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير قال: قال عثمان وهو يخطب على منبره: إنى محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها }. وهكذا رواه أحمد عن روح عن كهمس عن مصعب بن ثابت عن عثمان وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن مصعب بن ثابت عن عبدالله بن الزبير قال: خطب عثمان الناس فقال: أيها الناس إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم وبصحابتكم فليختر مختار لنفسه أو ليدع سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة قيامها وصيامها } { طريق أخرى } عن عثمان رضي الله عنه قال الترمذي حدثنا الحسن بن علي الخلال حدثنا هشام بن عبدالملك حدثنا الليث بن سعد حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال: سمعت عثمان وهو على المنبر يقول: إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار امرؤ لنفسه ما بداله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل } ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه قال محمد يعني البخاري أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث والله أعلم وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبدالله بن لهيعة وعنده زيادة في آخره فقال يعني عثمان { فليرابط امرؤ كيف شاء } هل بلغت؟ قالوا نعم قال اللهم اشهد { حديث آخر } قال أبو عيسى الترمذي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان حدثنا محمد بن المنكدر قال: مر سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط وهو في مرابطة له وقد شق عليه وعلى أصحابه فقال: ألا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بلى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { رباط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال خير- من صيام شهر وقيامه ومن مات فيه وقى فتنة القبر ونمى له عمله إلى يوم القيامة }. تفرد به الترمذي من هذا الوجه وقال هذا حديث حسن وفي بعض النسخ زيادة وليس إسناده بمتصل: وابن المنكدر لم يدرك سلمان { قلت } الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة كلاهما عن شرحبيل بن السمط وله صحبة عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان }. وقد تقدم سياق مسلم بمفرده { حديث آخر } قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا محمد بن يعلى السلمي حدثنا عمرو بن صبيح عن عبدالرحمن بن عمرو عن مكحول عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { حرس ليلة وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان اعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال -: من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن رده الله تعالى إلى أهله سالما لم يكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجري عليه أجر الرباط إلى يوم القيامة }. هذا حديث غريب من هذا الوجه بل منكر وعمر بن صبيح متهم { حديث آخر } قال ابن ماجه: حدثنا عيسى بن يونس الرملي حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سعيد بن خالد بن أبي طويل سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { حرس ليلة في سبيل الله خير من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة السنة ثلثمائة يوم واليوم كألف سنة }. وهذا حديث غريب أيضا وسعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم: روى عن أنس أحاديث موضوعة. { حديث آخر } قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن الصباح أنبأنا عبدالعزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة عن عمر بن عبدالعزيز عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { رحم الله حارس الحرس } فيه انقطاع بين عمر بن عبدالعزيز وعقبة بن عامر فإنه لم يدركه والله أعلم. { حديث آخر } قال أبو داود: حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية يعني ابن سلام حدثني السلولي أنه حدثه سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين حتى كانت عشية فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال { تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله } ثم قال { من يحرسنا الليلة } قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله قال { فاركب } فركب فرسا له فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم { استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا تغز من قبلك الليلة } فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين فقال { هل أحسستم فارسكم } فقال رجل: يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال { أبشروا فقد جاءكم فارسكم } فجعلنا ننظر فى خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني فلما أصبحنا طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم { هل نزلت الليلة؟ } قال: لا إلا مصليا أو قاضي حاجة فقال له { أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها } ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عبدالرحمن بن شريح سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول: سمعت أبا عامر البجيني. قال الإمام أحمد: وقال غيره زائدا أبا علي الحنفي يقول: سمعت أبا ريحانة يقول كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأتينا ذات ليلة إلى شرف فبتنا عليه فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض يدخل فيها ويلقي عليه الجحفة يعني الترس فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس نادى } من يحرسنا هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل{ ؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله قال: { ادن } فدنا منه فقال { من أنت؟ } فتسمى له الأنصاري ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء فأكثر منه قال أبو ريحانة: فلما سمعت ما دعا به قلت أنا رجل آخر فقال { ادن } فدنوت فقال { من أنت ؟ } قال: فقلت أبو ريحانة فدعا بدعاء دون ما دعا به للأنصاري ثم قال: { حرمت النار على عين دمعت - أو بكت - من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله }. وروى النسائي منه { حرمت النار } إلى آخره عن عصمة بن الفضل عن زيد بن الحباب به وعن الحارث بن مسكين عن ابن وهب عن عبدالرحمن بن شريح به وأتم وقال في الروايتين: عن أبي علي البجيني. { حديث آخر } قال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا بشر بن عمار وحدثنا شعيب بن زريق أبو شيبة عن عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس فى سبيل الله }. ثم قال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن زريق قال: وفى الباب عن عثمان وأبي ريحانة { قلت } وقد تقدما ولله الحمد والمنة. { حديث آخر } قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين عن زياد عن سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من حرس من وراء المسلمين متطوعا لا بأجرة سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله يقول: وإن منكم إلا واردها }. تفرد به أحمد رحمه الله. { حديث آخر } روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان فى الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع } فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام ولله الحمد على جزيل الإنعام وعلى تعاقب الأعوام والأيام. وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا مطرف بن عبدالله المديني حدثنا مالك بن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله له بعدها فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } وهكذا روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبدالله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة قال: أملي على عبدالله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وودعته للخروج وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة وفي رواية سنة سبع وسبعين ومائة. يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعـب من كان يخضب خده بدموعــــه فنحورنا بدمائنا تتخضـــــب أو كان يتعب خيله في باطــل فخيولنا يوم الصبيحة تتعــب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينــا قول الصحيح صادق لا يكـــذب لا يستوي غبار خيل الله فـي أنف امريء ودخان نار تلهــب هذا كتاب الله ينطق بيننــا ليس الشهيد بميت لا يكـــذب قال فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبدالرحمن ونصحني ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال قلت: نعم قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبدالرحمن إلينا وأملى على الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة: إن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال { هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ } فقال يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم { فوالذى نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله أو ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات{ ؟ وقوله تعالى { واتقوا الله } أي في جميع أمواركم وأحالكم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن { اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن } { لعلكم تفلحون } أي في الدنيا والآخرة - وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في قول الله عز وجل { واتقوا الله لعلكم تفلحون } يقول: اتقوني فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون يقول: غدا إذا لقيتموني - انتهى تفسير سورة آل عمران ولله الحمد والمنة نسأله الموت على الكتاب والسنة آمين.
.

نهاية تفسير السورة - تفسير القرآن الكريم
End of Tafseer of The Surah - The Holy Quran Tafseer



 


© EsinIslam.Com Designed & produced by The Awqaf London. Please pray for us